الرقص والأصول الثقافية للموسيقى ليس من شك في أن فن الرقص يمكن ان يلقي مزيداً من الضوء على مشكلة الهوية، فهو فن رئيسي ومكون أساسي في مفهوم الموسيقى كما شرحنا. ويمكننا إختيار إيقاع الدليب عند الشايقية كنموذج نستعين به في هذا الصدد. فبينما يعتبر إسماعيل عبد المعين هذا الإيقاع إيقاعاً أفريقياً من نوع "الثلاثي المقلوب" يراه بعض الموسيقيين، ومنهم جمعة جابر، نوعاً غريباً وفريداَ ضمن عائلة السلم الخماسي. ولكي نتحاشى مزيداً من الإرباك ينبغي أن نذكر عند هذه النقطة أن الإيقاعات ربما تكون ليس فقط متميزة وفريدة ولكنها ربما تذكرنا في إحدى جوانبها بإيقاعات معروفة في أماكن وثقافات بعيدة. لكن لن تنشأ أي مشكلة ذات خطر متعلقة بتاريخ أو تقنية الموسيقى إذا إفترضنا جدلاً أن تشابه ما في الإيقاع نتج عن إتصال وإستلهام لعناصر فنية أجنبية، خاصة وأن الأساليب والتقنيات الفنية من أكثر العناصر الثقافية قدرةً وإستعداداً على التفاعل مع المؤثر الخارجي والاستجابة لأي باعث يمكن أن يدفعها نحو الجديد، لذلك من المعتاد أن يلتقط الفنان ما يناسبه من العناصر الأجنبية ويستوعبها ضمن البناء العام لمؤلفه الموسيقي. كما أن هجرة الآلات والأساليب الموسيقية كان دائماً نمطاً ثقافياً معتاداً. فمثلاً هناك تشابه في الشكل المقوس للآلات وطريقة إستخدام الأوتار نجده في آلات قبيلة القوجي في غرب إفريقيا وفي الرباب العربية، وتشابه في آلة الإندنقيدي في أوغندا وآلة الإيزيزي عند قبيلة الواقوقو في وسط تنزانيا والعود الوتري المقوس في الصين. هذا التشابه يمكن رده إلى التجاور الجغرافي بين الشعوب، مثل شمال أفريقية وجنوب الصحراء، أو تفسيره بحركة التجار العرب بين جنوب شرق آسيا وساحل أفريقية الشرقي، أو تفسيره بنظرية الإختراع المتوازي لدى الشعوب في وقت واحد أو أوقات متقاربة. المقصود، إذن، أن المشابهة بين أي إيقاع سوداني وآخر أجنبي لا تفيد بالضرورة بوجود أصول إثنية أو ثقافية مشتركة، إذ لا يمكن الإفتراض مثلاً بوجود مثل هذه الصلة الإثنية أو الثقافية بين الصينيين وقبيلة الواقوقو. ماهو جوهري في هذا السياق أن إيقاع الشايقية كشكل موسيقي هو الأساس الموسيقي الذي إنبنى عليه رقصهم ضمن نسيج إجتماعي ومنظومة قيم وتقاليد متوارثة. من ناحية أخرى لا يمكن وصف هذا الإيقاع بالغرابة والتفرد، كما يقول جابر، مثلما لا يمكن بنفس القدر إضفاء صفة الغرابة والتفرد هذين على إيقاع المردوم عند الحوازمة أو النقارة عند البقارة أو الدلوكة عند الجعليين. إستكشاف الأساس الإستطيقي لما نعتقد أنه قيم فنية مشتركة بين رقص الشايقية ورقص المجموعات الإثنية الكبرى ذو صلة مباشرة بالسؤال حول الأصل الثقافي لموسيقى ورقص هذه المجموعة وهذه المجموعات الأخرى. في هذه الأرض السودانية الشاسعة والمترابطة في نفس الوقت تساكنت شعوب ونشأت بينها كل أشكال العلاقات الممكنة. ومن الممكن حتى لغير المتخصص أن يلحظ الكثير من المعالم المشتركة خلف هذا التنوع في الموسيقى والرقص، خاصة بين مجموعات السكان الرئيسية. وإذا ما أجريت بحوث متخصصة في مجال الرقص ستبدو هذه العناصر المشتركة أكثر وضوحاً وتحديداً في البنية الشكلية العامة لحركة الرقص. هناك الكثير من القواسم المشتركة في بنية الحركة الأساسية والوحدات الجسمية التي تتمركز فيها الحركة وينبني عليها الأسلوب الرئيسي في رقص الشايقية ومثيلاتها في رقص المجموعات الأخرى في وادي النيل وكذلك بعض المجموعات الرئيسية في الشرق والغرب. وقد ظل الطمبور، في شكله وعدد أوتاره الآلة الرئيسية عند المحس والدناقلة والشايقية والمناصير والبجة وبدرجة أقل عند الجعليين والبطاحين،كذلك نجده عند مجموعات في جبال النوبة والأنقسنا. أما الطبل الأفريقي في أشكاله وأحجامه المختلفة فهو أداة الإيقاع الرئيسية في كل أطراف السودان. إحدى معالم الرقص الرئيسية المشتركة بين سكان وادي النيل الأوسط والعديد من المجموعات الكبرى في السودان هو تميز العنق والصدر كمرتكز للحركة الرئيسية التي تتكون منها وحولها البنية العامة لمجمل الرقصات. يتجلى ذلك في رقص سكان وادي النيل الأوسط المتحدثين بالنوبية وبالعربية ولغات أخرى. في كردفان نجد إيقاع الطمبرة أو الكرير وشكل الرقص المصاحب له تركيزاً على الصدر والرقبة عند كثير من المجموعات مثل البديرية والجوامعة، والطمبرة إسماً وأداءً معروفة لدى الجوامعة والجعليين. في رقصات الجراري والهسيس والتوية عند بني جرار والحمر ودار حامد والكبابيش والسلامات تعتمد الحركة أيضاً على الصدر والرقبة. كذلك الأمر في رقصة النقارة عند المسيرية ويتجلى في أداء المرأة، ويتبدى عنف حركة العنق في أداء التعايشة في دارفور خاصة عند قائد المجموعة. في أداء المردوم عند الحوازمة ترقص النساء معتمدة على الصدر والعنق بينما يركز الرجال على ضربات الأقدام لإنتاج الإيقاع. وفي جبال النوبة يعتمد إيقاع ورقصة الكرنق على ضربات الأرجل وحركة العنق. في منطقة الأنقسنا وبين البرتا نرى التركيز على الصدر في أداء المرأة. بالطبع لكل مجموعة مما ذكرنا أسلوبها الخاص الذي يميزها لكن تظل الوحدات الجسمية محور الحركة الراقصة هي الصدر والعنق. على الرغم من إختلاف الإيقاع تذكرنا الحركة المتموجة للصدر والعنق في وضعهما الأفقي لدى البجا في الشرق والحمر في كردفان بحركة عنق الجمل، وليس مصادفة أن كلا المجموعتين من رعاة الإبل. لكن تبدو الحركة في الرقص أكثر تطابقاً بين مجموعة البجا ومجموعة الجعليين بخلاف الشايقية. فكلا المجموعتين يستخدمان آلة الدلوكة ومن السهل على الرجل والمرأة في كلا المجموعتين الرقص على الإيقاع الأساسي لهذه الآلة. كذلك يمارس البجا والمجموعات الكبيرة في كردفان عادة البطان بنفس أدائها عند المجموعات النيلية، وتمارس العرضة كذلك في دارفور. ختاماً، يمكن القول بأن أنواع الفنون التي تمارسها هذه المجتمعات السودانية وكل التقاليد المرتبطة بها متجذرة في ثقافات محلية ضاربه في القدم، وتعكس هذه الفنون الطبيعة الداخلية الديناميكية لهذه الثقافات والتفاعل والتأثير المتبادل بينها. فما هو مشترك بين هذه الثقافات وما يميز بعضها عن بعض هو ما نراه من تنوع ناتج عن إختلاف البيئات الجغرافية في هذه الرقعة الشاسعة، إختلافاً هو نفسه أحد أهم أسباب تكامل هذه البيئات بما فرضه من ضرورات إقتصادية جمعت بين شعوب وادي النيل وشعوب السهول من حوله. وفق هذا المنطق لا يمكننا تفسير التطور الجاري في الموسيقى والرقص في السودان على أنه نتاج لعمليات مثاقفة يشكل فيها فعل التعريب العنصر الطاغي الغالب، أو أنه نتاج فني لجماعة أضحت "عربية" بالفعل. أخيراً، هذا التشابه والتطابق أحياناً في البناء الحركي في رقص الجماعات الإثنية الكبرى وكذلك التشابه في المفاهيم الجمالية وأصول هذا الفن لهو ذو دلالة فنية وثقافية عميقة لدى الباحث الإستطيقي ومؤرخ الفن مثلما له دلالة تاريخية وحضارية لا يمكن تجاوزها عند عالم الآثار والتاريخ والآنثروبولوجيا. وعند هؤلاء جميعاً لا يمكن أن يكون مثل هذا التشابه من قبيل المصادفة.نواصل.