المبتدأ: يقول الشاعر والناقد وأستاذ الأدب بجامعة الخرطوم محمد عبد الحي –رحمه الله- في قصيدة "العودة إلى سنار": افتحوا اللَّيلة للعَائِدِ أبْوابَ المدينة افتحوا اللَّيلةَ أبوابَ المدينة بَدَويٌّ أنتَ؟ لا، من بلاد الزِّنج؟ لا، أنا مِنْكُم. تائهٌ عادَ يُغنِّي بلسَانٍ ويُصَلِّي بلسان مِنْ بِحَارٍ نائياتٍ لم تُنِرْ في صمتها الأخضرِ أحلامُ الموانئ. والخبر: (1) المواطن السوداني المغلوب على أمره تحت حكم النظام الإسلاموي الحالي الذي امتد حتى اليوم لربع قرن ونيف قد غدا مهيضَ جناحٍ، ضربت عليه الذلةُ والمسكنةُ، أستار ثقيلة من الهوان تبررها أحيانا لحفظ التوازن النفسي بصبر الحليم؛ فلا يكاد يمرُّ عامٌ أو بضع شهور حتى تتعرضَ مجموعةٌ من المواطنين السودانيين للإذلال المهينِ في إحدى الدول العربية، وهذه نتيجة طبيعيةٌ لسياسات هذا النظام الداخلية والخارجية الخرقاء، والتي اعتمدت دوما سياسة الاستقواء على الشعب بممارسة العنف والعدوان عليه، والانبطاح أمام تصرفات دول الجوار عربية كانت أم إفريقية، وهي تعبث بسيادة الأرض السودانية وكرامة مواطنيها حتى غدت بلد اللاءات الثلاثة الحائط الأقصر بين البلاد، يستأسد على ترابها الوطني، وكرامة إنسانها بغاث الطير، وكل من هب ودب من دويلات لا قيمة لها ويوصف جيشها الوطني في بعض القنوات الفضائية ب(المرتزقة)، وجيشنا من أوقف بجهد ودم رجاله الحربَ الأهلية في لبنان، وشارك في الصفوف الأمامية في حروب العرب كافة ضد الكيان الصهيوني إسرائيل، فأي مهانة واستهانة وهوان رمى بها هذا النظام القميء شعبه وجنده. (2) آخر هذا المهانات جرت وتجري فصولها اليوم في واحدة من أصغر الدول العربية، وهي المملكة الأردنية التي عزمت سلطاتها ترحيل أكثر من 800 لاجئ -موجودون على أراضيها- قسرا للخرطوم، ويقال إنها قد نفذت هذا القرار في جزء من أولئك اللاجئين التعساء، رغم رفضهم ومناشدات المنظمات الدولية؛ بعد أن قامت بالتعاون مع الأمن السوداني باستخدام الغاز المسيل للدموع داخل معتقلات اللاجئين السودانيين، ما أدى إلى وفاة ثلاثة أطفال وشاب، وإصابة العشرات بحالات الإغماء والاختناق، وربما يرتفع عدد القتلى، وقد سبق هذه المهانة التي تجري اليوم في الأردن بأسبوعين جريمة مقتل حوالي خمسة عشر مواطن سوداني على يد الجيش المصري، بمبرر محاولة اجتياز الحدود المصرية ودخول إسرائيل، وهكذا لا يمر عامٌ أو بضع شهور إلا ويسمع شعب السودان ويرى صنوف من الإذلال اللا إنساني يمارس على مجموعة من أبنائه داخل إحدى هذه الدول التي يتزلف النظام الإسلاموي الحاكم عديم الكرامة خاطبا ودها في كل حين. (3) أظن أنه قد آن الأوان لشعب السودان أن يقوم بمعزل عن هذا النظام الذي لا يمثل إلا نفسه وعضويته من الانتهازية باتخاذ تدابير جادة توقف سيل هذه الإهانات المتكررة بإعادة النظر في طبيعة علاقاتنا الشعبية ببعض هذه الشعوب والدول تلك التي ثبت عدم احترامها للمواطن السوداني، ونبدأ خطى عملية في هذا الاتجاه بقطع التواصل والتعاون معها؛ فليس من الضروري الذهاب للاستشفاء في مشافي الأردن ومصر، ولا السياحة فيها، ورفد خزانة دولة لا تحترمنا بالعملات الأجنبية، في حين أن هناك بدائل أخرى أكثر مهنية وأرخص إثمان؛ كما أنه من الغباء أن تلجأ لدولة بوليسية تمارس القهر على شعبها، وأنت فار من قمع وعسف نظامك الوطني؛ لتبدو في حمق المستجير من الرمضاء بالنار، إن التعامل بالمثل هي أولى خطوات استعادة الكرامة الوطنية التي أهدرت في ظل هذا النظام؛ كما أن البعد عن الشعارات العاطفية التي تقيد مسعى الانعتاق من هذه المهزلة من عينة العلاقات الأزلية والأخوة الدينية هي الخطوة المنطقية التي تأخر اتخاذها من قبلنا كشعب. (4) وليس المهم هنا ما دأب البعض دائما على الغرق في وحل جداله عن كنه الهوية الوطنية مضيعة للوقت، متى ما حدثت مثل هذه الحوادث الكريهة التي تمس كرامة وهيبة مواطن السودان؛ فمن البديهي أن السوداني ليس عربيا بل هو إفريقي بامتياز، وإن مازجت دمه بعض الدماء العربية بقدر ونسب تتفاوت من فرد إلى آخر؛ والعروبة ليست ميزة لنتمسك بها لدرجة الحط من إنسانية وكرامة الفرد منا وهي أيضا ليست سبة ولا عار نتجنبه كليا؛ حيث يوجد بين العرب الخلص إن وجدوا من هم أخيار وبينهم أيضا الكثير من الأشرار، وفي كل الأحوال فهم سواء أكانوا أخيارا أم أشرارا فليسوا بالقدوة الحسنة التي يجب الاقتداء بها، إذا ما أردنا الانعتاق من حال التخلف والجهل الذي نقبع فيها والسير قدما نحو التقدم؛ ومن هنا فإن إضاعة الوقت في محاولة التمسح بهم أو إرضائهم حالة مرضية؛ إصابة السيكولوجية السودانية نتيجة ربطها غير المنطقي بين العروبة والإسلام؛ وهو خطأ شاع يجب تصحيحه في أذهان البسطاء من أبناء شعبنا؛ حتى يتثنى لنا استعادة التوازن (الهوياوي) والانطلاق نحو إرساء علاقات ندية معافاة مع شعوب الأرض قائمة على الاحترام المتبادل وتبادل المنافع والمصالح؛ بعيدا عن وهم الألفاظ اللغوية لا تحمل مدلولاتها الفعلية غير الخداع، مثل: الأشقاء، وروابط الدين، والدم، والتاريخ المشترك، وغيرها من الألفاظ التي تصلح لخطابات الساسة المخادعة، ولا تجدي نفعا في أمر إرساء علاقات متكافئة بين الشعوب. (5) وقبل هذا وذاك علينا أن نثق في أصل هويتنا الوطنية والتي أثبتت أحدث الدراسات الأثرية والتاريخية أنها من أقدم الهويات، والعمل الجاد على صهر جميع مكوناتها في بوتقة مرضية وتقديمها للعالم في صور مشرفة تنتزع احترام الجميع عنوة واقتدارا، وليس استجداء أخرق عبر المنظمات الدولية، ونحن كدولة وشعب مهيؤون لذلك، حيث نعتبر من أكثر شعوب المنطقة ثقافة ووعيا، ولا تنقصنا الكوادر المهنية ولا الفكرية، كما أن أرض السودان الخصبة الممتدة الشاسعة تزخر بموارد وخيرات مهولة ظاهرة وباطنة، وكل ما يعيق انطلاقنا نحو الأمام هو عدم وجود قيادة رشيدة؛ ومهمة خلق مثل هذه القيادة وإرساء نظام حكم ديمقراطي عادل تقع دون شك على عائق كل فرد منا؛ ودون الارتقاء بالحس الوطني لهذا المستوى من الفهم، ومفارقة دروب البحث عن الحلول الفردية السهلة؛ من عينة الهرب لدول النفط بحثا عن عمل أو إعادة الاستيطان في المهاجر بحثا عن أمان، وبلادنا تزخر بكل هذه الخيرات؛ سنظل نعاني من الضعف والذلة، ويظل السودانُ بخياراته العظيمة ودفء إنسانه البسيط الطيب أسيرًا في أيدي نخب الفشل، مثل التي تحكم وتتحكم في رقاب الشعب اليوم دون أن تحقق أي نجاح. (6) ليس من المهم أن نكون عربا أم أفارقة، إنما الأهم أن نكون سودانيين، ونعمل على تنمية واستغلال الموارد التي تزخر بها أرضنا، وبناء جيش وطني مهاب تخشاه وتهابه دول الجوار، وتحترم مقدراته شعوب العالم، وحينها فقط سيرفع الجميع لنا القبعات إجلالا، ويأتون إلى السودان صاغرين، فأغلب هذه الدول التي تتطاول علينا اليوم لا تملك معشار ما نملكه من إمكانيات، والحاجة للغذاء والماء ونقصهما المتزايد يوما بعد يوم سيجعل عما قريب من السودان قبلة لكثير من دول العالم التي تعاني من التصحر والجفاف، وكل ما علينا هو الاستعداد لاستقبال هذا اليوم بوعي، وإمكانيات تحتية واقتصادية جيدة، وبذاكرة متقدة تحفظ تاريخ تعامل كل شعب من الشعوب معنا؛ لنضع ساعتئذ كل منها في مقامه الذي يستحقه، دون تفريط ولا إفراط، وهي ساعة تقترب رويدا رويدا، وإرهاصات بزوغ فجرها تلوح لكل ذي بصيرة، وما قرار فك الولاياتالمتحدةالأمريكية الحظر عن تصدير نفطها الذي استمر زهاء الأربعين عاما إلا أحد هذه المؤشرات الاقتصادية المهمة التي تشير إلى اقتراب نهاية عصر الذهب الأسود، والوقود الأحفوري، وولوج العالم لعصر الطاقة البديلة النظيفة وعلى رأسها الوقود الحيوي، وأرضنا الشاسعة الطيبة متهيئة لإنتاجه، والطاقة الشمسية والسودان دون رئب ابن الشمس المشرقة، وربيبها بلا منازع؛ فالمستقبل لنا وللأجيال القادمة، إذا ما تمكنا من إزالة هذا النظام الفاسد، والتوافق على نظام بديل عادل ورشيد، يحسن إدارة موارد الوطن الهائلة. ** الديمقراطية قادمة وراشدة لا محال ولو كره المنافقون. تيسير حسن إدريس 22/12/2015م