بسم الله الرحمن الرحيم لقد تواصلت المقاومة الشعبية لنظام الإخوان المسلمين في السودان طوال السبع وعشرين سنة الماضية بلا كلل أو ملل، وما انفكت حركة الجماهير تعلو وتهبط مع الرياح والعواصف السياسية الموسمية التى هبت على بلادنا، والقاع الصخري للقوى الوطنية القابضة على الجمر صامد وباق كالبلّور ومقيم ما أقام جبل عسيب ومستمسك براية النضال دون وهن أو جبن. ومهما استطال الظلام الإخواني الحالك فإن شعبنا يتذكر ليال أشد بأساً ودمساً مرت بتاريخه الحديث والقديم، وتجاوزها في نهاية الأمر، إذ ليس هناك ليل ما أعقبه فجر؛فلقد حكمنا الأتراك العثمانيون في القرن التاسع عشر لثلاث وستين عاماً – 1822/1885م– وجلبوا السخرة والقهر والاسترقاق والاستعلاء العنصري والشذوذ الجنسي….. وبطش الإنكشارية الباشبوزوق بجدودنا وأجلسوهم علي الخوازيق وأدخلوا القطط في سراويلهم وضربوها بالسياط، واستخدموا شتى آليات التعذيب التركي المعروفة آنئذ: الفلقة bastinado "أم سعد الله" والتشعيب "الصليب" ….إلخ؛ وما فت ذلك فى عضد السودانيين الذين رفعوا شعار العصيان ضد الجبايات الجائرة (عشرة رجال في تربة ولا ريال في طلبة)، وصعدوا به حتى بلغوا سقف النضال المسلح عام 1881م بقيادة الزعيم الوطني محمد أحمد المهدي، وما هي إلا بضع سنوات حتى دخلوا الخرطوم فاتحين منتصرين فى يناير1885م. وحقاً كما قال المولي عز وجل: (ألم. غلبت الروم فى أدني الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون.) –إفتتاح سورة الروم. بيد أن الثورة الوطنية المهدوية تمت سرقتها، كما ظل يحدث لكافة الثورات والانتفاضات بالمنطقة العربية حتى اليوم، واستحالت إلي ملك عضود أخذ بتلابيب أهل السودان لثلاث عشرة سنة حسوما، بينما استمرت المقاومة منذ اليوم الأول لحكم الخليفة عبد الله ول تور شيل، بدءاً بثورة الأشراف التى راح ضحيتها نفر من آل الإمام المهدي ومن أبطال الثورة، مروراً بالعديد من شيوخ القبائل ومشايخ الطرق الصوفية والقادة العسكريين الشجعان النوابغ مثل حمدان أبو عنجة والزاكي طمل،……. حتى قال الحاردلو شاعر البطانة ملخصاً القضية وعاكساً المزاج الشعبي العام: ناساً قباح من…………….يوم جونا جابولنا التزرعة ومن البيوت مرقونا أولاد ناس عزاز متل الكلاب سوونا يايابا الفقس….وياالإنجليز ألفونا! وبالفعل جاء الجيش الإنجليزي المصري بقيادة الجنرال الإنجليزي هيربرت كتشنر بحجة إنقاذ شعب السودان من البطش المهدوي، ولكنها دعوة حق أريد بها باطل؛ فقد أناخ الإستعمار البريطاني كامل الدسم علي صدر البلاد لنيف وخمسين عاماً، ولم تنطل طبيعته الكولونيالية على أهل السودان على الرغم من أنه كان يسمي (الحكم الثنائي الإنجليزي المصري)، وقد ألحقت حكومة السودان بوزارة الخارجية البريطانية وليس بوزارة المستعمرات، وعلى الرغم منالعلمين – البريطاني والمصري – ومن أن به شيء من المشاركة المصرية، فى شكل موامير مراكز خاضعين للمفتشين الإنجليز، وبضعة قضاة شرعيين سرعان ما تمت سودنتهم. ولأنه لم ينطل على السودانيين، فقد اندلعت المقاومة الشعبية له منذ أيامه الأولي: وخلال الحكم الوطني رزئت البلاد بثلاث دكتاتوريات عسكرية: كانت الأولي أخف وطأة، إذ دامت لست سنوات فقط 1958/1964، ثم حكم البلاد نظام عسكري قومي عربي / شيوعي منذ مايو 1969 حتى 1971،وتحول بعد ذلك لحكم الدكتاتور الفرد – الجنرال نميري –على إثر قضائه على حليفه الحزب الشيوعي فى يوليو 1971؛ واستمرت المقاومة السلمية والعسكرية لذلك النظام القمعي حتى تم القضاء عليه بواسطة الهبة الشعبية فى أبريل 1985. ومنذ الثلاثين من يونيو 1989 حل بالسودان الليل الإخوانجي الحالك الراهن، وما انفك شعبنا يعافر وينافح بالأيدي والمناكب والأرجل والحناجر….. وبالسلاح، في الحواضر والهوامش، وما زال هذا النظام الثعباني الحربائي الخطير متشبثاً بالسلطة، ولا يهمه فى كثير أو قليل ما آلت إليه البلاد من تقهقر للوراء ومن تخلف اقتصادي وتهتك اجتماعي، وما ظل يعانيه الشعب من مسغبة وجوع كافر وعطالة وفقدان لخدمات العلاج والتعليم وكل ما كانت تقدمه الدولة لمواطنيها منذ العهد الإستعماري. إن هذا الإستعراض السريع لتاريخ نضالات الشعب السوداني يهدف للتذكير بأننا في حالة كر وفر منذ فجر التاريخ، يدفعنا توق غريزي للإنعتاق من الاستعبادوالقهر، وتحركنا مبادئ راسخة ومعجونة بطينة الوطنية والتجرد والأخلاق الرفيعة، ومتشبعة بالشهامة والنخوة والثقة بالنفس والصدع بالحق تحت كل الظروف، وتحفزنا جينات الفوارس من لدن أبطال المهدية الذين حاربوا جيش هكس وغردون المدججة بالسلاح الحديث وانتصروا عليها، ومن لدن علي عبد اللطيف وعبد الفضيل الماظ، ومن لدن شهداء سبتمبر 2013. وحري بهذا الكر والفر أن يستمر إلى أن يتهاوى نظام الإخوان المسلمين الحالي وتحل مكانه الديمقراطية والشفافية وحكم القانون بموجب دستور 1955 المعدل…إلخ. ولقد كانت معركة نوفمبر وديسمبر الجاري محطة واحدة في سلسلة المحطات النضالية متعددة الأشكال والأدوات والمنهجيات التى تنتظرنا فى سكة النضال الطويلة التى لا تعرف القنوط. لقد ظللت أكتب ضد هذا النظام منذ أول أيامه – بالوفد المصرية وب"الخرطوم" و"الإتحادي الدولية" وببعض الصحف الخليجية ثم بسائر الإصدارات الإسفيرية، وكثيراً ما أنهي مقالي بأن هذا النظام يحتضر وما هي إلا بضع أيام حتى نشيعه إلى مزبلة التاريخ. وفى هذه الأثناء شب جميع أبنائي وبناتي عن الطوق وتخرجوا في مختلف الجامعات، وأخذوا يداعبونني: لقد ظللت ياأبتاه تنتظر أن تشيع هؤلاء القوم إلى مزبلة التاريخ منذ أن كنا في الروضة. ألا زال الموقف كما هو؟ ويجدونني فى نفس الموقع، وهو الجانب الصحيح من التاريخ، حتى لو التهم العمر كله، إذ لا سبيل للتعايش مع هذا النظام الجائر وفكره الأصولي المتحجر، إلا إذا أردنا أن نترك للأجيال القادمة شيئاً كاليمن "السعيد". وأقول لهم: ماذا أساوى أمام قائد وطني مثل نلسون مانديلا الذي بقي في السجن لسبع وعشرين سنة بجزيرة روبن فى عرض المحيط، وخرج على أشلاء نظام الأبارثايد؟ ومن حسن الطالع، وما يبعث على الأمل فى المستقبل، أن أبنائي وبناتي كلهم منفعلون بقضايا شعبهم، على الرغم من أنهم ترعرعوا في الخارج، وكلهم متواصلون مع شباب القروبات التى نظمت إعتصامي نوفمبر وديسمبر، والتى هي الآن تعد العدة للمعركة القادمة الفاصلة مع نظام عمر البشير الفاشي الفاشل. وحقاً "لا ييأس من رحمة الله إلا القوم الكافرون. وعاش كفاح الشعب السوداني. والسلام.