جمهور مواقع التواصل بالسودان يسخر من المذيعة تسابيح خاطر بعد زيارتها للفاشر ويلقبها بأنجلينا جولي المليشيا.. تعرف على أشهر التعليقات الساخرة    شاهد بالصورة والفيديو.. ضابطة الدعم السريع "شيراز" تعبر عن إنبهارها بمقابلة المذيعة تسابيح خاطر بالفاشر وتخاطبها (منورة بلدنا) والأخيرة ترد عليها: (بلدنا نحنا ذاتنا معاكم)    جمهور مواقع التواصل بالسودان يسخر من المذيعة تسابيح خاطر بعد زيارتها للفاشر ويلقبها بأنجلينا جولي المليشيا.. تعرف على أشهر التعليقات الساخرة    شاهد بالصور.. المذيعة المغضوب عليها داخل مواقع التواصل السودانية "تسابيح خاطر" تصل الفاشر    المالية توقع عقد خدمة إيصالي مع مصرف التنمية الصناعية    أردوغان: لا يمكننا الاكتفاء بمتابعة ما يجري في السودان    مناوي: المدن التي تبنى على الإيمان لا تموت    الدعم السريع يضع يده على مناجم الذهب بالمثلث الحدودي ويطرد المعدّنين الأهليين    وزير الطاقة يتفقد المستودعات الاستراتيجية الجديدة بشركة النيل للبترول    بالصورة.. "حنو الأب وصلابة الجندي".. الفنان جمال فرفور يعلق على اللقطة المؤثرة لقائد الجيش "البرهان" مع سيدة نزحت من دارفور للولاية الشمالية    أردوغان يفجرّها داوية بشأن السودان    القادسية تستضيف الامير دنقلا في التاهيلي    تقارير تتحدّث عن قصف مواقع عسكرية في السودان    بمقاطعة شهيرة جنوب السودان..اعتقال جندي بجهاز الأمن بعد حادثة"الفيديو"    اللواء الركن"م" أسامة محمد أحمد عبد السلام يكتب: الإنسانية كلمة يخلو منها قاموس المليشيا    وزير سوداني يكشف عن مؤشر خطير    مانشستر يونايتد يتعادل مع توتنهام    ((سانت لوبوبو الحلقة الأضعف))    شاهد بالصورة والفيديو.. "البرهان" يظهر متأثراً ويحبس دموعه لحظة مواساته سيدة بأحد معسكرات النازحين بالشمالية والجمهور: (لقطة تجسّد هيبة القائد وحنوّ الأب، وصلابة الجندي ودمعة الوطن التي تأبى السقوط)    بالصورة.. رجل الأعمال المصري نجيب ساويرس: (قلبي مكسور على أهل السودان والعند هو السبب وأتمنى السلام والإستقرار لأنه بلد قريب إلى قلبي)    إحباط محاولة تهريب عدد 200 قطعة سلاح في مدينة عطبرة    السعودية : ضبط أكثر من 21 ألف مخالف خلال أسبوع.. و26 متهماً في جرائم التستر والإيواء    الترتيب الجديد لأفضل 10 هدافين للدوري السعودي    «حافظ القرآن كله وعايشين ببركته».. كيف تحدث محمد رمضان عن والده قبل رحيله؟    محمد رمضان يودع والده لمثواه الأخير وسط أجواء من الحزن والانكسار    وفي بدايات توافد المتظاهرين، هتف ثلاثة قحاتة ضد المظاهرة وتبنوا خطابات "لا للحرب"    أول جائزة سلام من الفيفا.. من المرشح الأوفر حظا؟    مركزي السودان يصدر ورقة نقدية جديدة    برشلونة ينجو من فخ كلوب بروج.. والسيتي يقسو على دورتموند    شاهد بالفيديو.. "بقال" يواصل كشف الأسرار: (عندما كنت مع الدعامة لم ننسحب من أم درمان بل عردنا وأطلقنا ساقنا للريح مخلفين خلفنا الغبار وأكثر ما يرعب المليشيا هذه القوة المساندة للجيش "….")    "واتساب" يطلق تطبيقه المنتظر لساعات "أبل"    بنك السودان .. فك حظر تصدير الذهب    بقرار من رئيس الوزراء: السودان يؤسس ثلاث هيئات وطنية للتحول الرقمي والأمن السيبراني وحوكمة البيانات    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    غبَاء (الذكاء الاصطناعي)    مخبأة في باطن الأرض..حادثة غريبة في الخرطوم    رونالدو يفاجئ جمهوره: سأعتزل كرة القدم "قريبا"    صفعة البرهان    حرب الأكاذيب في الفاشر: حين فضح التحقيق أكاذيب الكيزان    دائرة مرور ولاية الخرطوم تدشن برنامج الدفع الإلكتروني للمعاملات المرورية بمركز ترخيص شهداء معركة الكرامة    عقد ملياري لرصف طرق داخلية بولاية سودانية    السودان.. افتتاح غرفة النجدة بشرطة ولاية الخرطوم    5 مليارات دولار.. فساد في صادر الذهب    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    الحُزن الذي يَشبه (أعِد) في الإملاء    السجن 15 عام لمستنفر مع التمرد بالكلاكلة    عملية دقيقة تقود السلطات في السودان للقبض على متّهمة خطيرة    وزير الصحة يوجه بتفعيل غرفة طوارئ دارفور بصورة عاجلة    الجنيه السوداني يتعثر مع تضرر صادرات الذهب بفعل حظر طيران الإمارات    تركيا.. اكتشاف خبز عمره 1300 عام منقوش عليه صورة يسوع وهو يزرع الحبوب    (مبروك النجاح لرونق كريمة الاعلامي الراحل دأود)    المباحث الجنائية المركزية بولاية نهر النيل تنهي مغامرات شبكة إجرامية متخصصة في تزوير الأختام والمستندات الرسمية    حسين خوجلي يكتب: التنقيب عن المدهشات في أزمنة الرتابة    دراسة تربط مياه العبوات البلاستيكية بزيادة خطر السرطان    والي البحر الأحمر ووزير الصحة يتفقدان مستشفى إيلا لعلاج أمراض القلب والقسطرة    شكوك حول استخدام مواد كيميائية في هجوم بمسيّرات على مناطق مدنية بالفاشر    السجائر الإلكترونية قد تزيد خطر الإصابة بالسكري    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سيرة حيدر إبراهيم سجال مع التابو الاجتماعي
نشر في حريات يوم 12 - 12 - 2015

أدب السيرة الذاتية شحيح في السودان. ذلك بالرغم من أن عددا هائلا من الرموز القومية مروا دون أن نعثر على تناول لسيرهم، أو مذكراتهم الموثقة التي يضع فيها الحاضر رؤيته على الماضي استشرافا للمستقبل. لقد شغل أولئك الرموز مواقع حساسة، وقاموا بأدوار مفصلية في تاريخ البلاد، ووضعوا بصماتهم في الأجيال اللاحقة. ومع ذلك فضلوا الكف عن تدوين تجاربهم المختزلة لأسباب شتى. وهكذا رحلوا وما تركوا خبرا عن سبب مفارقة التدوين لتجاربهم. ربما كانت أزمة النشر التي كنا منذ حين نعاني منها تمثل محور الأسباب. أو قد يقول قائل إن المرجع هو ثقافتنا المحافظة التي لا تحتمل هذا النوع من الأدب الذي يخالف مستوى صراحته سمات المجتمع. وقد يعزى ناقد ضمور هذا النوع الأدبي إلى أن كتابته تتطلب صدقا مع الذات لم تصل هذه الرموز بعد إلى مرحلة تحقيقه. ولذلك تفضل أن تحيا صامتة ثم تموت بأسرارها، ومحاسنها، وخطاياها. ولكن، على كل حال، كنا نتمنى أن نقف على مذكرات الذين لهم رميات في ضروب السياسة، والثقافة، والاقتصاد، والرياضة، والفن، والصحافة، والعمل الأكاديمي، والمجال الديني حتى نستعين بخبراتهم الثرة لتجويد خطى الإصلاح، ومعرفة هفواتهم التي ارتكبوها حتى تتفادى الأجيال وقوعها.
فالمؤمل في أدب السيرة الذاتية أن نعثر على فوائد معرفية لما بعد خدمة هذه الرموز التي ضمتها حقول العمل العام التي دخلت إليها بأجندتها العامة والخاصة معا. ومن شأن الكتابة في هذا المضمار النثري أن تتحقق متعة القراءة أيضا، خصوصا أن هناك وصلا ما بين أدب السيرة الذاتية وبين الأدب الروائي. إذ إن الجنسين الأدبيين يتضمنان التشويق، والإثارة، والكشف عن المخبوء، ولذة الحكي الموحي كثيرا، والصادم أحيانا، فضلا عن التوفر على تلك الفصول من مغامرات الفرد، وخفايا المجتمع كذلك.
الثابت أن هناك تداخلا بين السيرة الذاتية التي هي فسيفساء من التدوين للتجارب المتنوعة الخاصة التي خاضها راويها، وبين المذكرات أيضا، والتي هي تدوين محدود لتجربة عملية لشخص غير مفترض عليه إبراز الشخصي. والملمحان الإبداعيان يشتركان في تعميق السرد للوقائع التي صاحبت مسيرة الرمز المعني الذي توافرت له سنوات طويلة من الخبرة، ربما قاربت نصف قرن، أو تجاوزته. من سوء الحظ أن هناك رموزا حية وأخرى رحلت بلا سيرة ذاتية. منهم، مثالا، التيجاني الطيب بابكر، ومنصور خالد، ومحمد وردي، ونفيسة المليك، وبرعي محمد دفع الله، وأحمد إبراهيم دريج، وكمال الجزولي، والطيب عبدالله، وصادق عبدالله عبد الماجد، وحاجة كاشف، وعبد الفتاح الله جابو، والفيتوري، وأحمد عبد الرحمن الشيخ، والطاهر حسيب، وعبدالله الطيب، ومحمد أحمد شبرين، وفيليب غبوش، وهاشم صديق، ومكي سنادة، وبشير محمد سعيد، وعبدالله بولا، وأبيل ألير، ومحمد إبراهيم نقد، وأبو آمنة حامد، وحامد بريمة، ومحجوب محمد صالح، والفريق فتحي أحمد علي، وسلمان محمد أحمد سلمان، ومحمد المكي إبراهيم، وإبراهيم منعم منصور، واللواء (م) عثمان عبدالله، وفاطمة أحمد إبراهيم، وفتح الرحمن البشير، وعبد الحليم محمد، وغيرهم/ن كثير. وصحيح أننا نعرف الكثير عن سيرة هؤلاء الرموز. ونقدر كثيرا ما أنجزه بعضهم. ولكن أن تأتي سيرتهم بإقلامهم فذاك ما يساعد في كشف العديد عن أسرار تجاربهم التي خاضوها على مستوى العمل العام والخاص. والمؤسف جدا أنه رغم قدم تاريخ التعليم في البلاد، وحيازتها على عدد ضخم من النخب في مجالات الحياة كافة ندر أن يوازى على المستوى العربي والإفريقي إلا أن المكتبة السودانية ضمت عددا قليلا من هذا الأدب المقروء. بل إن هذا المنشور ذاته عبر عن ابتسار لمعنى كتابة السيرة الذاتية، وبدت كأنها محاولة لتفخيم أدوار كتابها الذين لم يشأوا إظهار تلك الصراحة أو الاعترافات التي تتطلبها. وبالتالي بدت هذه السيرة الذاتية إما محاولة لتحقيق بطولات زائفة، أو تغطية وتبرير للأخطاء جراء المشاركة في العمل العام.
– 2 –
في سفر د. حيدر إبراهيم الذي نشره مؤخرا بعنوان "أزمنة الريح والقلق والحرية، سيرة ذاتية" أراد الكاتب أن يكون طرح سيرته مميزا بما يجلب الجدل المقصود لذاته. لقد كشف لنا اليوم غطاء سيرته فأبصرناه أكثر. حروفه تقول إنه قد هد ذهنه الشكاك طول التنقل بين بلاد العالم. إذ عاش كاتب السيرة أكثر من نصف عمره خارج وطنه، طالبا، ومغتربا، وناشرا. تطرق إلى مرحلة طفولته التي بدأت في "إشلاق" البوليس، وقال ما قال عن والده الذي رغب في الاقتران بزيجة ثانية، ولكن الابن حرس والدته من التثنية الزوجية. الأكثر من ذلك وضع احتياطات جهنمية لإفشال حلم ضابط البوليس الذي هام عشقا بفتاة من البندر. عن طفولته يقول المؤلف إن مولده يصادف "نفس اليوم من عام 564 ق.م، والذي يعتقد البوذيون أنه يوم ميلاد بوذا واسمه الحقيقي: جاوناما، وتعني كلمة بوذا الإنسان العاقل أو المستنير. كما ولد الفنان سلفادور دالي في نفس اليوم 1904، وهي مصادفات مع ميلاد شخصيات جمعت بين كامل الحكمة والعبث. فيا ترى ماذا يحمل هذا من بشارة للمولود الجديد"، وهكذا يوجد المؤلف مرجعية لمولده، ويربطها بأزمان قديمة من الاستنارة. ويضيف د. حيدر أنه "جاء إلى الدنيا مولود فرحت به الأم الصغيرة التي تكبره فقط بنحو خمسة عشر عاما، وملأت الفرحة المنزل الطيني المتواضع، وحتى الجد الوقور لم يستطع إخفاء سعادته. فالتبكير بمولود ذكر في الأسرة بشارة خير، وفأل حسن، ومصدر فخر لأنه سيزيد عدد الرجال في هذه الأسرة الذكورية وهي جزء من المجتمع الذكوري الكبير. فالمولود سيخلد اسمها ولذلك تدعو أو تتمنى الأم الشايقية لابنها في سيرة العرس الولد البكر، وتترنم قائلة: تبكر بوليد وأنا اشيلو أشمو". وهنا يسترد المؤلف بيئته القديمة بشئ من التوظيف لسرد الرواية، والحقيقة أنذلك يتمظهر في أجزاء كبيرة من الكتاب، إذ يمتلك المؤلف ذاكرة فوتغرافية قوية التفاصيل، وقد جعلت فصول سيرته أقرب إلى فصول الرواية. ولا بد أن القارئ سيستشف القدرة الحكائية العالية التي أبانها الكاتب حتى يبدو أحيانا كأنما كتب سيرته بأفق تعميق الصورة الروائية المشوقة.
لقد سرد د. حيدر مشاغباته مع أساتذته، وزملائه المدرسين في معهد المعلمين العالي. لم يترك تجاربه الجنسية ما قبل الزواج نهبا للقيل والقال. طرحها على الورق بغير وجل. تطرق إلى وجوديته الصاخبة، وعلاقته بدين مجتمعه دون أن يخشى في حق البوح عن تدينه لومة لائم. لم ينس أن يسجل للتاريخ موقفه الحاد من أقربائه الممالئين للنظام وغمز من قناتهم بلا هوادة. لم يدس حقيقة علاقته بالمهن التي يسميها بعضهم "وضيعة" والتي عبرها اقتتات أثناء غربته الدراسية في المانيا السبعينات. حكى عن تجارب تنظيمه السياسي اليساري قبل أن يصل إلى سن الخامسة والعشرين. بل أعاد الفضل للمفكر سلامة موسى الذي قاد ذهنه إلى مشاعل التنوير، فيحدثنا: "كنت محظوظا وشقيا في نفس الوقت فقد تعرفت مبكرا، أو في سن مناسبة، على سلامة موسى عام 1958 مع زميلي محمد عبدالله الشهير ب"العقلي". ولا أتذكر جيدا هل عثرنا على الكتاب الأول في مكتبة المدرسة أم خارجها؟ وقد نبهنا للشخصية الاهتمام الكبير به حين توفى في أغسطس، أي بعد شهور قليلة من التحاقنا بالتعليم الثانوي "هو من مواليد 1887". وهذا يعني أن المكتبة المدرسية كانت غنية، ومتنوعة، ولا رقابة صارمة عليها. وقد كانت هذه فترة التكوين، لذلك توقفت عند كتابين "تربية سلامة موسى" و"هؤلاء علموني" وقررت أن يكون الأساس الذي تقوم عليه تربيتي وتنشئتي وصار سلامة موسى أبي الروحي". ما أنبل هذا الفضل، والوفاء الذي يقل وسط المفكرين والمبدعين الذين شكلتهم قراءات فكرية لشخص ما، ولكنهم بعد أن صاروا رموزا تعالوا دون الوفاء.
– 3 –
عبر كل ذلك السرد كانت صراحة المؤلف باذخة، وصادقة، ودافئة، وبين ثنايا سطور الكتاب تناول أخطاءه كذلك. ربما لم تدان صراحة مذكرات حيدر إلا مذكرات الشيخ بابكر بدري في سفره "حياتي". إذن ربما هناك صلة بين حيدر المثقف الذي أخذ على عاتقه نشر المعرفة في بلاده وبين الشيخ الذي تولى أمر تعليم البنات وسط بيئة كارهة حينذاك لتعليم الأبناء حتى. وقد يأتي زمان تجد فيه الأجيال القادمة قواسم مشتركة بين الرمزين اللذين حاربا الشفاهة، والجهل، والخرافة. وربما قريب من موقف الشيخ بابكر بدري من المرأة كان موقف د. حيدر إبراهيم الذي أشار إلى أن المرأة لازمته "في كل مراحل حياتي، وتشكلاتها، واحتياجاتها، وضروراتها. فقد كانت الأم، والزوجة، والعشيقة، والحبيبة، والابنة، والصديقة، والقضية. وكنت منذ مولدي ذا صلة بامرأة ما ولم تكن حياتي خالية من وجودها. وهذا ما جعل حياتي تستحق أن تعاش بمتعة، ومزاج، رغم تقلبات الدهر". وربما في تكريم مركز الدراسات السودانية للأستاذ عثمان حسين عام 2000 ضمن الاحتفاء بالطيب صالح بالقاهرة تكمن العلاقة المتينة التي ربطت بين أذن د. حيدر وصاحب "ربيع الدنيا، وبحسب أن سطوته كانت كبيرة على جيله فقد أسلم د. حيدر نفسه "لعثمان حسين بلا شروط وبدون منافسة، بأصولية فنية تصل درجة التعصب الأعمي".
ويصف المؤلف عثمان حسين بقوله إن "رومانسية عثمان حسين تختلف عن الرومانسية الصفراء المحبة للموت، والمعاناة، والحزن. فهي رومانسية تتعامل مع المرأة كند ونصفه الأجمل، وشقائق الرجال، والمرأة عنده كان علوي يطوف "الفراش الحائر" على زهراته مشتاقا". على أن ذلك التكريم الذي ابتدره مركز الدراسات السودانية للموسيقار، ود. عبد الحليم محمد، ود. بشير البكري، في ذلك اليوم المشهود بالقاهرة قد منح المركز دفعة كبيرة في الاعتناء بأمر المبدعين، والمبرزين، في مجالات الرواية، والغناء، والدبلوماسية والرياضة. وهنا يحدثنا راوي السيرة أن تخلق فكرة مركز الدراسات السودانية الذي أنشأه، وتجاوزت مؤلفاته المئتين، تم في حي أكدال بالمغرب حيث كان يسكن. إذ في مقهى نكتار كان "مهد فكرة المركز ومواصلة كتابة "أزمة الإسلام السياسي والتخطيط لمجلة كتابات سودانية". ويضيف "في صيف عام 1992 حملت الكتاب، والمجلة، للقاهرة للطباعة، وقام الفنانون حسين شريف، وحسان على أحمد، والباقر موسى، بتقديم الدعم اللازم وصار للمركز (Logo) عبارة عن شمعة، وقلم، كمركز للاستنارة والمعرفة. وكان رأسمال البداية ألف دولار فقط. دفعنا لحلمي منها تكلفة كتاب "أزمة الإسلام السياسي" وطبعنا المجلة في مطبعة الأمل مع جريدة الأهالي. وحتى ذلك الحين كنا نتجول بالمركز، صلاح الزين وأنا".
– 4 –
لقد أراد الدكتور حيدر إبراهيم علي أن يوظف كتابة سيرته للبناء فوق مجهوداته التنويرية الكبيرة السابقة، والتي مثلت مجالا للبحث المتعمق، والجاد، والدؤوب، حول مختلف قضايا السودان العالقة. وكذلك هي سيرة جريئة كشفت عن تأكيد ذاته كمثقف منماز في ما خص معالجته المعرفية للأوضاع المجتمعية لبلاده. وكذلك نحا في سرده إلى إبراز ثورته العارمة على مظاهر الفشل السياسي الذي سم تجارب السودان الحكومية ما بعد الاستقلال. باختصار تأتي كتابة د. حيدر الجديدة برغم ما حملت من نغمة غاضبة لتضيف نوعا من الحيوية للطرح الفكري السائد. وربما أراد كاتب السيرة الذاتية استثارة ذهن القارئ المثقف للجدل حول إمكانيات لمعالجة خلل المواقف الذي تمظهر في كفاح غالب المثقفين السودانيين. فالمؤلف يقول إن السودان ظل "بلد الفرص الضائعة، وضاقت إمكانيات خروجه من النفق المظلم الذي ولجه بسبق الإصرار. وتعددت مرات الرسوب في اختبارات التاريخ حتى صار اسمها الابتلاءات في زمن آخر مدقع. ويواصل السودانيون لامبالاتهم على كل المستويات. وللمفارقة كان عقلاؤهم، وصفوتهم، هم الأكثر استهتارا، وعدم جدية فأضاعوا البوصلة تماما. وتركوا منطق الريح والطير هو الذي يسير سفينتهم ولكن نحو المجهول. وصحيح أن السمكة تفسد من رأسها، فقد باتت الناس لا سراة لهم في كل الحقب، والنظم، الحاكمة ، المدنية والعسكرية. وصار السودان يساري النجم في الظُلم". إن هذه الصورة القلمية التي جسدت الوطن بهذا البلاء تطرح سؤالا حول كل المجهودات التي بذلها المثقفون ولكنها لم تسهم في المحافظة على وحدة القطر، أو تحقيق دولة المواطنة.
أيا كانت الاسئلة والإجابات حول أوضاع البلاد االتي أشار إليها د. حيدر، فإن دور المثقف المثابر الشاحذ للهمم يتصاعد في ظروف أرادها الظلاميون كذلك حتى تتثبط الهمم الوطنية، وبالتالي يواصل السلطويون في استئسارهم الطفيلي بخيرات البلاد. فجزء من مهمام أيدلوجيا الخراب، والبؤس، هو تحطيم الأمل في نفوس القادة، والمثقفين، والناشطين، في مقابل توطيد قبضتهم القمعية على الواقع. ولا شك أن وظيفة المثقف تتعاظم أكثر في الأوقات العصيبة التي يكاد ينعدم فيها الأمل. فهو الذي يشحن الطاقات الذهنية في ساعات الشدة، وإذ إن الجوعى والمقهورين هناك يتوقعون حملهم دوما على البقاء متأملين، عوضا عن إبداء المثقف إحباطاته التي تنعكس على العامة. إذ إن دور المثقف الملتزم هو أن يعيد صياغة الأفكار، وأن ينفخ بمثابرة في جمرة الأمل حتى تبقى حية. ومن شواهد التاريخ أن انتصار التنوير الأوربي قام في بيئة سيطر فيها تماما الكهنوت الديني، حيث كان العلماء يواجهون وضعا مشابها لما يحدث الآن في البلاد، فيما تُحارب آنذاك ابتكارات مثل تمديد فرص النشر، وتجبى الأموال من المساكين لصالح استمرار الجثم فوق صدورهم، بينما تمنح صكوك الغفران، وذلك ما يوازي منح رخص العمل للموالين للاستبداد اليوم. إن سيرة د. حيدر إبراهيم التي تضمنت 326 صفحة عبر عدة فصول من القطع المتوسطة مثيرة للجدل، وممتعة بقراءتها، ومحرضة للحوار حول رمزيته كمثقف لا يني من الاصطدام مع بؤر السياسة والاجتماع القاتمة. ولا بد أن قارئ السيرة سيجد الكثير من الرؤى المحرضة للاتفاق والاختلاف. ولكن الأهم من كل هذا هو الاعتراف الذي سجله المؤلف حول بعض تجاربه في العمل السياسي الباكر، وقدرته على كشف كل جوانب شخصيته كمثقف هو في الأساس إنسان له نزواته العاطفية المتساوقة مع آماله العقلانية. فالحيوية التي تفيض في جنبات سرده الاجتماعي، والعاطفي، والسياسي، والروحي، هي من ما يعزز من قيمة الكتاب الذي يقدم للأجيال رؤية في الكشف عن خبايا الذات، بعد كل هذه السنين المتصلة بالخيبات والبشارات. إنها سيرة ذاتية ترينا نوعا من الكدح الثقافي الطموح في بيئة غير متسامحة، وما تزال فاقدة لاحترام الآخر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.