محمود دفع الله الشيخ – المحامى قناعتى الخاصة أنه مامن دولة على الأرض تمتلك إرثا غنائيا مثل الذى يمتلكه السودان ،غناء شعبيا كان أم حديث .ورغم ذلك فشلنا فشلاً ذريعا فى تسويقه للخارج! فشلنا؟ !! من قال أننا حاولنا من الأساس؟! ! إن هى إلا بضع محاولات خجولة ،وهذا ليس بموضوعنا، على الأقل حالياً. المهم، هذا الإرث الغنائى يكفينا حتى يرث الله الأرض ومن عليها،وبالتالى لاحوجة لناشئ جديد . يكفى المغنين الشباب ترديد ماتركه لهم سلفهم الصالح، شريطة عدم التشويه. هذا إن لم يستمسك ورثة أى فنان كبير بقوانين حقوق الملكية الفكرية! ! بالمناسبة، إلى متى يعتمد البعض فى معيشتهم على آبائهم حتى وهم فى القبور؟! قدم السودان فنانين عظام، منحونا طربا أصيلا، وتغنوا بكلمات لشعراء امتلكوا ناصية الشعر والكلمة المموسقة، ودوزنت تلك الكلمات ألحان سماوية بأيادى ملحنين عباقرة، فاكتمل الثالوث، فتشبعت النفوس والقلوب والعقول بفن محترم، هذب الناس وأحسن تهذيبهم. شهدت الأغنية السودانية بعد أغانى الحقيبة أربع مراحل. الأولى كانت بظهور أحمد المصطفى الذى عاصر فى صباه أحد فطاحلة اداء أغانى الحقيبة وهو محمد أحمد سرور ، ومن خلاله -أحمد المصطفى- تغير ملبس المغنين من الرداء البلدى للأفرنجى، كما تغير الأداء لتصاحبه موسيقى بآلات حديثة ومفردات جديدة، مع الإبقاء على الرصانة فى الأداء . مدرسة أحمد المصطفى جاراها وانتمى لها عدد كبير من الفنانين أمثال: التاج مصطفى وعثمان حسين (الذى صار ملكها المتوج لاحقا) و عثمان الشفيع وعبدالعزيز محمد داؤد وصلاح محمد عيسى. المرحلة الثانية، والتى ظهرت أثناء سريان المرحلة الأولى أو من خلالها كانت مرحلة إبراهيم الكاشف، والذى أظن أنه قد لاقى ظلما لايغتفر. فالكاشف هو المجدد- الأكثر تأثيراً فى تلك الحقبة – لطريقة الأداء والتلحين والأدوات الموسيقية المصاحبة،مع الوضع فى الإعتبار أنه كان أميا ! أغانى وألحان الكاشف صالحة لكل عصر ،وكل أذن، ومطلب كل ذى كبد رطب. المرحلة الثالثة كانت تخص الفنان إبراهيم عوض، والذى سماه الصحفى/ رحمى سليمان (الفنان الذرى)، إذ أن نجمه قد صعد فى أوائل الخمسينيات بعد سنوات قليلة من نهاية الحرب العالمية الثانية والتى تم من خلالها استخدام القنبلة (الذرية) لأول مرة . وقد جاء ابوخليل بالأغنية الخفيفة الراقصة، مع تسريحة جديدة للشعر فكان أن سموه أيضاً (الفيس بريسلى)السودان. المرحلة الرابعة والتى بدأت بعد سنوات سبع من ظهور إبراهيم عوض، كانت مرحلة محمد وردى، والذى جلس على كرسى العرش ولم يغادره إلا للتراب، متوفيا إلى رحمة مولاه . لماذا؟ . قبل الإجابة على هذا السؤال لابد أن نقول أن جميع الفنانين الذين ظهروا بعد وردى لم يخرجوا من شكل المراحل الأربع المذكورة ،وذلك بأن انتمى كل واحد لمرحلة معينة وتلبس بلبوسها، أو بخلط مرحلتين مع بعضهما. .وأبرز من ظهر فى تلك الفترة كانوا : الكابلى ، الجابرى، صلاح مصطفى، إبن البادية،محمد الامين ،زيدان،محمد ميرغنى. ..الخ. وامتد هذا الأمر بشاكلته تلك حتى أواخر السبعينيات، يوم أن بدى للوجود الفنى مصطفى سيد أحمد. وخلال تلك الفترة دافع الفن الشعبى عن وجوده، بل واستمات فى ذلك، وتبين للجميع أن الحداثة الشعرية واللحنية والأدائية لايمكن أن تركل الغناء الشعبى خارج الصورة،فكان بادى والكحلاوى، والمدهش حد الامتاع محمد أحمد عوض،وتلك أسطورة ينبغى أن يفرد له مجال منفصل. كان مصطفى مشروع فنان مكملا لما بدأه وردى ،وبانيا لنفسه طريقاً خاص ومرحلة خامسة، ولكن عوامل كثيرة جعلت من مصطفى مشروعا غير مكتمل. أولها المرض العضال، وثانيها حالة قوقعة ارتضاها لنفسه،وثالثها استهلاك بعض (السياسين) له ،حتى اوقعوه فى فخ الرمزية المبهمة ،وانهكوا بدنه العليل بطول السهر، وهو رجل خجول ،شديد الأدب، لايحرج شخصاً ولايرفض له طلبا . أتى على مصطفى دهر -دون ذنب جناه- إن صرح أحد الناس بعدم استساغته لفنه فهو عندئذ لمن الفاجرين، وعلى أسوأ تقدير يتم تصنيفه بعدم الوطنية!. وأعتقد أن المرض لم يمكن مصطفى من الانعتاق من هذا الأسر الذى فرض عليه، خاصة إذا وضعنا فى الإعتبار أنه قد رحل عن عالمنا وهو لم يتجاوز الرابعة والأربعين من عمره !. انا من الجازمين أن مصطفى أفضل من يغنى غناء الآخرين. ولو كنت مكان وردى لتنازلت له عن (قلت ارحل) و لتنازل له الكاشف عن كل أعماله، وكذلك محمد ميرغنى وغيرهم !! فهل لفنان يغنى لوردى أغنية بأداء يفوق أداء وردى لها أن يرتضى لنفسه ذلك التشرنق إن لم يكن الحصار قد شدد عليه حتى طبق على إبداعه وأنفاسه؟! غفر الله لكم خطاياكم يا هؤلاء ، فى حق مصطفى والوطن وإن كان مقصدكم نبيلا. عودة إلى وردى، وردى جلس على العرش ولم يتنازل عنه لعدة اسباب وعوامل : ذكاؤه الفنى ،وعبقريته اللحنية ، وعدم التواجد داخل قالب واحد(شعرى كان أم لحنى)..والأهم من ذلك كله أنه جعل الوطن فى حدق عيونه وبين أوتار عوده، ما أن تغنى وردى بأغنية إلا وبحث الناس عن الوطن فى دواخلها. فى غناء وردى لم يكن الناس يبحثون عن (سعاد ومنى وفاطمة ورجاء وثريا وغيرهن من الفتيات ومسماهن). ..كانوا يقرأون إسم السودان ويسمعونه دون أن تلفظه شفاه وردى. لمحوه فى عينيه، وفى تجاعيد جبينه التى حاكت اقتران النيلين ،ابيضه مع أسوده. صحيح أن الغناء والمغنيين قبل وردى قد ساهم وساهموا فى الحركة الوطنية أيام الإستعمار ، وساعد وساعدوا فى دحره وطرده، وصحيح أن ذاك المجهود قد إستمر فى حقب وطنية أخرى، ولكنه كان يتصف (بالجماعية)، وحده وردى من قلده الشعب تاج (ملك ) النضال الوطنى عبر الفن ، هذا دون مساس بحق الفنان محمد الأمين الذى له سهم ونصيب فى إلهام والهاب الشعور الجماهيرى بكل ماهو متعلق بالوطن، ولكن إرادة الله وحدها من جعلت وردى ذياك الملك. بأن جعلته فنانا صاحب مشروع مكتمل، (أداءً ولحنا وكلمة ورسالة وموقفا وشخصية وثقافة). وردى أدرك بذكائه أن الفن يعنى (الوطن والحبيبة والناس)،فغنى لهم أجمعين.ولم يجعل القيود تسلب إبداعه الفنى، فتحرر من كل قيد ، وتحرك بحرية كاملة. ليستمتع بقوة الرفض وسرعة القبول ومجاراة الكلمة الشعرية ومطاردتها ولو كانت فى قرار مكين. ولذا إكتمل مشروعه ،ودام له ملكه الفنى حتى وهو داخل فجاج الأرض . الشكر اجزله لكل المغنين والشعراء والملحنيين والعازفين ممن أسهموا فى ذلك الإرث الجميل. والرحمة والمغفرة للراحلين. محمود