(ترجمة: مالك أبوشهيوة ومحمود محمد خلف، الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان، الطبعة الأولى، 1999) يندرج هذا الكتاب في إطار الدراسات الثقافية والكتابات ما بعد الكولونيالية التي سادت بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. إلا أنه يقدم منظورا مختلفا قوامه أن التمايز الثقافي يؤدي إلى توليد صراع أبدي بين الكيانات الثقافية الكبرى التي يتشكل منها العالم. هكذا يشير المؤلف في مقدمته للكتاب؛ إنه"يعنى بتفسير تطور السياسة العالمية بعد الحرب الباردة" أي تقديم "إطار تفسيري أو براديغم في النظرة إلى السياسة العالمية تكون ذات معنى للباحثين ومفيدة بالنسبة لصانعي السياسة". وقد تم تقسيم الكتاب إلى خمسة أجزاء يتضمن كل جزء العديد من الفصول وهو غني من حيث المراجع المعتمد عليها وينطوي على عدد كبير من التفاصيل والأرقام، ويقع في حوالي ستمائة صفحة. أما الجزء الأول والثاني المعنون ب"عالم من الحضارات وتوزيع الثقافات" فقد خصص لعرض أطروحته: "إن الثقافة أو الهوية الثقافية -وفي أوسع معانيها الهوية الحضارية- هي التي تشكل نماذج التماسك والتفكك والصراع في عالم ما بعد الحرب الباردة"، لأن الشعوب تفهم نفسها وتعرفها في شكل النسب العرقي، الديانة، اللغة، التاريخ، القيم، العادات، المؤسسات، ولذلك فالسياسة العالمية تعكس العلاقات الحضارية، بحيث تشكل العلاقة بين الدول الكبرى والصغرى في إطار حضارة معينة ما أسماه ب "الدولة-النسب". كما أن التاريخ البشري هو تاريخ الحضارات، لذلك فإن أسباب انبثاق وصعود وضعف وسقوط الحضارات كان موضوع دراسة عدة مؤرخين- علماء اجتماع وأنثربولوجيين: دوركايهم، سبنجلر، توينبي..، وتتجلى خصائص الحضارات فيما يلي: إنها كيانات ذات معنى- فانية لكنها معمرة –النظم السياسة آليات لصونها وتطويرها –الديانة خاصية أساسية فيها. وقد عرفت العلاقات بينها مواجهات بادية وأخرى مضمرة، لكنها في عمومها مهدت السبيل لتغلب الغرب نظرا لتفوقه -بالإضافة إلى الأفكار والقيم- في تطبيق "العنف المنظم". حيث انطلقت المجتمعات غير الغربية في تحديد هوياتها وأصبح النظام الدولي متعدد الحضارات، والدين أصبح يحتل دورا مركزيا. ويتعلق الجزء الثالث والرابع بشرح وتفسير كيفية بروز نظام الحضارات، حيث بدأت الشعوب تتلمس الطريق نحو التجمعات في إطار سياسات الهوية، إذ إن الالتزامات الثقافية آخذة في أن تحل محل كتل الحرب الباردة، فالهوية الثقافية أصبحت تحدد مكان الدولة في السياسة العالمية وتحدد أصدقاءها وأعداءها، كما أن الهوية عند أي مستوى شخصي، قبلي، حضاري تستطيع فقط أن تتحدد بعلاقتها بالغير، ومن أجل التحديد بالهوية، فإن البشر جبلوا على خلق أعداء وكراهيتهم"نحن لا نعرف من نحن إلا إذا عرفنا ما لسناه، وفي الغالب ضد من نحن". وكل الحضارات لها "دول أساس" إلا الإسلام فهو "مجموعة وعي دون تماسك"، لأن تركيب الولاءات فيه به ثغرة في الوسط (الإيمان العظيم- الولاء للأمة) عكس الغرب المتميز بالدول القومية. ويعد غياب هذه "الدولة الأساس" مصدر ضعف للإسلام وتهديد للحضارات الأخرى. وتناول الجزء الخامس مستقبل الحضارات؛ فكل حضارة لديها وهم الخلود على اعتبار أنها الأفضل، وحرب كبرى ليست حتمية. وانهيار تدريجي للغرب وتمنيه الصلة بين العالمية والإمبريالية، وهذا مصدر خطر يمكن أن يقود لحرب بين الدول الأساس، كما قد يقود إلى انهزام الغرب. ورغم أن كل حضارة تدخل في عملية مشابهة من الانبثاق والانهيار، فإن الغرب فريد ومختلف. وفي المرحلة المقبلة فإن تجنب حروب حضاراتية متداخلة كبرى يتطلب من الدول الأساس كبح التدخل في صراع حضارات أخرى. ومستقبل كل من السلام والحضارة يعتمد على الفهم والتعاون بين القيادات السياسية والروحية والفكرية للحضارات الكبرى في العالم. ويعد صدام الحضارات التهديد الخطير للسلام في العالم ونظام دولي مؤسس على العزل بين الحضارات هو الضمان الأكيد ضد حرب العالم. من خلال قراءة هذا الكتاب الذي يغترف من معين الهيجيلية(جدلية العبد والسيد) ويمتح من أحكامErnest Renan المبتسرة والقاسية عن الشرق والعقلية السامية، يتبين أن هنتنغتون يقسم العالم إلى ثمان حضارات كبرى، ويفسر الصراعات القائمة في العالم استنادا على هذا التقسيم، ويجعل من الإسلام الحضارة الأكثر دموية. إلا أن هذه الأفكار سرعان ما لقيت نقدا وتفنيذا على مستوى العالم حيث انبرى لها مفكرون في الغرب والشرق مبينين مزالقها ومثبتين تهافتها؛ ومن بين أهم تلك الدراسات نجد كتابHarald Müller المعنون ب "تعايش الثقافات". والحق أن مشروع هنتنغتون- حسب هارلد موللر- لا يعدو كونه مجرد "تأويل للعالم"، يقدم تبسيطا لعالمنا الفسيفسائي المعقد المعاصر( )، بيد أن هذا التبسيط يحتوي أخطاء امبريقية(empirique)كثيرة، ومن ذلك يثور شك حاسم حول إمكانية أن يكون هذا البناء الفكري فعالا كما يدعي هنتنغتون. والتاريخ يقدم لنا الكثير من النظريات التي قادت منظريها وممارسيها إلى التهلكة( ). وقد أوقع ذلك هنتغتون في مجموعة من الملاحظات الضالة والمشبوهة منها أن الثقافات لا تعد لاعباً سياسياً فاعلاً، ولا تستطيع أن تكون فاعلة في السياسة الدولية مباشرة، ولذلك فإن الحديث عن صراع الثقافات لا يعدو كونه مجازاً لا يميز واقعاً سياسياً ممكناً( )، وأيضا استنتاجه بأن حدود الإسلام دموية، وفي ذلك إشارة مباشرة إلى أن الإسلام ثقافة ميالة للعنف والانغلاق بشكل خاص. إن الحضارة الإسلامية كانت منذ قيامها ولا تزال ملتقى حضارات وثقافات ونظم قيم، والدليل على ذلك أن الغرب نفسه تعرف على الموروث الفكري اليوناني عن طريق العقل العربي الإسلامي الذي لم يكن في مواقفه تابعا لا لأفلاطون ولا لأرسطو ولا لأفلوطين تبعية مطلقة، بل كان مؤولا لمتون القدامى بحسب الحاجة والغاية المنشودة، فكان بفعله هذا في المتن أشبه بفعل النساج في النسيج. وفي إطار نقده لهذا الموقف يذهب موللر إلى أنه"من المستحسن لنا أن نكون أكثر انفتاحا بدلا من التعصب تجاه الآخرين، وأننا نستطيع أن نتعلم من تجارب الآخرين"( ). فإذا كانت الأنتربولوجيا تعلمنا أن لكل مجتمع خصوصياته التي تميزه عما ليس هو، فإن التاريخ يدلنا على أن كل مجتمع انغلق على نفسه يكون مصيره الزوال والتلاشي. ويستفاد من ذلك أن علاقات التشنج بين بعض الثقافات دليل على استغلال الثقافة لتحقيق مآرب أخرى، لذا ينبغي التحلي بثقافة الحوار ومسلك التسامح ودرء آفة الانغلاق والتقوقع على الذات، بغية الانفتاح والإسهام في إغناء "الهجنة الثقافية" على حد تعبير "Homi Bhabha" في كتابه القيم"مواقع الثقافة"، يجب على كل ثقافة أن تعامل نظيرتها الأخرى كغاية لا كوسيلة" بحيث يقبل كل نسق ثقافي من خصومه النوع نفسه من الحجج الذي يقبله لنفسه( ).. وغني عن البيان أن الحوار بين الحضارات يقتضي النضال من أجل توازن المصالح في الاقتصاد كما في اللغات والثقافات، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون منافسة شريفة قوامها مبدأ يقول: في المسافة الفاصلة بين وجود العالم والكيفية التي بها يتصور الناس ذلك العالم، هنالك مجال فسيح للتفلسف والتأويل والإبداع، فلا اجتهاد بغير إجهاد ولا بقاء بغير عطاء.