تكية الفاشر تواصل تقديم خدماتها الإنسانية للنازحين بمراكز الايواء    تايسون يصنف أعظم 5 ملاكمين في التاريخ    دورات تعريفية بالمنصات الرقمية في مجال الصحة بكسلا    د. الشفيع خضر سعيد يكتب: الدور العربي في وقف حرب السودان    السودان.."الشبكة المتخصّصة" في قبضة السلطات    ريال مدريد لفينيسيوس: سنتخلى عنك مثل راموس.. والبرازيلي يرضخ    مقتل 68 مهاجرا أفريقيا وفقدان العشرات إثر غرق قارب    توّترات في إثيوبيا..ماذا يحدث؟    اللواء الركن (م(أسامة محمد أحمد عبد السلام يكتب: موته وحياته سواء فلا تنشغلوا (بالتوافه)    مسؤول سوداني يردّ على"شائعة" بشأن اتّفاقية سعودية    السودان..إحباط محاولة خطيرة والقبض على 3 متهمين    دبابيس ودالشريف    منتخبنا المدرسي في مواجهة نظيره اليوغندي من أجل البرونزية    بعثة منتخبنا تشيد بالأشقاء الجزائرين    حادثت محمد محمد خير!!    هل محمد خير جدل التعين واحقاد الطامعين!!    دقلو أبو بريص    اتحاد جدة يحسم قضية التعاقد مع فينيسيوس    حملة في السودان على تجار العملة    إعلان خارطة الموسم الرياضي في السودان    غنوا للصحافة… وانصتوا لندائها    توضيح من نادي المريخ    حرام شرعًا.. حملة ضد جبّادات الكهرباء في كسلا    تحديث جديد من أبل لهواتف iPhone يتضمن 29 إصلاحاً أمنياً    شاهد بالفيديو.. بأزياء مثيرة وعلى أنغام "ولا يا ولا".. الفنانة عشة الجبل تظهر حافية القدمين في "كليب" جديد من شاطئ البحر وساخرون: (جواهر برو ماكس)    امرأة على رأس قيادة بنك الخرطوم..!!    وحدة الانقاذ البري بالدفاع المدني تنجح في إنتشال طفل حديث الولادة من داخل مرحاض في بالإسكان الثورة 75 بولاية الخرطوم    المصرف المركزي في الإمارات يلغي ترخيص "النهدي للصرافة"    الخرطوم تحت رحمة السلاح.. فوضى أمنية تهدد حياة المدنيين    أول أزمة بين ريال مدريد ورابطة الدوري الإسباني    "الحبيبة الافتراضية".. دراسة تكشف مخاطر اعتماد المراهقين على الذكاء الاصطناعي    أنقذ المئات.. تفاصيل "الوفاة البطولية" لضحية حفل محمد رمضان    بزشكيان يحذِّر من أزمة مياه وشيكة في إيران    لجنة أمن ولاية الخرطوم تقرر حصر وتصنيف المضبوطات تمهيداً لإعادتها لأصحابها    انتظام النوم أهم من عدد ساعاته.. دراسة تكشف المخاطر    خبر صادم في أمدرمان    اقتسام السلطة واحتساب الشعب    شاهد بالصورة والفيديو.. ماذا قالت السلطانة هدى عربي عن "الدولة"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان والممثل أحمد الجقر "يعوس" القراصة ويجهز "الملوحة" ببورتسودان وساخرون: (موهبة جديدة تضاف لقائمة مواهبك الغير موجودة)    شاهد بالفيديو.. منها صور زواجه وأخرى مع رئيس أركان الجيش.. العثور على إلبوم صور تذكارية لقائد الدعم السريع "حميدتي" داخل منزله بالخرطوم    إلى بُرمة المهدية ودقلو التيجانية وابراهيم الختمية    رحيل "رجل الظلّ" في الدراما المصرية... لطفي لبيب يودّع مسرح الحياة    زيادة راس المال الاسمي لبنك امدرمان الوطني الي 50 مليار جنيه سوداني    وفاة 18 مهاجرًا وفقدان 50 بعد غرق قارب شرق ليبيا    احتجاجات لمرضى الكٌلى ببورتسودان    السيسي لترامب: ضع كل جهدك لإنهاء حرب غزة    تقرير يسلّط الضوء على تفاصيل جديدة بشأن حظر واتساب في السودان    استعانت بصورة حسناء مغربية وأدعت أنها قبطية أمدرمانية.. "منيرة مجدي" قصة فتاة سودانية خدعت نشطاء بارزين وعدد كبير من الشباب ووجدت دعم غير مسبوق ونالت شهرة واسعة    مقتل شاب ب 4 رصاصات على يد فرد من الجيش بالدويم    دقة ضوابط استخراج أو تجديد رخصة القيادة مفخرة لكل سوداني    أفريقيا ومحلها في خارطة الأمن السيبراني العالمي    الشمالية ونهر النيل أوضاع إنسانية مقلقة.. جرائم وقطوعات كهرباء وطرد نازحين    السودان.. مجمّع الفقه الإسلامي ينعي"العلامة"    ترامب: "كوكاكولا" وافقت .. منذ اليوم سيصنعون مشروبهم حسب "وصفتي" !    بتوجيه من وزير الدفاع.. فريق طبي سعودي يجري عملية دقيقة لطفلة سودانية    نمط حياة يقلل من خطر الوفاة المبكرة بنسبة 40%    عَودة شريف    لماذا نستغفر 3 مرات بعد التسليم من الصلاة .. احرص عليه باستمرار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نص محاضرة المهدى : حقوق الإنسان الإسلامية والعالمية مقارنة ومقاربة
نشر في حريات يوم 28 - 12 - 2015


بسم الله الرحمن الرحيم
المحاضرة التي ألقاها الإمام الصادق المهدي يوم الأحد 16/12/2015م بالعاصمة المصرية القاهرة ب (مركز دال للأبحاث والإنتاج الإعلامي) تحت عنوان: حقوق الإنسان الإسلامية والعالمية مقارنة ومقاربة
الحقيقة هي أن الإنسان قد سبق وجوده الديانة والفلسفة، وهذا يجد من النص القرآني سنداً: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا) .
الوجود الإنساني هذا فيه عشر خصال هي: الكرامة، حرية الاختيار، العقل، العاطفة، الضمير، التطلع للمعرفة، إن وحدته الأولى زوج، وإن قامته مستقيمة، وأن يديه حرتان للحركة، وكفيه حريفان، وأنه ينزع للتغلب بالقوة.
هذه الصورة الفطرية للإنسان تفسر ماهية حقوقه.
نزعة التغلب باسم ديانات وفلسفات جعلت كثيرين يهدرون بعض تلك الحقوق الفطرية.
اليهودية تنتمي للإبراهيمية عبر يعقوب أي إسرائيل، وهو حفيد إبراهيم عليه السلام. ولكن اليهودية أحدثت في ملة إبراهيم ثلاثة أمور هي: أن بني إسرائيل مهما عملوا فهم شعب الله المختار. وقالوا بالعنصرية الإثنية المنسوبة لأبناء نوح عليه السلام. وقالوا باستعلاء ذكوري عقاباً لحواء على إخراجها آدم من الجنة.
والمسيحية كما قال السيد المسيح عليه السلام جاءت لإصلاح اليهودية ولكن كما بينها قادتها تجاوزت الميزان في أربعة أمور هي: إلزام البشرية بالخطيئة الأولى. وبأن من لا يؤمن بفداء السيد المسيح للبشرية لا حظ له في النجاة. وثالثاً: إعطاء الكنيسة وهي مؤسسة بشرية حقاً ثيوقراطياً منحه الباباوات للملوك. والتثليث اللهم إلا إذا اعتبرت الثلاثة أقانيم لا ذوات.
كذلك درسوا قضايا أخرى وأبرموا بشأنها اتفاقيات تخص الموروث الإنساني المشترك كالبحار، والفضاء الخارجي، وسلامة البيئة الذي بحث في عدة مؤتمرات كان آخرها مؤتمر باريس واتفاقية 12/12/2015م. وهي ما تسمى بحقوق الجيل الثالث، وتشمل الحق في البيئة، وهناك كذلك حقوق الجيل الرابع التي تشمل الحق في التنمية والحق في السلام.
الحقيقة أنه لم يعد هنالك شأن من شؤون الإنسان لم يدرس وتبرم بشأنه اتفاقيات ومعاهدات.
منظومة حقوق الإنسان هذه التي أبرمت بمبادرات دولية تقدمت بها الدول الغربية صارت تحت مظلة الأمم المتحدة منظومة حقوق إنسان دولية والالتزام بها. مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة يرصد موقف حقوق الإنسان في الدول ويراقبها بلا مساءلة. وهنالك مساءلة قضائية إقليمية كما في المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان. وفيما بعد كونت المحكمة الجنائية الدولية لمحاكمة الإبادة الجماعية، والحرب ضد الإنسانية، وجرائم الحرب.
الأمر الثاني: تحفظ بعض الدول الخاضعة للحكم الأوتوقراطي لا سيما في العالم الإسلامي على كثير من بنود معاهدات حقوق الإنسان بحجة أنها مفاهيم غربية وبالتالي فهي تمثل غزواً فكرياً وثقافياً لبلداننا. لذلك هم يرفضونها ويحتجون بالخصوصية الدينية والخصوصية الثقافية.
في دراسة نشرتها في نوفمبر 1998م أوضحت بالتفصيل أنه لا يوجد تناقض بين مبادئ وأحكام الإسلام والإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر في عام 1948م، ولكن الدول الأوتوقراطية تعترض على عشرة بنود في الإعلان تتعارض مع النظم الدكتاتورية. مثلاً البند (9) من الميثاق يقول: لا يجوز القبض على أي إنسان أو حجزه أو نفيه تعسفياً. بنود أخرى تنص على حرية التعبير، والتنظيم، والتنقل وغيرها من الحريات العامة. يمكن الرجوع لتلك الدراسة لبيان عدم وجود التناقض المزعوم. وفي كتابي عن حقوق المرأة الطبعة الثالثة الصادرة في عام 2010م تطرقت للتحفظات المثارة ضد معاهدة إزالة كافة أشكال التمييز ضد المرأة، ووجدت أن دولاً إسلامية تتحفظ على ستة بنود مثلاً المادة "2" التي تنص على أن الدستور لا يميز بين البشر والمادة "7" التي تنص على إلزام الدستور إزالة التمييزات وهكذا المواد المتحفظ عليها الأخرى: الأرقام 9، و15، و16، و29. وأوضحت أن هذه البنود لا تتناقض مع مبادئ وأحكام الإسلام.
الفريق الآخر غير الحكام الطغاة الذين يعترضون على معاهدات منظومة حقوق الإنسان العالمية هم فقهاء يتبعون فهماً للقرآن خالياً من التدبر، وفهماً للسنة النوبية غير معنية بصحة متنها بالقياس لنصوص القرآن، وبالقياس لمقاصد الشريعة، واتباعاً لاجتهادات فقهية متبعة للفقه الصوري الذي لا يراعي كما يجب العقل، والمصلحة، والواقع، ومقاصد الشريعة. هؤلاء يأتون بالحجج ضد كثير من المواثيق والمعاهدات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان.
المدهش أن هؤلاء الحكام وهؤلاء الفقهاء مع تحفظاتهم على كثير من مواثيق ومعاهدات حقوق الإنسان باعتبارها غزواً فكرياً وثقافياً وغربياً لا يستحون من الاعتماد على وسائل الحياة المنعمة الغربية، ولا على ما يشترون من أسلحة، ولا على اعتمادهم أمنياً على غيرهم.. لماذا تسمح الخصوصية الثقافية والدينية بهذه الممارسات وتكون عائقاً لاستصحاب منظومة حقوق الإنسان؟
والأهم من هذه الحجة لا أجد في منظومة حقوق الإنسان الحديثة حقاً لم يرد فيه نص من نصوص الوحي الإسلامي. الاستثناء الوحيد هو تلك النصوص الحديثة التي تتناقض مع الفطرة كحقوق المثليين في المجاهرة والزواج.
أما بالنسبة لنا ففي نصوص الوحي الإسلامي منذ 14 قرناً بيان واضح لحقوق الإنسان ولكن بسبب الركود الفكري، وتغييب العقل البرهاني، وتحكم الفقه الصوري، وطغيان الاستبداد السياسي القائم على التغلب لا الشورى ولا الحرية ولا العدالة فإن حقوق الإنسان صودرت فصرنا كمن بدأ ببداية حسنة وتدهور إلى حالة سيئة.
ولكي نثبت التوافق الجوهري بين منظومة حقوق الإنسان العالمية وأسس حقوق الإنسان في الإسلام نبدأ بتشخيص حقوق الإنسان:
أقول: حقوق الإنسان الحديث التي أهتدت إليها التجربة الإنسانية متفرعة من ستة أصول خمسة أصول في الظروف العادية وأصل في الظروف الاستثنائية ظروف الحرب.
مبادئ حقوق الإنسان الخمسة هي الكرامة، والعدالة، والحرية، والمساواة، والسلام.
كل نصوص حقوق الإنسان العالمية متفرعة من هذه الأصول.
هذه المبادئ منصوص عليها بوضوح في قطعيات الوحي الإسلامي.
بالنسبة للكرامة الإنسانية فإن النص واضح في النص على كرامة الإنسان من حيث هو إنسان قال تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) .
وبالنسبة للعدالة قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ).
وبالنسبة للحرية: (وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ) .
وبالنسبة للمساواة قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) .
وفيما يتعلق بالسلام قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَافَّةً) .
وبالنسبة للظروف الاستثنائية وحقوق الإنسان أثناء الحروب قال النبي محمد صلى الله عليه وسلم موجهاً الصحابة: "انْطَلِقُوا بِاسْمِ اللَّهِ ، وَبِاللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ، لا تَقْتُلُوا شَيْخًا فَانِيًا ، وَلا طِفْلا ، وَلا صَغِيرًا ، وَلا امْرَأَةً ، وَلا تَغُلُّوا ، وَضُمُّوا غَنَائِمَكُمْ ، وَأَصْلِحُوا وَأَحْسِنُوا ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ" . وقال: "اسْتَوْصُوا بِالأُسَارَى خَيْرًا" .
وفيما يتعلق بسلامة البيئة الطبيعية فهي كلها مستحقة الحماية إلا في حدود الانتفاع. قال تعالى معلناً حرمة الطبيعة: (وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) . والحيوانات ليست مخلوقات مستباحة بل هم أمم أمثالكم.
الرفق بالحيوان واجب ديني: "مَا مِنْ إِنْسَانٍ يَقْتُلُ عُصْفُورًا فَمَا فَوْقَهَا بِغَيْرِ حَقِّهَا إِلَّا سَأَلَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ" ومقولة: " في كل ذي كبد رطب أجر".
والنباتات كذلك محمية قال النبي صلى الله عليه وسلم:" مَنْ قَطَعَ سِدْرَةً صَوَّبَ اللَّهُ رَأْسَهُ فِي النَّارِ" . وهلم جراً. في الحرص على سلامة البيئة الطبيعة .
العامل الأول: هو الاعتماد في الفقه على المنطق الصوري الذي يقوم على القياس والإجماع ما أوصل الأمر لمقولة جوهرة التوحيد:
ومالك وسائر الأئمة وأبو القاسم هداة الأمة
فواجب تقليد حبر منهم كذا قضى القوم بقول يفهم
العامل الثاني: هو الجمود الفكري الذي ربط الفكر بالنقليات على حد قولهم:
العلمُ ما قد كانَ فيه حدثنا وَمَا سِوى ذَاكَ وَسْوَاسُ الشَّيَاطِينِ
توجه أودى بقيمة العقل البرهاني على حد قوله: من تمنطق تزندق. وقالوا عن الفلسفة:
لا خير ما في الفل أوله وآخره سفه!
الثبات مشروع في الثوابت وهي: التوحيد، والنبوة، والمعاد، والأركان الخمسة.
أما عالم الشهادة فهو يقوم على حقائق هي سنن النفس، والمجتمع، والطبيعة كما قال تعالى: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ) . ما يوجب علينا دراسة ومعرفة علم النفس وعلم المجتمع، وعلم الإنسان، وعلم الآثار، وعلم الاقتصاد، وعلم السياسة، وعلوم الطبيعة، وعلم الفضاء، بل كل ما في عالم الشهادة ندرسه ونكتشف قوانينه، وهي سنن الله.
الإنسان مستخلف في كل ما تطوله قدراته. إن الله يدير الكون كزمولوجيا، أما فيما تدركه معارف الإنسان فالإنسان مستخلف، ومكلف، ومساءل.
المنكفئون ظنوا أن الله يدير المجتمع كما يدير الكون. هذا إذا حصل يجرد الإنسان من حرية الاختيار، ومن التكليف، وبالتالي من الحساب.
هذا الفهم المنكفئ يجعل علوم عالم الشهادة كعلوم ثوابت العقائد والشعائر، ثابتة، ما يمنع حركة المجتمع، ويمنع استيعاب المستجدات.
بعض المفكرين سلموا بأن هذا هو الفهم الصحيح للدين، لذلك قرروا أن هذا الدين يمنع التطور، ويقف ضد سنن الحياة، لذلك جاءوا بنظريات للتحرير من ذلك الجمود أهمها:
نظرية أن نقوم بانقطاع معرفي من التراث.
نظرية أن الأديان كلها من صنع ذهنية الإنسان الميثولوجية.
نظرية أن قيمة النصوص نسبية.
وهكذا.. نظريات متعددة ولكن جوهر معناها التخلي عن الغيب، واعتبار الدين نفسه منشط ناسوتي، والإنسان هو المسؤول عن كل شؤونه ومصيره.
قال ابن مسعود: "إن للشيطان للإنسان نزغتان لا يبالي بأيهما ظفر: الإفراط والتفريط".
المنكفئون وقعوا في نزغة الإفراط. والمستلبون وقعوا في نزغة التفريط.
حبس الدين في ثقافة الماضي باطل.
قال ابن عابدين الفقيه الحنفي: "كثير من الأحكام يختلف باختلاف الزمان لتغير أهله، أو لحدوث ضرورة، أو فساد أهل الزمان بحيث لو بقى الحكم على ما كان عليه لزم منه المشقة والضرر بالناس. ما يخالف قواعد الشريعة المبنية على التخفيف ورفع الضرر". وقال ابن عقيل الفقيه الحنبلي: "السياسة ما كان فعلاً يكون الناس معه أقرب للصلاح وأبعد عن الفساد وإن لم يضعه الرسول ولا نزل به وحي". وقال الشاطبي بعقلانية مطالب الإسلام. وقال الغزالي بحجية الواقع. وقال الطوفي بحجية المصلحة.
ومثلما نصنف المنكفئين مُفْرِطِين نصنف المستلبين مُفَرِّطِين:
المجتمعات التي نصت على طرد الدين من الحياة العامة في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين عادت للدين، بحيث شهدت الأصولية الدينية في كل الأديان صحوة في الثلث الأخير من القرن العشرين وحتى يومنا هذا. وحتى في المجتمعات التي تخلت في الغالب عن الإيمان بالله، كما في دول شمال أوربا – مثلاً- النرويج، فإن الفراغ الروحي ملأته اعتقادات عن أرواح وأشباح تعلق بقدراتها كثيرون كما روت صحيفة نيويورك تايمز العالمية في عدد يوم 26/10/2015م.
هنالك أسباب تجعل للدين وظيفة لا غنى عنها في نفس الإنسان وفي حياته هي:
الإنسان بفطرته يبحث عن غاية للحياة.
الإيمان يضاعف قدرات الإنسان أضعافاً مضاعفة.
القانون الأخلاقي يتطلب أساس روحي.
الإنسان مجبول على حب الاستطلاع المعرفي، وهنالك أربعة أمور غيبية تتجاوز قدرات الإنسان العقلية وليس لها من جواب إلا في الدين هي:
كيفية الوجود من العدم.
نشأة الحياة من الجماد.
نشأة الإنسان في الحياة.
ما هية مصير الكون.
وطرد الدين من الحياة يأتي بنتائج عكسية كما حدث في تجربة الاتحاد السوفيتي، وفي تجربة تركيا الكمالية (نسبة لمصطفى كمال). وطرد الدين من الحياة مع كثرة المؤمنين به لا يكون إلا عن طريق سلطة دكتاتورية. لذلك قال أحد كبار العلمانيين وهو تشارلس تيلور وهو داعية للبرالية: إذا طردنا أصحاب المرجعية الدينية من العمل العام فنحن نخون مبادئنا التي تحترم الحرية والتعددية. المهم أن يقبلوا هم التعددية واستبعاد العنف.
باسم العلمانية ارتكبت فظائع وتعديات على حقوق الإنسان كما فعل هتلر. وستالين وغيرهما من الطغاة. وباسم الدين ارتكبت فظائع وتعديات على حقوق الإنسان كما فعل السفاح العباسي في التاريخ القديم وكما فعل نظام الإنقاذ السوداني في التاريخ الحديث وكما تفعل الآن حركة القاعدة وخلافة البغدادي.
العلمانيون الذين يبطشون بالناس يبررون أعمالهم بأنهم أداة للإرادة العامة الأدرى بمصالح الناس. أما الإسلامويون الذين يبطشون بالناس فإنهم يدعون أنهم الفرقة الناجية، ويكفرون الآخرين ويهدرون دماءهم مستشهدين بأحاديث آحاد ضعيفة مثل: "بُعِثْتُ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ بِالسَّيْفِ حَتَّى يُعْبَدَ اللَّهُ تَعَالَى وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي" هذا الحديث يناقض القرآن إذ (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) . ويناقض الواقع إذ الساعة لم تأت.
ويرجى أن تبين كل الأديان تقبلها لحقوق الإنسان، وسيكون لهذا الأمر نتيجتان عظيمتان. الأولى: التقارب بين الأديان عبر احترام حقوق الإنسان. والثانية: تجذير حقوق الإنسان أخلاقياً وروحياً.
هذا الإجراء بالنسبة لنا كمسلمين سهل ومنطقي للأسباب الآتية:
ديننا يمتاز بالاعتراف للإنسان كإنسان بصرف النظر عن ملته بالكرامة: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) .
وديننا يعترف بالتعددية الدينية للبشر: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ).
وديننا يعترف بالتنوع الثقافي والتعايش السلمي بين الناس: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ) .
وديننا يضع أساساً لثقافة دينية مشتركة للأديان الإبراهيمية الثلاثة وهي ما تدين بها أغلبية البشر: (قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) .
نحن أولى الناس بطي صفحة الحرب الباردة بين الأديان، وتأصيل وحدة العقيدة بين الأديان الإبراهيمية. لقد نص القرآن على: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ) .
ومهما غالط المغالطون فإنه قد جاء في خطاب إلهي لإبراهيم عليه السلام في سفر التكوين (17/20): "أما إسماعيل فقد سمعت قولك فيه وها أنا أباركه وأثمره وأكثره كثيراً جداً جداً وأجعله أمة عظيمة".
وإسماعيل هو جد محمد صلى الله عليه وسلم.
وجاء في إنجيل يوحنا (15/ 14-17) أما المعزى الذي سيبعثه الله باسمي فهو الذي سيذكركم بكل الذي أقوله لكم". هذا الوصف لا ينطبق على الروح القدس كما يزعم بعض الناس الموجود في اعتقادهم قبل ميلاد عيسى (ع) بل ينطبق على النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
ولكن حتى إذا اختلفوا حول هذا التفسير لنجعل من ملة إبراهيم أي التوحيد، ومكارم الأخلاق، وحقوق الإنسان أساساً للتعاون الديني: (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) .
هذا التطور المستنير هو الذي يليق بإرادة الله الرحمن الرحيم. وفيما يتعلق بالخلافات نلتزم: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) ، (ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) .
ثقافة هرمجدون، ويوم الملحمة تحول دون هذا الفجر الإنساني، وتجعل العداء والتربص بالآخر واجباً على الناس. علينا أن نستعين بحقائق الوحي والوعي الإنساني لهزيمة ذلك الفكر العدمي الذي ينذر بقيامة من صنع البشر.
القيامة حدث غيبي من صنع الله عندما تأتي تأتي بغتة.
في الختام: حقوق الإنسان من صورة الإنسان الفطرية، عززتها حقائق الوحي وفصلتها التجربة الإنسانية النيرة، فهلا التمسنا لها من الدين عمقاً روحياً وانتظرنا على الالتزام بها جزءاً أخروياً.
(وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ* وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ* وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ) .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.