لم يتملكنى شوق ولهفة خلال أسفاري علي تواضعها مثلما ما تملكنى وأنا في الطريق الي المغرب! ربما لأنى زرت جنوب إسبانيا ( الأندلس ) من قبل وهي أفضل ما زرت من البلاد . المغرب فيها إرث زاخرمن حضارة الأندلس جاء به النازحون من أهل الإندلس من المرابطين والموحدين الذين نزحوا الي المغرب في أعقاب سقوط غرناطة آخر ممالك العرب في الأندلس . كثيرة هي المدن في العالم وكثير تنوعها وتلونها وإختلافها ، لكن يبقي للمدن المغربية سحرها الخاص بإعتبارها مدن التاريخ والعراقة والإصالة والحضارة والتفرد في الصناعات اليدوية . لقد وقع إختياري علي مدن بعينها ،لإنه ليس بإلإمكان زيارة كل المدن المغربية الجميلة في رحلة واحدة . لقد وقع إختياري علي ( الدار البيضاءوالرباطومراكشوفاس) . لم يكن إختياراً عشوائياً ، إنما قصدت هذه المدن بالتحديد لأنها المدن الملونة . الدار البيضاء بحكم موقها وهي ترقد علي صدر المحيط الأطلسى ، منحها البحر لون ثوبه الأزرق فأكسبها جمالاً فوق ما فيها من جمال ، أما الرباط التى أصبحت عاصمة للدولة في آواخر القرن العشرين حيث كانت العاصمة في فاس ، بخل عليها البحر بثوبه الأزرق رغم أنها تتكىء علي كتفه ! لكنها غزلت من ( الفلاحة ) ثوبها السندسى الأخضر زاهيا وجميلا..(الفلاحة )يقصدون بها الزراعة ، هى إحدي عبقريات المغرب المتفردة والعجيبة . لأول مرة أري أمامي مثلثات ومربعات ودوائر وأشكال من الهندسة الزراعية تمشى حية ومورقة وأنيقة في الطرقات والساحات والحدائق ! . الفلاحة في المغرب إبداع وفن قبل أن تكون مجرد زراعة كما هي في بلدان أخري أو إقتصاد أوتجارة ! .أما نخيل المغرب فأمره عجب ! أنيق وباسق وممشوق القوام ، لايشبه النخيل في العراق ولا نخيل الساحل الجنوبى في فرنسا حتى أطراف مونت كارلو في موناكو، وهو الذى ُزرع خصيصاً لإغراض الزينة والتجميل والسياحة حتى ينسجم مع رونق ساحل ( الكوت دازور ) حيث للبحر زرقة غير زرقته في أي مكان آخر !، ولايشبه نخيل الساحل الغربى في كليفورنيا الذي قصد منه "ديكوراً "لصناعة السينما هناك !. لاأتصور نخيلاً بمثل هذا الطول الباسق يمكن تلقيحه يدوياً أو حتى آليا ! ربما كان إطاراً جمالياً يعطي للمدينة رونقها ويكمل جمال الهندسة الفلاحية البديعة فيها . تذكرت نخيل الإمارات الأنيق "المدلل" حتى أصبح تلقيحه تكنولوجياً بمجرد كبسة علي جهاز " بخاخ " !.أما مراكش فكانت وفيةلترابها الأحمر ، فغزلت ثوبها وحاكته من تراب الصحراء " الطوبى " اللون ، وهي مدينة داخلية يسمونها المدينة الحمراء وانا سميتها المدينة " الطوبية " . أما مدينة فاس ، فهي المدينة البيضاء ، وأكثر ما يميزها بياض لون بيوتها ، التى تتسلق جبال الأطلس حتى يخيل اليك إنها ستنكفىء وتسقط علي وجهها من شدة إنحدار سلسة جبال الأطلس!!غريب ومختلف هو المناخ في بلاد المغرب ، مناخ جعل النخلة بنت الصحراء تجلس محازاة شجرة الزيتون بنت البحر المتوسط ،و تهفو اليها وتهمس لها و تعانقها وهما في حقل واحد ! الم اقل لكم أن " الفلاحة " في المغرب فن وإبداع وعبقرية وليست مجرد زراعة كما هي في البلدان الأخري . أكثر ما إشتهرت به مدينة فاس هو العلم ، حيث قامت فيها جامعة القرويين سنه 859م عندما لم تكن هناك جامعة غيرها في العالم . توجد فيها كل معالم وآثار الحضارة الإسلامية من إبراج وقصور وحصون وبوابات ونوافير تأخذ الألباب. من شدة جمال مدينة فاس العتيقة وتفردها ضمتها منظمة اليونسكو كلها ضمن قائمة التراث العالمي الإنسانى .تميزت أيضا بعراقة وأصالة الصناعات الحرفية واليدوية المتنوعة . كل مدارس الإبداع الحرفي موجودة في فاس من صناعاتالنسيج والخزف والخشب والفخار والفسيفساء والنحاس والحديد والجلود في إتقان محذوق بفن شديد البراعة .نزلت فندقاً يقع مباشرة علي شارع محمد الخامس وهو الشارع الأفخم ليس في فاس وحدها بل في باقي مدن المغرب الأخري أيضاً .الشارع مصصم علي غرار شارع الشانزليزيه في باريس ليحاكى فخامته ،وفيه أيضاً ملامح من شارع الحمراء بمقاهيه الأنيقة في بيروتقبل الغزو الإسرائلي عام 1982.توجد مكتبة بالقرب من الفندق سالت صاحبها أن يدلنى علي أكثر الصحف التى يمكن للسائح من أمثالي أن يطالعها فقال : أمن السودان أنت ؟ قلت له نعم ثم قال : أرغب أن أتحدث معك تفضل إجلس فجلست . قال لي أكيد تعرف العالم العلامة عبد الله الطيب قلت له : كل متعلم من أهل السودان يعرف عبدالله الطيب عطر الله ثراه ،ثم أردف يقول كان أستاذا للدراسات العليا في جامعة سيدي محمد بن عبدالله هنا في فاس وفاس كما تعلم هى العاصمة العلمية للمغرب وأهلها لديهم رصيد كبير من الأورستقراطية والعلم والثقافة ، الأمر الذي ينظر اليه أهل المدن الأخري بحساسية وغيرة . الرجل كان مثقفا ،لقد حدثنى عن حب أهل المدينة لعبد الله الطيب حديثاً شيقاً وفيه وفاء ومحبة ليس لعبد الله الطيب فحسب ، ولكن لأهل السودان قاطبة الذين تعرفوا عليهم من خلال بساطة وتواضع وسماحة عبدالله الطيب وإختلاطه بهم وزياراتهم له في بيته وهو أستاذ مرموق له من السمعة والصيت النصيب الأكبر في مجاله .هكذا كان العالم العلامة الراحل عبدالله الطيب خير سفير لبلاده في المغرب علي إمتداد سنواته فيها ، ترك خلفه تقديرا وإحتراماً كبيرين ، تجلي في الإحتفاء بالذكري السنوية لوفاته ، وماتزال الندوات تنعقد في مختلف المدن المغربية تبحث وتنقب فى ما تركه من تراث غزير في كافة ضروب المعرفة .لكن يا تري هل صاحب المكتبة هو الوحيد الذي يحب السودانيين ويعجب بهم ! سائق التاكسى الذى حمّلنى تحاياه للرئيس الراحل جعفر نميري عليه الرحمة فحزن حزنا شديدا عندما قلت له : البقية في حياتك . في سوق فاس القديم المقام في اعلي الجبل الذي لابد له من قوة بدنية لصعوده ! وبدون زيارته لاتكتمل زيارة فاس ، خاصة الجزء الخاص بالسحر والسحرة ، إستوقفنا متجر صغير فيه لوحات من تحف الصناعات اليدوية المدهشة ، ظللنا نتأمله في إعجاب وإبهار ، فإذا بصاحب المتجر يخرج الينا ويسألنا إن كنا من موريتانيا أو من السودان ! قلت له : ماذا تري ؟ قال : من السودان ، ثم دعانا في حفاوة للدخول وقدم لنا مقاعداً صغيرة وطلب من الصبى أن يذهب يعد لنا شاياً مغربيا مخصوصاً . أكيد طلب إعداد الشاي المغربى بتلك الطريقة يدلّل علي أقصى درجات الحفاوة والكرم ، ربما يعادل مايذبح للضيف في السودان .فسألنى مباشرة : هل تعرف بلداً إسمه " القرير " فى الجزء الشمالي من السودان ؟ فضحكت قائلاً : من لايعرف بلد الشعر والشعراء وقريتى علي مرمى حجر منه ! ثم أردف قائلاً لدي أغنيات كثيرات للطمبور وأنا احب هذا اللون من الغناء ! ثم بدأ يحدثنا عن السودانيين فقال : " في فاس عرب وأفارقة وأجانب كثر، ولكن يحظى السودانيون دون غيرهم بمحبة أهل فاس علي وجه الخصوص وهي محبة يستحقونها من واقع معايشتنا لهم هنا. وهل محبة أهل فاس للسودانيين إنتهت هنا ! كلا ، وماذا عن تلك السيدة "الفاسية " الصوفية التى تلبستها حالة وجد صوفي وهي تلقي بنفسها علينا ونحن في الطريق الي حمامات" سيدي يعقوب " تبركاً بالطريقة التيجانيةو ما نحن بتيجانية أصلاً ! الحديث عن مدن المغرب الملونة ومحبتهم للسودانيين لاينتهى، ولكننكتفى بهذا القدر لأن البعض ربما يضجر من قراءة المقالات المطولة . [email protected]