ضربة موجعة لمليشيا التمرد داخل معسكر كشلنقو جنوب مدينة نيالا    مدير مستشفي الشرطة دنقلا يلتقي وزير الصحة المكلف بالولاية الشمالية    شاهد بالفيديو.. شاعرة سودانية ترد على فتيات الدعم السريع وتقود "تاتشر" للجيش: (سودانا جاري في الوريد وجيشنا صامد جيش حديد دبل ليهو في يوم العيد قول ليهو نقطة سطر جديد)        ضياء الدين بلال يكتب: نحن نزرع الشوك    بالصور.. اجتماع الفريق أول ياسر العطا مساعد القائد العام للقوات المسلحة و عضو مجلس السيادة بقيادات القوة المشتركة    أقرع: مزايدات و"مطاعنات" ذكورية من نساء    وزير خارجية السودان الأسبق: علي ماذا يتفاوض الجيش والدعم السريع    محلية حلفا توكد على زيادة الايرادات لتقديم خدمات جيدة    شاهد بالفيديو.. خلال حفل حاشد بجوبا.. الفنانة عشة الجبل تغني لقادة الجيش (البرهان والعطا وكباشي) وتحذر الجمهور الكبير الحاضر: (مافي زول يقول لي أرفعي بلاغ دعم سريع)    شاهد بالفيديو.. سودانيون في فرنسا يحاصرون مريم الصادق المهدي ويهتفون في وجهها بعد خروجها من مؤتمر باريس والقيادية بحزب الأمة ترد عليهم: (والله ما بعتكم)    غوتيريش: الشرق الأوسط على شفير الانزلاق إلى نزاع إقليمي شامل    أنشيلوتي: ريال مدريد لا يموت أبدا.. وهذا ما قاله لي جوارديولا    سوداني أضرم النار بمسلمين في بريطانيا يحتجز لأجل غير مسمى بمستشفى    محاصرة مليوني هاتف في السوق السوداء وخلق 5 آلاف منصب عمل    غوارديولا يعلّق بعد الإقصاء أمام ريال مدريد    امين حكومة غرب كردفان يتفقد سير العمل بديوان الزكاة    نوير يبصم على إنجاز أوروبي غير مسبوق    تسلا تطالب المساهمين بالموافقة على صرف 56 مليار دولار لرئيسها التنفيذي    مناوي ووالي البحر الأحمر .. تقديم الخدمات لأهل دارفور الموجودين بالولاية    محافظ بنك إنجلترا : المملكة المتحدة تواجه خطر تضخم أقل من الولايات المتحدة    منتخبنا يواصل تدريباته بنجاح..أسامة والشاعر الى الإمارات ..الأولمبي يبدأ تحضيراته بقوة..باشري يتجاوز الأحزان ويعود للتدريبات    بايرن ميونخ يطيح بآرسنال من الأبطال    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    العين يهزم الهلال في قمة ركلات الجزاء بدوري أبطال آسيا    مباحث المستهلك تضبط 110 الف كرتونة شاي مخالفة للمواصفات    قرار عاجل من النيابة بشأن حريق مول تجاري بأسوان    العليقي وماادراك ماالعليقي!!؟؟    الرئيس الإيراني: القوات المسلحة جاهزة ومستعدة لأي خطوة للدفاع عن حماية أمن البلاد    بعد سحق برشلونة..مبابي يغرق في السعادة    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    خلال ساعات.. الشرطة المغربية توقع بسارقي مجوهرات    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    وزير الخارجية السعودي: المنطقة لا تحتمل مزيداً من الصراعات    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تقرير: روسيا بدأت تصدير وقود الديزل للسودان    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحَامِضُ مِنْ رَغْوَةِ الغَمَام [الأخيرة]
نشر في حريات يوم 16 - 07 - 2015


مَائَةُ عامٍ مِنْ عُزْلَةِ الدُّرُوسِ المُهْدَرَة
(مَبْحَثٌ فِي قِيمَةِ الاعْتِبَارِ التَّارِيخِي)
بقلم/ كمال الجزولي
"إلى رُوحِ جَدِّي لأمِّي مُحَمَّد وَدْ عَبْدَ الكَريمْ الأَنصَاري الذي
عَاشَ لأكثَرَ مِن نِصفِ قَرْنٍ بَعْدَ (كَرَرِي)، راكِلاً الدُّنيا بِمَا
فِيهَا، ومُتَرَقِّباً القِيامَةَ، فِي كُلِّ مَرَّةٍ، يَومَ الجُّمُعَةِ القَادِمَةْ"!
***
على الحدود مع الحبشة تقلقلت فجأة الأوضاع التي ظلت هادئة طوال عامين
كان الخليفة خلالهما متردِّداً بإزاء الحديث الشَّريف: "أتركوا الحبش ما تركوكم"!
لو أن الأمر بيدي لأضفت رسالة يوحنَّا إلى حمدان لديباجة ميثاق الاتحاد
الأفريقي ولنقشتها على الجُّدُر الرِّخاميَّة للقاعة الكبري في مقرِّه بأديس!
الصَّحيح قراءة المهديَّة "ثورة ودولة" في إطار شروطها الزَّمانيَّة والمكانيَّة
والموضوعيَّة والذَّاتيَّة والإقليميَّة والعالميَّة ووعيها بخصائص العصر!
(28)
انتهى الأمر بجيش ود النِّجومي إلى التَّخبُّط في الصَّحراء، يعاني شُحَّ الأقوات، ويتبلغ التَّمر الأخضر المُر ونواه، حسب رسالة من ود النِّجومي نفسه إلى الخليفة (شبيكة؛ تاريخ شعوب ..، ص 723)، مِمَّا أفضى بالجُّنود إلى السِّرقة والنَّهب المسلح (القدَّال؛ تاريخ ..، ص 195)، مثلما ألجأهم لخوض معارك ضارية وهم عطشى، لأيَّام طوال، كي يتسنَّى لهم فتح الطريق إلى النيل، كما حدث في أرقين، مِمَّا أفقدهم قرابة الألف مجاهد (شبيكة، تاريخ شعوب ..، ص 722).
فاقم من مشكلات تلك الحملة، أيضاً، الصِّراع الذي انفجر بين قادتها: ود النجومي ومساعد قيدوم من جهة، وود النِّجومي ويونس الدِّكيم من جهة أخرى؛ وهو الصِّراع الخاص الذي عكس مرارات الصِّراع العام بين "أولاد العرب" و"أولاد البلد"، فضلاً عن ضعف استخبارات الجَّيش، ضغثاً على إبالة، ما جعل الجُّنود يزحفون كالعميان باتجاه عدوٍّ لا يعلمون عنه شيئاً (القدَّال؛ تاريخ ..، ص 195)، بينما هو يعلم عنهم كلَّ شىء، فما كادوا يتحرَّكون حتَّى ".. نشطت جاسوسيَّة وُد هاوس، قائد حامية الحدود في حلفا، متقصِّية أحوالهم وقوَّتهم" (شبيكة؛ تاريخ شعوب ..، ص 721).
أخيراً، وفي تلك الظروف غير المواتية، وقع الالتحام في توشكي، في أغسطس 1898م، في معركة "كسر عظم" افتقرت إلى أدنى مقوِّمات التَّكافؤ، حتَّى أن جرانفيل باشا، سردار الجَّيش المصري، طلب، قبلها، من ود النِّجومي التَّسليم، اتِّقاء الموت أو الأسر. لكن الأمير العظيم الذي آثر الموت واقفاً ردَّ، بأعمق ما في النُّبل والكرامة من معنى، قائلاً إنه سيجاهد في سبيل الله حتى ينصره أو يفوز بالشَّهادة (نفسه، ص 724).
وكان منطقيَّاً، تماماً، أن يُختتم ذلك المشهد المأساوي بهزيمة الحملة، وباستشهاد ود النِّجومي، فما كان لأولئك الفرسان أن يصيبوا ذرة نصر واحدة، والغبن يعصف بدواخلهم. لقد كانت تلك، في الحقيقة، بداية نهاية "المهديَّة الدَّولة"، خاصَّة وأن زحف حملة كتشنر باتِّجاه أم درمان كان قد بدأ، أصلاً، في 1896م (نفسه).
(29)
أما على الحدود مع الحبشة فقد تقلقلت، قبل ذلك، فجأة، الأوضاع التي ظلت هادئة لما يربو على عامين كان الخليفة خلالهما متردِّداً بإزاء الحديث الشَّريف: "أتركوا الحبش ما تركوكم"، حتى تصدَّى للأمر اسماعيل بن عبد القادر الكردفاني، أحد أبرز فقهاء ومفكري المهديَّة، قائلاً إن ترك قتال الحبش زمن الرَّسول جائز لانشغاله (صلعم) بما هو أهم، ولكنهم في عهد المهديَّة تعدُّوا على دولتها، وقتلوا المسلمين، وهاجموا القبائل، وألزموها بدفع الجِّزية، فقتالهم واجب. وما أن ركن الخليفة لتأويل الكردفاني، حتَّى اشتعلت الجَّبهة الشَّرقيَّة بضراوة، من 1887م إلى 1890م، حيث دفعت المهديَّة إلى هناك بصفوة قواتها: الجِّهاديَّة، وبخيرة قادتها: حمدان أب عنجة، ويونس الدِّكيم، والزَّاكى طمل (القدَّال؛ تاريخ ..، ص 197 199).
في تلك الأثناء وقعت حادثة شديدة الأهميَّة، لانطوائها على ما كان متاحاً لتعايش "المهديَّة الدَّولة" مع جيرانها، في ما لو كان ذلك مشمولاً بمشروعها، وبإدراكها لواقعها الجِّيوبوليتيكي، وبحسابها لميزان القوَّة الدَّولي والإقليمي، إزاء مخاطر التَّغلغل الاستعماري في القارَّة، والذي كان يتهدَّدها هي نفسها بالدَّرجة الأولى. لقد رأى الحبش، في غمرة الحرب، أن الطليان، بعد أن ثبَّتوا أقدامهم في مُصَوَّع، أصبحوا يشكِّلون خطراً عليهم بأكثر من المهديَّة. ورأى يوحنَّا، تبعاً لذلك، أن يسعى لإيقاف حربه مع حمدان اب عنجة حتى يتفرغ للفرنجة؛ فبعث إليه، في ديسمبر 1888م، برسالة بسيطة التعبير، عميقة المعنى، ناضجة الفهم لاستراتيجيَّات الصِّراع في المنطقة، تاريخئذٍ، بمحدِّداته الظاهرة والخفيَّة، وأولويَّاته التي لا يمكن لأيَّة سياسة راشدة أن تغفلها، والخطوط الدَّقيقة الفاصلة بين تناقضاته "الرَّئيسة" و"الثَّانويَّة" في خواتيم القرن التَّاسع عشر، قائلاً:
".. والآن، إذا حضرت أنا إلى بلادكم وأهلكت المساكين، ثم جئتم أنتم إلى بلادنا وأهلكتم المساكين، فما الفائدة .. والواقع أن الإفرنج أعداء لنا ولكم، فإذا غلبونا وهزمونا لم يتركوكم بل خرَّبوا دياركم، وإذا ضربوكم وكسروكم فعلوا بنا ذلك. فالرَّأي الأصوب أن نتَّفق عليهم ونحاربهم ونغلبهم"(شبيكة؛ تاريخ شعوب ..، ص 719).
وتنفذ الرسالة التَّاريخيَّة، من ثمَّ، إلى مطلبها الأساسي، مقترحة تصوُّرها لآفاق التَّقارب المنشود بين البلدين، وتطبيع علاقاتهما، وتعاونهما المشترك، إلى مستوى ينمُّ عمَّا يمكن اعتباره شكلاً باكراً من أشكال الوعي بقضية التَّضامن، بل حتَّى الوحدة الأفريقيَّة، في مواجهة المطامع الإمبرياليَّة، بحيث:
".. يتردَّد التِّجار من أهل بلادنا على المتاجر في بلادكم، وكذلك تجار بلادكم .. على غوندر لأجل المعايش والمكاسب لأهلكم ولأهلنا. فإذا صار كذلك فهو غاية المنفعة لنا ولكم، لأنكم أنتم ونحن .. أولاد جدٍّ واحد، فإذا قاتلنا بعضنا فماذا نستفيد؟! فالأفضل والأصوب .. أن نكون ثابتين في المحبَّة جسداً واحداً، وشخصاً واحداً، ومتَّفقين .. بالشُّورى الواحدة ضدَّ أولئك الذين يحضرون من بلاد الإفرنج والتُّرك وغيرهم .. يريدون أن يحكموا بلادكم وبلادنا، مزعجين لكم ولنا، أولئك أعداؤكم وأعداؤنا، نحاربهم، ونهينهم، ونحرس حدود بلادنا وممالكنا منهم" (نفسه).
تلك رسالة يوحنَّا إلى حمدان. ولو أن الأمر بيدي لأضفتها إلى ديباجة "ميثاق الاتِّحاد الأفريقي"، ولنقشتها على الجُّدُر الرِّخاميَّة للقاعة الكبرى في مقرِّ المنظمة بأديس أبابا، ولجعلتها درساً مقرَّراً في التَّربية الوطنيَّة لأبناء المسيريَّة والدينكا، والهوتو والتُّوتسي، والأمهرا والتِّقراي، والعرب والأمازيق، وكلِّ سلالات العقل الرَّعوى الذي لم يرتقِ، بعدُ، منذ حام وسام ويافث، لإدراك عُشر معشار هذا المعنى كثيف البساطة، عميق النَّفاذ، برغم كرِّ السنين، وتعاقب المحن، وتراكم الهزائم!
لكن عرض يوحنَّا قوبل، للأسف، برفض حمدان، لأن الحبش "ما زالوا على نصرانيَّتهم"، أو كما قال:
".. وأما طلبك الصُّلح منَّا وأنت باق على كفرك فبعيد بُعد المشرقين، ودليل على ضعف عقلك، وفراغ ذهنك، فيا لك من سفيه، ويا لك من جاهل!" (ن شقير؛ تاريخ السودان، ص 744).
توفى حمدان، وخلَفَه الزَّاكي طمل، لكنه انتهج ذات النَّهج المحكوم بقطعيَّات المشروع الإقليمي والعالمي ل "المهديَّة الدَّولة"، وبنصوصيَّته الجَّامدة، حتَّى استنفد كلَّ طاقاته العسكريَّة بعد معركة القلابات في مارس 1889م، فسحب جيشه المنهك، أصلاً، إلى الصَّعيد، ثمَّ إلى أعالى النِّيل، ثم عاد به، مطلع 1893م، إلى القلابات، ومنها إلى القضارف، حيث تمركز حتى منتصف العام (القدَّال؛ تاريخ ..، ص 200)، ثمَّ جرى استدعاؤه إلى أم درمان، بغتة، نتيجة وشاية من بعض خصومه، على الوجه المار ذكره، فألقى القبض عليه ليموت سجيناً.
(30)
لم تتهيَّأ لعلاقات المهديَّة والحبشة دبلوماسيَّة هادئة، بعد كلِّ ما جرى، إلاَّ في أكتوبر 1896م، قبل عامين فقط من كرري، حين بعث الخليفة بأوَّل وفد، برئاسة محمد عثمان حاج خالد، يحمل رسالة منه إلى منليك يدعوه فيها لأنْ يمنع جميع الأوروبيِّين من دخول بلاده كشرط لعقد صلح بينهما (نفسه). ولم يكن منليك، حينها، في موقف ضعف، حيث كان قد وحَّد أثيوبيا، وتوَّج نفسه إمبراطوراً عليها، وهزم الطليان في معركة "عدوة"، فضلاً عن أنه كان هو من بادر باستئناف جهود السَّلام السَّابقة، وكان أحد قوَّاده هو من نبَّه الخليفة إلى الخطر الإنجليزي الزَّاحف إليه قائلاً:
".. وأرجو أن ألفت نظرك لتكون على حذر من الإنجليز الذين دخلوا دنقلا في الشِّتاء، وأن عدوَّك عدوُّنا، وعدوَّنا عدوُّك، فلنكن يداً واحدة في اتِّحاد متين" (نفسه).
وكان الخليفة، على ما يبدو، قد بدأ يستشعر، فعلا، وإنْ متأخِّراً، خطر التغوُّل الاستعماري، فأخذ يعيد حساباته. وفي السِّياق جاء وفده ورسالته إلى منليك الذي كاد يطير فرحاً، فسارع لردٍّ حكيم بأن الاختلافات الدِّينيَّة لا تهمُّ كثيراً، وبرَّر دخول الأجانب بلاده بمقتضيات التِّجارة والمنافع العاديَّة المتبادلة، واقترح إنشاء مواصلات منتظمة بين البلدين. وهكذا عاد وفد الخليفة تصحبه بعثة سلام أثيوبيَّة كبيرة استقبلت في أم درمان بآيات الحفاوة والترحيب (نفسه).
ورغم أن تلك العلاقة المتأخِّرة لم تسفر عن معاهدة صلح، كون السُّرعة التي تلاحقت بها الأحداث جعلت من تلك المعاهدة أمراً شكليَّاً ضئيل القيمة، فإن منليك لم يتردَّد في إرسال رسالتين إلى الخليفة يحذِّره فيهما من زحف كتشنر الذي كان قد بدأ بالفعل، فضلاً عن إرفاقه العلم الفرنسي إليه مقترحاً رفعه لحماية السُّودان من الإنجليز. لكن الخليفة رفض الفكرة!
وعلى العموم فقد انشغل كلا الرَّجلين بهمومه، وما هي إلا أشهر قلائل حتى زلزلت الأرض زلزالها في كرري صباح الثاني من سبتمبر عام 1898م.
(31)
"لو" تفتح عمل الشَّيطان، كونها بوَّابة "الحكمة المؤجَّلة" شديدة الكساد والبوار! فالصَّحيح قراءة المهديَّة "ثورة ودولة" في إطار شرطها الزَّماني، وإمكاناتها الذَّاتيَّة، ومعطيات بيئتها الموضوعيَّة، وظرفها الإقليمي والعالمي، وما أتيح لها من مستوى للوعي بالعصر وبالذَّات، دون أن نغفل، في الوقت نفسه، أهميَّة "الرَّبوة" التي يوفِّرها الابتعاد الزَّماني شيئاً لأجل الإطلال بشكل أفضل على "غابة" الأحداث، لا بعض "أشجارها". وإذن، فليس المطلوب أن تتحوَّل هذه القراءة، كما سبق ونبَّهنا، إلى محاكمة عدميَّة، لاتاريخيَّة، بل أن تنصبَّ على غرضها الأساسي، الأخطر والأجلِّ: استخلاص الدُّروس والعِبَر الجَّوهريَّة.
إن من أفدح ما يفضي إلى تجريف الجَّبهة الدَّاخليَّة السَّاحق، وتعريض الوطن للخطر الأجنبي الماحق، اعتماد النُّخبة الطبقيَّة الحاكمة خطة لقهر المحكومين قائمة في محض عصبيَّة المصالح الضَّيِّقة، اقتصاديَّة كانت، أوعقائديَّة، أو سياسيَّة، أو قبليَّة، أو جهويَّة؛ وإسقاط الشَّأن الدَّاخلي من أجندة الدَّولة لاستلحاقه بمشروع خارجي ما، إقليمي أو عالمي. وثمَّة واقعتان، على الأقل، تثبتان أن النَّزعات "الشُّموليَّة"، في احتمالاتها الأوتوقراطيَّة/الثِّيوقراطيَّة المطلقة، هي التي فرضت تلك الخطة كغاية خيارات "المهديَّة الدَّولة":
الواقعة الأولى: أن الخليفة تراجع، فعليَّاً، ليقبل بمبدأ التعايش الجِّيوبوليتيكي مع الحبشة، متخلياً عن شرطه الصَّارم القديم، القائم في "أسلمتها"، كمقدِّمة لازمة للتطبيع معها، فبدا أكثر واقعيَّة، من زاوية النَّظر السِّياسيَّة، لكنْ متأخِّراً.
الواقعة الأخرى: أن الإفادات الدَّقيقة التي أدلى بها، لاحقاً، إلى المخابرات المصريَّة، التاجر مصطفى الأمين الجَّعلي، كشفت عن أن الإصلاحات التي شرع الخليفة في إدخالها مؤخراً جداً، كتخفيف العبء الضَّريبي، مِمَّا أورد بابكر بدري، فضلاً عن بعض التَّحوُّلات الإداريَّة، والتَّخلص من بعض أساليب القمع، جعلت الحكم أميل للمقبوليَّة من ذي قبل (نفسه، ص 211)، رغم أن جميع تلك الإصلاحات كانت لمَّا تزل أقلَّ بكثير من المطلوب.
ومع أن تلك المراجعات كانت تنطوي، عموماً، على دلالات الاستشعار لجدوى النَّظر في البدائل، آنذاك، إلا أنها كانت تجري ببطء قاتل، وفى السَّاعة الخامسة والعشرين، أي، بالضَّبط، في الوقت غير المواتي. فقد كان السِّردار، في ذات تلك اللحظة التَّاريخيَّة، يهمُّ، وهو في أكمل استعداداته، وأتمِّ خيله وخيلائه، لاقتحام مدخل أم درمان الشَّمالي، وبين ذراعيه سلاحه الجَّديد آنذاك: المكسيم، بينما استغاثة "الحردلو" المفزعة تتردَّد أصداؤها فوق هامات النَّخيل والحراز، تسيل بها الوديان، وتسير بذكرها الرُّكبان:
"ولاد ناساً عُزاز متل الكلاب سوونا
يا يابا النُقُس يا الانجليز ألفونا"!
فمن ذا الذي يتطاول فيصِمُ شاعر الأمَّة ب "الخيانة العظمى"، كونه استغاث بالأجنبي؟! ومن ذا الذي يكابر فيصم الأمَّة ذاتها ب "العمالة" و"الارتزاق"، كون الغزاة كانوا، يومها، مدعومين بقوى حيَّة من كرام قبائلنا، وفي صفوف جيشهم كتائب بأكملها من أهل السُّودان؟! بل من ذا الذي يجادل في أن الهزيمة نفسها لم تقع على أمِّ رأس البلد يوم كرري فقط، وإنَّما ظلت تقع، في الحقيقة، طوال سنوات "المهديَّة الدَّولة"؟! ومن، ترى، ذلك الماجد الذي يستطيع أن يدلنا على ما استوعبنا من دروس، طوال قرن بأكمله، وما أدركنا من عِبَر؟!
ليس "الوطن" محض ركام من صخور، أو مساحات من صحارى أو غابات، أو مسطحات من طين أو رمل، أو مجاري مائيَّة تحفَّها الخضرة هنا أو هناك! "الوطن"، في مبتدئه وخبره، "علاقات"، إن صحَّت صحَّ، وإن فسدت فسد، فحتَّام، ترانا، لا نصيب من الخريف تلو الخريف سوى الحامض من رغوة الغمام .. حتَّام؟!
تمَّت
أغسطس 1998م
***


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.