لا يزال المَرَدة من الجِن يرسفون في أغلالهم ببركة هذا الشهر العظيم ..ولربّما بدأوا يعدّون على أصابعهم المعروقة الطويلة الأظافر ما تبقَّى من مُدَّة سجنهم الشهرية وهم يُقيِّمون أداء الصِّغار من الشياطين الذين ينعمون بحقوق التنقُّل والتملُّك والوسْوسة والخُنُوس داخل النفوس البشرية طيلة أيام شهر رمضان ! إنما شياطين الإنس ؛ كبارهم وصغارهم ، سيِّما المُتنكِّرين في أزياء الصلاح ..أدعياء الاستقامة الذين يلهجون آناء والليل وأطراف النهار بإحياء الحقِّ وإقامة العدْل والقسطاس وإعادة صياغة الشعوب !! والتباهي بمشاريع المسيرة القاصدة وهم يُديرون دفَّةَ سفينة الحياة ربابِنةً مُتخمين تتجشَّأ الضفافُ والأرصفةُ قهقهاتِهم المُترَعة بالبحبوحة ورغد العيش وصياحهم الشارب من ينابيع الجِدَة والفراغ العريض ..الخافضين جناح الذُّل للسُّلطة والجاه .. رافعين حواجب الدهشة من تذمُّر الكفاف وسقط المتاع وجزَع الجُثث الغرقى الطافية التي لم يُبحروا إلاَّ باسمها – كما تفضَّلوا – ولم يركبوا الموجَ الزاخر وعُباب البحر المائج ؛ إلاَّ لأجل إنقاذها من لحود القاع ! إنما أياديهم التي يبطشون بها رغم السلاسل مُطْلقة .. وأرجلهم التي يدوسون بها محرَّرة ..وأعينهم التي يتلصَّصون بها مُبصرة ..وأذيالهم التي يضربون بها منتصبة ..وأصابعهم التي يفقأون بها أعينَ الحقيقة مُشْهَرَة .. وحلاقيمهم التي يسحتون بها مُشرَعة !! ولكن كُلَّ هذه البلايا المُسلَّطة لم تنتقص من فرحة الصائمين المخلصين شيئاً ..لم تَنَلْ عكورتُها من الماء القراح السائغ لذَّةً للشاربين .. لم تفسد روائحُها موائدَ اليقين ..لم تزلْزل عروشَ الإيمان الراسخة ..ولم تنسخ الكلمَ الشكور : ذهب الظمأ وابْنلَّت العروق ..ولم تحجب دُعاء المظلوم عن الواحد الأحد ، الفرد الصَّمَد الديَّان العظيم ! فهاهي المآذن تعطِّر العشيَّات والأسحار بآيِّ الذكر النديَّات ..وأسراب القلوب تهفو لأوكار السكينة والطمأنينة آيبةً تائبةً تنشُد الرحمة والمغفرة والعِتْق من النار ..تسبِّح بحمد الذي يُمهل ولا يُهمل ! متى ما تحلَّلت النفوس العطشى من مخيط الدَّنَس وأحرمت بالنوايا البِيض مُلبيَّةً نداءَ المسير إلى بقعة العفو والرضوان ؛ ألقتْ وراءها دواعي القنوط والسَّخط من فعل الظُلم الآدمي المتمثِّل في الجشع والاحتكار والإقصاء والقهر والفساد المَحْمي إلاَّ من القضاء الربَّاني ..! ألقت وراءها ابتزاز السوق والسُوقَة وعهر التسلُّط ولَيَّ الذراع وخبث الترويض والتدجين وخبائث الاستغلال والاستغفال وخوازيق الفقر والحاجة وغلبة الدين وقهر الرجال ! باختصارٍ ألقتْ وراء ظهرها معنى أن يكون الوطن بقرةً حلوباً والمواطن مُمْسكاً بقرونها بينما ينعم الأشرار بالحليب الكامل الدَّسم وهم يروون متى ما جفَّ الضرع أو ريثما درَّ قصتَهم الأثيرة مع ليلة القدْر : مسَحَ شفتَه العُليا بطرف لسانه في نصف دائرة ثم زفر ثم سخَط ولعن ، ثم قال : - إنَّها بقرتي الحلوب ! قيل له : الموصوف أسمى وأنبل من هذه اللغة النَّفْعيَّة المحضة ! شفَط سائلَه الأسود الموسوم حركيَّاً بالقهوة كما شفط معه قدراً كبيراً من شاربِه درءَاً للشبهات المحفوفة بالمخاطر ، في اللحظة التي برزتْ فيها ذقنُه قليلاً إلي الأمام لتظلَّ هكذا زُهاء عقدين أو يزيد مِن اللعب على الذقون ..تحسَّس كرشه التي أطلقتْ صافرات إنذارها كمنطقةِ تماس حَمِىَ وطيسُها فتقرَّر إخلاءُها بأقصى درجات السرعة ، لا لشئٍ فقط ليُدخلَ إلي وعاءِه نَفَساً واحداً ..فقد تكاثرتْ اللُّقَيْمات وتناسلتْ فيما بينها عندما فتح الأُنسُ شهيَّة الالتهام ممَّا يلي وممَّا لا يلي ، أضلاعاً متبَّلةً ومَرقاً و ثريدا ! عاد على ظهرِ دبَّابةِ تجشأةٍ وقال حامداً وهو يتقلَّب على فراش هذيانه الوثير : - عندما قيل لنا (إنَّها بقرة ) لم نسأل عن صفاتها .. فما بالنا نسأل – يا أغواك الله – عن أشياء إنْ بدتْ لنا ؛ جشَّمتْنا العَنَت والمشقَّة والبحث والتنقيب ! الآن يُمكنكم أنْ تُطلقوا عليها ما شئتم أيها الفلاسفة ولكنها ستظلّ بقرتي الحلوب ، ومَنْ لم يُسهمْ في رعايتها والعناية بها ساوصمُهُ بالخروج عن طاعتي ، وستُصيبه – لا محالة – لعنةُ البقرة المقدَّسة ! أمَّا إذا خرجتْ من حظيرتي ذات وليمةٍ كهذه – مثلاً- فالأمرُ لا يعدو أن يكون غفلةً مني أو انشغال ببعض زينة الحياة الدنيا ! وفي هذه الحالة لا بدَّ من تضافر الجهود والاتَّفاق على كلمةٍ سواء أيَّها المبعثرون الأوباش حتى تُعيدوا إلىَّ سيرتي الأولى ! فهل تستطيعون على ابتزازي هذا صبرا ؟! فلا نامتْ أعينُكم أيَّها الجبناءُ إنْ لم تُعيدوا إلىَّ أصائلَ الخُوار الرغيدة ذات الملابس البيض الشفيفة ..ثكلتكم أُمَّهاتكم إنْ لم تُرجعوا إلىَّ رائحة اللبن الطازة واحتلاب الشهد من ضرع الشموس ! فاللعنةُ خلفكم والعدو أمامكم والبقرةُ بقرتي وحدي أنا ! هل تفهمون ؟هذا أو الجحيم وإنْ تمزَّقتْ أوصالُ خطاكم في دروب التائهين ، وإنْ أكلتْ ظهورَكم ضباعُ الغدْرِ المهين .. وإن أنكرتكم الصُّوى الجاحدة طُرَّاً وإنْ أرجلتْكم عن صهوات الإياب الخائبة لا متحرِّفين ولا متحيِّزين ..وإنْ أوقفتْكم لافتةٌ تقول :(بيت ابوك كان خِرِبْ شيلَّكْ منَّو شليَّة ! ) وإنْ حوَّلتْكُم – بفضل الطين والكدر – إلى غنيمةٍ جاءتْ قانعةً من غنيمة !! بل سلبتْكم النَّعال والأقدام ثم قالتْ : (ولّوا أدبارَكم أنَّى شئتم )!! أريدكم فقط أنْ تردُّوا إلىَّ خوارَ الأصائل ..أنْ تُعيدوا إلىَّ بقرتي الحلوب .. فأنا رجلٌ – يا لعنكم الله – لا يؤمن إلاَّ باللَّبَن .. اللَّبَن !!! هذا ونسألك اللهمَّ أن تقبل صلاتنا وصيامَنا ودعاءنا .. وأنْ تمدُد حبالَ صبرِنا ..اللهمَّ لا تجعلنا من الذين يرتجونك في ليلة القدْر أن تمنحهم (حبال بلا بقر) .. اللهمَّ إنَّك عفُوٌّ كريمٌ تُحبُّ العفْوَ فاعْفُ عنَّا . [email protected]