لما ضاق الخناق على نوري المالكي رئيس وزراء العراق السابق بسبب التحقيق الخاص بتسليم الجيش العراقي مدينة الموصل ومن بعدها تكريت لمليشيات داعش، والفرار عبر البوابة الشرقية تاركين أمتعتهم وأحذيتهم، هرول نوري الهمام نحو إيران ولحقت به أسرته، ليستقبله الملالي ورفسنجاني والرئيس الحالي روحاتي بالأحضان والبساط الأحمر، تماماً مثل البريطاني كيم فيلبي Kim Philbyالذى كان عميلاً للكي جي بي السوفيتية لأكثر من ثلاثين عاماً بينما كان فى نفس الوقت ضابطاً جهبذاً ومتنفذاً بالمخابرات البريطانية MI5 منذ تخرجه فى أكسفورد حتى هروبه من محطته ببيروت متجهاً إلى روسيا عبر سوريا عام 1966، حيث استقر إلى أن وافته المنية فى 11 مايو 1988، قبيل انهيار الاتحاد السوفيتي. وما أن تكشّف أمر المالكي وانفضحت علاقته بالنظام الإيراني بلا لبس أو مواربة أو تقية، حتى عاد المراقبون بالذاكرة لجميع السيناريوهات التى شهدها العراق فيما قبل وطوال سنواته فى رئاسة الوزارة العراقية، علهم يتبينون معالم المخطط الإيراني الذى كانت تشوبه الضبابية والتقية والتمويهات و "التكتكة"، وإذا به الآن كالشمس فى كبد السماء سطوعاً وجلاءً :- لقد كان للمالكي دور أساسي في انسحاب الجيش العراقي من الموصل و في سقوط تلك الحاضرة النفطية الهامة في أيدي الدواعش، فهل كان المالكي يتصرف بمعزل عن كفلائه الإيرانيين الذي يرجع لهم في الصغيرة و الكبيرة؟ وهل كان الإيرانيون جاهلين بما تفعل الدواعش منذ أن كانواعبارة عن مجموعات إرهابية مبثوثة في أرجاء العراق كافة- قبل أن تتركز في مناطقها الحالية؟ و من أين جاءت داعش؟ من كان و ما زال يمولها بالمال و الشباب الطائش مغسول الدماغ المؤدلج الذي لا يعرف الفرق بين كوعه و بوعه، ويحسب أنه يجاهد في سبيل الحق عز و جل، مثل أبناء المغتربين (البيض)؟ ولقد وضح اليوم أن داعش كانت تتحرك بمباركة وتشجيع من المالكي وجماعته، و هؤلاء ما فتئوا مرهونين حتى اليوم للنظام الإيراني – إذن فالجمهورية الإسلامية الفارسية هي القاسم المشترك الأعظم بين المالكي و داعش؛ ولا يقلل من هذه الحقيقة أو يربكها مسرحيات العلاقات العامة والبروبوقاندا بين الفينة و الأخرى التي تحاول أن تظهر إيران كأنها في الجانب المناوئ لداعش، والأصوات الخجولة التي تتلمظ بها شاجبة ما يحدث في حق السنة العراقيين، كمن يقتل القتيل ويمشي خلف نعشه. و لكن، وبقدر ما ندقق النظر في حقيقة الدواعش، بقدرما نلفى أنفسنا غائصين في رمال المنطقة المتحركة، ونجد أنا قد لامسنا تقاطعات أخرى متشابكة تتسلل منها الكوادر الداعشية التي تهدد أمن الشرق الأوسط واستقراره واستقلال دوله الوطنية: - أول هذه التقاطعات هي الأقليات الشيعية المنتشرة في أحشاء الوطن العربي: العلويون بغرب سوريا، وقوم نصر الله بلبنان، و الحوثيون والشيعة الأباضية باليمن وجنوب الجزيرة العربية، والأقليات الشيعية النشطة وغير النشطة في البحرين وشرق السعودية وعمان والكويت وباقي شواطئ الخليج الغربية. وعلى الرغم من أن هذه الأقليات قد آثرت – حتى الآن – أن تتماهى وتستكين وتنخرط في الدول الخليجية العربية الآمنة المستقرة والمزدهرة اقتصادياً، إلا أنها تترك بعض علامات الاستفهام: أليس بينها ثمة خلايا نائمة أو "حصين طروادة" ستظهر عند الضرورة، أي عندما تدلهم الخطوب وتبعث فيها الدولة الشيعية الأم- إيران- حياة بعد الموات الشتوي، إذا تفجرت أي مواجهة عسكرية هنا أو هناك في البقع الملتهبة، في العراق أو البحرين أو اليمن مثلاً؟ - و ثاني هذه التقاطعات هو(تنظيم الإخوان المسلمين الدولي)؛ و من الواضح كذلك أن إيران جزء من هذا التنظيم، أو على الأقل حليفة استراتيجية له، كما ظهر من دعمها لنظام البشير السوداني، ومن تقاربمع نظام محمد مرسي في فترته القصيرة التي أخذ فيها بأعنة السلطة في مصر. وتنظيم الإخوان يسعى كذلك لزعزعة الأمن والإستقرار الذى تنعم به المنطقة العربية النفطية حالياً، إلى أن تسود حالة من (الفوضى الخلاقة) التي تنهض من ركامها دولة الخلافة كما تصورها حسن البناوسيد قطب وأبو الأعلى المودودي، والتي تحاول داعش أن تضع لبناتها الأولي على رقعة محددة فى لب الشرق الآوسط، متأسية بإسرائيل. - وثالث هذه التقاطعات هو الاستراتيجية الأمريكية/ الصهيونية، و ما تخطط له من سايس- بيكو جديدة يتم بموجبها إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط بما يضمن استمرارية المصالح الأمريكية وسلامة وبقاء إسرائيل. لقد كتب البروفيسور نعوم شومسكي مقالاً بفصلية: مدل إيست انترناشونال Middle East Internationalبتاريخ 16 يوليو 1982 بعنوان Reflections on Israel in Lebanon، أيام الغزو الإسرائيلي لبيروت و طرد ياسر عرفات و قوات فتح منها، شرح فيه المخطط الأمريكي الصهيوني الداعي لتفتيت الدول العربية عبر الفتن و الحروب الداخلية؛ و تجليات المخطط كالآتي: و لقد استدل شومسكي بمقررات و مضابط أمهات التنظيمات اليهودية الأمريكية، وبما طفح للعلن من وثائق المخابرات المركزية الأمريكية. و ما يدعو الآن للتسليمبصحة التنبؤات الشومسكية ما حدث في السودان (انفصال الجنوب عام 2011)، و ما يحدث الآن في سوريا و العراق. و المدهش أن شومسكي قال في تلك الأطروحة إن الدولة الكبرى التي تأمل الولاياتالمتحدة فى استنباتها من تلك (الفوضى الخلاقة) هي دولة أعجمية تتألف من إيران و تركيا وإسرائيل، حليفاً استراتيجياً مضموناً ضد الكتلة الإسلامية السنية غير مضمونة العواقب، (وهي فى الحقيقة الوريث الشرعي للحلف المركزي– حلف بغداد – الذى كان يضم إيرانوالعراقوتركيا وباكستان، والولاياتالمتحدة كواسطة عقده، الذى تم إنشاؤه كترياق لحركة القومية العربية الناصرية، فيما قبل نكسة حزيران 1967.) هذا ما جاء به البروفيسور شومسكي في ذلك المقال الخطير، و هذا ما يشير إليه تداعي الأحداث في الآونة الأخيرة بالشرق الأوسط. فهل ثمة وعي ووحدة فكرية وإرادة سياسية تحل بشعوب و حكومات الدول العربية السنية المستهدفة، و هل ثمة حياة جديدة في فكر و تنظيم و استراتيجات جامعة الدول العربية؟ ألا هل بلغت، اللهم فاشهد. الفاضل عباس محمد علي، الشارقة أغسطس 2015