البرهان يطلع على أداء ديوان المراجع العام ويعد بتنفيذ توصياته    مساعد البرهان يتحدث عن زخم لعمليات عسكرية    تقارير صادمة عن أوضاع المدنيين المحتجزين داخل الفاشر بعد سيطرة الدعم السريع    لقاء بين البرهان والمراجع العام والكشف عن مراجعة 18 بنكا    شاهد بالفيديو.. لدى لقاء جمعهما بالجنود.. "مناوي" يلقب ياسر العطا بزعيم "البلابسة" والأخير يرد على اللقب بهتاف: (بل بس)    شاهد بالفيديو.. من أعلى المنبر.. شيخ "الجنجويد" يفاجئ الجميع ويطلب من قائده "حميدتي" أن يزوجه من المذيعة تسابيح خاطر وساخرون: (متعودين على الشفشفة ومبروك يا سبوحة)    السودان الافتراضي ... كلنا بيادق .. وعبد الوهاب وردي    د.ابراهيم الصديق على يكتب:اللقاء: انتقالات جديدة..    إبراهيم شقلاوي يكتب: يرفعون المصاحف على أسنّة الرماح    لجنة المسابقات بارقو توقف 5 لاعبين من التضامن وتحسم مباراة الدوم والأمل    المريخ (B) يواجه الإخلاص في أولي مبارياته بالدوري المحلي بمدينة بربر    الهلال لم يحقق فوزًا على الأندية الجزائرية على أرضه منذ عام 1982….    شاهد بالصورة والفيديو.. ضابطة الدعم السريع "شيراز" تعبر عن إنبهارها بمقابلة المذيعة تسابيح خاطر بالفاشر وتخاطبها (منورة بلدنا) والأخيرة ترد عليها: (بلدنا نحنا ذاتنا معاكم)    لماذا نزحوا إلى شمال السودان    شاهد بالصور.. المذيعة المغضوب عليها داخل مواقع التواصل السودانية "تسابيح خاطر" تصل الفاشر    جمهور مواقع التواصل بالسودان يسخر من المذيعة تسابيح خاطر بعد زيارتها للفاشر ويلقبها بأنجلينا جولي المليشيا.. تعرف على أشهر التعليقات الساخرة    المالية توقع عقد خدمة إيصالي مع مصرف التنمية الصناعية    أردوغان: لا يمكننا الاكتفاء بمتابعة ما يجري في السودان    وزير الطاقة يتفقد المستودعات الاستراتيجية الجديدة بشركة النيل للبترول    أردوغان يفجرّها داوية بشأن السودان    وزير سوداني يكشف عن مؤشر خطير    شاهد بالصورة والفيديو.. "البرهان" يظهر متأثراً ويحبس دموعه لحظة مواساته سيدة بأحد معسكرات النازحين بالشمالية والجمهور: (لقطة تجسّد هيبة القائد وحنوّ الأب، وصلابة الجندي ودمعة الوطن التي تأبى السقوط)    إحباط محاولة تهريب عدد 200 قطعة سلاح في مدينة عطبرة    السعودية : ضبط أكثر من 21 ألف مخالف خلال أسبوع.. و26 متهماً في جرائم التستر والإيواء    الترتيب الجديد لأفضل 10 هدافين للدوري السعودي    «حافظ القرآن كله وعايشين ببركته».. كيف تحدث محمد رمضان عن والده قبل رحيله؟    محمد رمضان يودع والده لمثواه الأخير وسط أجواء من الحزن والانكسار    وفي بدايات توافد المتظاهرين، هتف ثلاثة قحاتة ضد المظاهرة وتبنوا خطابات "لا للحرب"    أول جائزة سلام من الفيفا.. من المرشح الأوفر حظا؟    مركزي السودان يصدر ورقة نقدية جديدة    برشلونة ينجو من فخ كلوب بروج.. والسيتي يقسو على دورتموند    "واتساب" يطلق تطبيقه المنتظر لساعات "أبل"    بنك السودان .. فك حظر تصدير الذهب    بقرار من رئيس الوزراء: السودان يؤسس ثلاث هيئات وطنية للتحول الرقمي والأمن السيبراني وحوكمة البيانات    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    غبَاء (الذكاء الاصطناعي)    مخبأة في باطن الأرض..حادثة غريبة في الخرطوم    رونالدو يفاجئ جمهوره: سأعتزل كرة القدم "قريبا"    صفعة البرهان    حرب الأكاذيب في الفاشر: حين فضح التحقيق أكاذيب الكيزان    دائرة مرور ولاية الخرطوم تدشن برنامج الدفع الإلكتروني للمعاملات المرورية بمركز ترخيص شهداء معركة الكرامة    السودان.. افتتاح غرفة النجدة بشرطة ولاية الخرطوم    5 مليارات دولار.. فساد في صادر الذهب    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    الحُزن الذي يَشبه (أعِد) في الإملاء    السجن 15 عام لمستنفر مع التمرد بالكلاكلة    عملية دقيقة تقود السلطات في السودان للقبض على متّهمة خطيرة    وزير الصحة يوجه بتفعيل غرفة طوارئ دارفور بصورة عاجلة    الجنيه السوداني يتعثر مع تضرر صادرات الذهب بفعل حظر طيران الإمارات    تركيا.. اكتشاف خبز عمره 1300 عام منقوش عليه صورة يسوع وهو يزرع الحبوب    (مبروك النجاح لرونق كريمة الاعلامي الراحل دأود)    المباحث الجنائية المركزية بولاية نهر النيل تنهي مغامرات شبكة إجرامية متخصصة في تزوير الأختام والمستندات الرسمية    حسين خوجلي يكتب: التنقيب عن المدهشات في أزمنة الرتابة    دراسة تربط مياه العبوات البلاستيكية بزيادة خطر السرطان    والي البحر الأحمر ووزير الصحة يتفقدان مستشفى إيلا لعلاج أمراض القلب والقسطرة    شكوك حول استخدام مواد كيميائية في هجوم بمسيّرات على مناطق مدنية بالفاشر    السجائر الإلكترونية قد تزيد خطر الإصابة بالسكري    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اسْتِطْراداتٌ حَوْلَ العَرَبِيَّة: على خَلفِيَّةِ قُذاذاتِ شاع الدِّينِ وجُذاذاتِهِ!
نشر في حريات يوم 25 - 12 - 2016


(1)
يصادف الثَّامن عشر من ديسمبر اليوم العالمي للغة العربيَّة، كونه تاريخ اعتمادها من جانب الجَّمعيَّة العامَّة للأمم المتَّحدة، بموجب القرار/3190 الصَّادر في دورتها ال 28 عام 1973م، ضمن اللغات الرَّسميَّة السِّت العاملة في المنظمة الدَّوليَّة، إلى جانب الإنجليزيَّة والفرنسيَّة والصِّينيَّة والرُّوسيَّة والأسبانيَّة. فالعربية من أقدم اللغات السَّامية، وأكثرها انتشاراً، إذ يفوق عدد المتحدِّثين بها 422 مليون نسمة، ويتجاوز أثرها البلدان العربيَّة ليشمل تركيا، ومالي، وتشاد، والسنغال، وموريتانيا، وإريتريا؛ ويمتدُّ، كذلك، إلى اللغات الفارسيَّة، والأمازيغيَّة، والكرديَّة، والأورديَّة، والماليزيَّة، والإندونيسيَّة، والألبانيَّة، والسواحيلية، مثلما يمتدُّ إلى لغات الهوسا، وحتَّى بعض اللغات الأوروبيَّة كالإسبانيَّة، والبرتغاليَّة، والمالطيَّة، والصِّقليَّة. وإلى ذلك تعتبر العربيَّة إحدى اللغات الأربع الأكثر استخداماً في الإنترنت.
وللعربية أهميَّة خاصَّة لدى عموم المسلمين، كما ولدى بعض الكنائس المسيحيَّة في البلدان العربيَّة، بل وبالنِّسبة للكثير من الأعمال الدِّينيَّة والفكريَّة اليهوديَّة في هذه البلدان. فلدى عموم المسلمين تكتسي العربيَّة هذه الأهميَّة من كونها لغة (القرآن الكريم) التي لا يمكن إقامة الصَّلوات بدون استخدام بعض كلماتها؛ ولقد أفادت العربيَّة من ذلك أيَّما فائدة، إذ حُفظت بحفظ (القرآن الكريم)، وبقيت ببقائه، على خلاف الكثير من اللغات القديمة التي اندثرت باندثار أهلها، كالبابليَّة، والسِّريانيَّة، والمصريَّة، والآشوريَّة، وما إليها. أمَّا لدى بعض الكنائس العربيَّة فهي اللغة التي تؤدَّى بها أغلب الطقوس الشَّعائريَّة؛ وأما بالنِّسبة للكثير من الأعمال الدِّينيَّة والفكريَّة اليهوديَّة فتعود أهمِّيَّتها إلى واقع كونها الوسيط الذي جرى به تدوين أهمِّ هذه الأعمال في العصور الوسطى، كأسفار موسى بن ميمون في الفلسفة، ويهوذا اللاوي في الشعر، وإسحاق الفاسي في تفسير التَّوراة.
وقبل قرابة العقد من الزَّمان شرَّفني صديقي الأديب واللغويُّ العالم البروفيسير عمر محمد الحسن شاع الدِّين بأن أقدِّم لمؤلفه اللطيف القيِّم "قذاذات وجذاذات"، من إصدارات مركز عبد الكريم مرغني الثَّقافي بأم درمان، وقد فعلت، على الرَّحب والسِّعة، لولا أن عاملاً لا يد لشاع الدِّين أو للمركز فيه حالَ دون ظهور تلك الكلمة في فاتحة الكتاب، الأمر الذي يُسأل عنه منفذ الطبعة، لا غيره! وعلى كلٍّ فهاأنذا أعمد هنا، بمناسبة اليوم العالمي للغة العربيَّة، ومن بعد إذن شاع الدِّين بطبيعة الحال، لإيراد بعض الاستطرادات على قُذاذاتِه وجُذاذاتِهِ الممتعة!
(2)
الكتاب ضرب من تآليف طليقة تزاوج بين المتعة والفائدة، وتتمكَّث عند دقائق اللسان والأدب العربيَّين، فصيحهما وعامِّيهما، لدى مستعربة السُّودان، ولدى مساكنيهم الناطقين بلهجات عربيَّات مختلفات، ضاربة في مراعي تراث هذه اللهجات، فعددتُّ ذلك من حُسن ظنه بي، أكرمه الله، فما أحسب أن لي في مُراحه واسع الثَّراء هذا أكثر من حلب القعود!
أما مادَّة الكتاب فهي ذات مادَّة عمود شاع الدِّين الأسبوعيِّ بجريدة "الصَّحافة" (30 سبتمبر 2003م 23 يناير 2007م). وظنِّي أن ما جعله يعكف على هذا الجَّهد، طوال تلك الفترة، ويوليه عناية خاصَّة، وقوفه، متأسِّياً، وهو أحد القلائل من أهل فرادة الحسِّ اللغويِّ المبصر، على ما آل إليه حال العربيَّة في بلادنا من إهمال وتردٍّ في معاهد العلم، ومن احتطاب جزافيٍّ في غالب ما تنشر الصُّحف الورقيَّة، والمواقع الأسافيريَّة، وما تبثُّ أجهزة الإعلام المسموعة والمرئيَّة، بل ومن استخفاف بها، وتنصُّل عنها، لدى الكثير من الكتَّاب، وبالأخص بين ناشئة الجَّماعة المستعربة، مِمَّن اتفق لهم إضافتها، اعتباطاً، إلى مصدر ضيمهم في التَّعليم والمعاش والثَّقافة! وها هو المؤلف يحسن صنعاً، الآن، بجمعه لمادَّة عموده بين دفَّتي كتاب أبقى أثراً، وأعمق تأثيراً، من محض مطالعة عابرة في صحيفة يوميَّة.
و"القُذاذات"، لغة، بضمِّ القاف، وواحدتها "قُذاذة"، هي، وفق ابن منظور، ما سقط من قُذ الرِّيش ونحوه، وأيضاً القطع الصِّغار تقطع من أطراف الذَّهب. أما "الجُذاذات"، بضمِّ الجِّيم أو كسرها، والضمُّ أفصح، وواحدتها "جُذاذة"، فهي قِطَعُ ما كُسِّر من الشئ الصُّلب، كقِطع الفِضَّة الصِّغار، وتقال أيضاً لحجارة الذَّهب لأنها تُكسَّر. وإجماليُّ المعنى واضح بدلالة العكوف إلحاحاً على التَّدقيق، وإلحافاً في التَّمحيص، أو "الكَدِّ" و"الحَكِّ"، كما في عاميَّة مستعربي السُّودان. وقد أورد شاع الدين، ضمن تعليقه على "طبقات ود ضيف الله" بتحقيق يوسف فضل، قول الشَّيخ باسبار السُّكَّري: "عندي جبلاً كدّيته وكدَّاني"، يعني (القرآن)، سائقاً، في شرح العبارة، قول المحقِّق: "أي أتعبني وأتعبته"، ثمَّ ذهب إلى أن الكَدَّ، لغة، هو الحَكُّ الذي فيه معنى الأكل، فالحاكَّة: السِّنُّ لأنها تحكُّ ما تأكله، وفي العامِّيَّة: كَدُّ العظم وكَدُّ الدُّوم؛ ومراد الشَّيخ أنه لازم (القرآن) وألحَّ في طلبه؛ وفي الحَكِّ، عند العامَّة، معنى الإلحاح والإلحاف، كما في قولهم: "ما تحُكْ القضيَّة شديد"! ولعلَّ المؤلف، بتصنيفه هذه المادَّة في أوَّل كتابه، قصد أن تقوم مقام فاتحته، فلكأنه أراد أن يوعز للقارئ بأن جُلَّ ما سيجد ضمن صفحاته إنما هو نتاج "حَكٍّ" و"كَدٍّ" شديدين للمعاني، والدَّلالات، والقِيَم اللغويَّة، والأدبيَّة، في الفصحى كما في العاميَّة.
(3)
يثير الكتاب، ضمن أشياء كثيرة، وإن بطريق غير مباشر، علاقة "اللغة" ب "التَّفكير" الذي لا يمكن أن يجري خارجها. ولعلَّ في هذا شيئاً من دلالات الحديث الشَّريف: "رَحِمَ اللهُ امْرَءاً أصلَحَ من لِسَانِهِ"؛ إشارة إلى ما في صلاح اللسان من صلاح الفكر. ولئن كانت إحدى أهمِّ النَّتائج التي توصَّل إليها برجسون في مقدِّمة رسالته عن الأفكار المباشرة للوعي هي أننا "إنَّما نفكِّر بالضَّرورة بالألفاظ"، فإن الإمام عبد القاهر الجُرجاني كان قد ساق ذات الفكرة، في "دلائل الإعجاز"، بقوله: "إن العلم بمواقع المعاني في النَّفس، علم بمواقع الألفاظ الدَّالة عليها في النُّطق"، فأنت إنَّما "تطلب المعنى، وإذا ظفرت به فاللفظ معك، وإزاء ناظرك، وإنَّما كان يُتصوَّر أن يصعب مرام اللفظ من أجل المعنى أنْ لو كنت طلبت المعنى فحصَّلته، احتجت إلى أن تطلب اللفظ على حدة، وذلك محال"!
واللغة، عموماً، كنتاج لحاجة الناس ل "تمديد" ذواتهم، حسب كريستوفر كودويل في مؤلفه "الوهم والواقع Illusion and Reality"، وللتعبير عن ذلك عبر مختلف أوجه نشاطهم الإنساني، تُعَدُّ من أهمِّ الظاهرات الاجتماعيَّة التي تولدت في مجرى العمل، وفى مسار تطوُّر الإنتاج الاجتماعي، كمُعبِّر معنويٍّ عن علاقاته، وكأداة لا غنى عنها لتنسيقه، وكصورة للفكر وللوجود، وبالضَّرورة كأحد أهمِّ عوامل تشكيل الوعي نفسه، باعتبارها، من زاوية النَّظر الفلسفيَّة والثَّقافيَّة التَّاريخيَّة، نسقاً من الإشارات والرُّموز يشكِّل أداة للمعرفة، ولحفظ واستعادة منتجات الثَّقافة الرُّوحيَّة والعُشرة البشريَّة. إنها، بعبارة أخرى، ظاهرة موضوعيَّة، ذات طابع جمعي، واستقلاليَّة نسبيَّة، فهي، وإن كانت تخضع لعمليَّات التَّغيُّر والتَّطوُّر، شأنها شأن كلِّ الظاهرات الاجتماعيَّة التَّاريخيَّة، إلا أن ذلك لا يتحقَّق بمحض التَّقديرات الذَّاتيَّة أو الرَّغائب الخاصَّة، وإن بدا أظهر، على هذا الصَّعيد، في معظم الأحيان، الدَّور التَّاريخي المقدَّم الذي يلعبه الشُّعراء، والأدباء، والفلاسفة، والعلماء، وفقهاء اللغة، ومجامعها العلميَّة. وهي، من ذات هذا الباب، عرضة لأن تفسد بالالتباس حين تنبهم الألفاظ شيئاً، أو تفسد بالاحتباس حين تستغلق هذه الألفاظ تماماً. وليس أبلغ من اختزال أحمد بن محمَّد لهذين الاحتمالين، في ذمِّه للغة الصَّاحب بن عباد، كما في رواية أبى حيَّان التوحيدي في الليلة الرَّابعة من "الإمتاع والمؤانسة"، بقوله: قد ".. يستعجم المعنى كما يستعجم اللفظ، ويشرد اللفظ كما يندُّ المعنى"!
والعربيَّة، شأنها شأن سائر اللغات، في ما يتَّصل بحملها لثقافات الشُّعوب والمجموعات الإثنيَّة الناطقة بها، مرَّت، كما سبق أن قلنا في مبحثنا "عَيْعَلَةُ السَّيِّدِ المُتَعَالِم وزُخْفَيْلَم الخَادِم الفَصِيح"، لدى تعليقنا على استخدام د. التُّرابي للفظ "التَّوالي" في النَّصِّ الدُّستوري، بشتَّى مراحل التَّهذيب والصَّقل، منذ ما قبل الإسلام بنحو من قرنين، مروراً بنزول "القرآن الكريم"، وما قدَّم من أنموذج معجز فيها يُعَدُّ الأهمَّ في تاريخها، فاتحاً أمامها من أبواب دقَّة الدَّلالة، وإحكام الصِّياغة والتَّعبير، ما مكَّن علماء عصر التَّدوين، والأعصر اللاحقة، من أن يستخلصوا من فصحاها قواعد الصَّرف، والنَّحو، والاشتقاق، والوضع، وضوابط العروض، وأحكام البلاغة، وأساليب البيان، حتى وصلتنا، على قول بنت الشَّاطىء في "لغتنا والحياة"، بعد أن أهملت الحوشى، والغريب، والثَّقيل، وما تنافر في حروف اللفظ أو كلمات الجُّملة، وبعد أن هُذبت صيَغُها بالإعلال، والإبدال، والقلب، والإدغام، والحذف، واستقرَّت على ضوابط التَّأنيث، والتَّذكير، والإفراد، والتَّثنية، والجَّمع، وتمييز المعلوم من المجهول، والمعرفة من النَّكرة، والتَّصرُّف في المادَّة اللغويَّة بصيغ مطردة ذوات دلالات محدَّدة، وفى الفعل لضبط الزَّمن الماضي المطلق، والقريب، والحاضر، والمستقبل القريب، والبعيد، والمطلق، فضلاً عن تدقيق وإحكام استخدام الضَّمائر، وأسماء الإشارة، والأسماء الموصولة، للمتكلم، وللمخاطب، وللغائب، مفرداً، ومثنى، وجمعاً، وإحكام المعاني بصيغ المُشتقَّات، ونسق الألفاظ، وترتيبها في الجُّمل، وسياقات العبارات، وعلامات الإعراب، إضافة إلى التَّوسُّع في الدَّلالات المجازيَّة، تنمية للبنية اللغويَّة، وتلبية لحاجات الحياة والتطوُّر الحضاري.
(4)
والعربيَّة، في حالتها السُّودانيَّة، كما في سائر حالاتها، لم تشذ عن القاعدة العامَّة للتَّداخل اللغوي كظاهرة مألوفة في تاريخ الحضارات. ولعلَّ من أطرف مقاربات هذه القاعدة العامَّة ما ذهب إليه جون جوزيف في كتابه "اللغة والهُويَّة"، تطبيقاً على الحالة الفرنسيَّة، من أن اللغات والثَّقافات شبيهات ب "جمهوريَّات" تسكنها كلمات، مثلما تسكنها أفكار! وبطبيعة الحال ليس كلُّ عنصر "أجنبي" يدخل "جمهوريَّة" ما ستُمنح له "الجِّنسيَّة"، وإنَّما يُرحَّب فقط بمن يقدِّم لها نفعاً كبيراً، وينمو بقوَّة، مثلما تنمو البذور المستزرعة في تربة فرنسيَّة، فتستحيل إلى نباتات فرنسيَّة!
لقد خرجت العربيَّة من محدوديَّتها في إطار الحجاز قبل الإسلام، لتنتشر، بعده، مع "القرآن" والفتوحات، إلى أقاصي آسيا وحدود أوربا، فتفاعلت مع الهنديَّة، والفارسيَّة، والتُّركيَّة، واليونانيَّة، واللاتينيَّة، رفداً واسترفاداً، ابتداءً من النصِّ "القرآني" نفسه وإلى شتى حقول الطبِّ، والطبيعة، والفلسفة، خصوصاً أوان كانت بغداد تزخر، على أيام الرَّشيد وابنه المأمون، بالمترجمين من شتَّى اللغات، بما فيها من ألفاظ، وتعابير، وتراكيب، ساغتها، وصيَّرتها جزءاً منها. ومنذ القرن الثَّامن الميلادي بالمشرق، والقرنين التَّاسع والعاشر بالأندلس، أضحت العربيَّة تضاهى اللاتينيَّة في الغرب، وما انحدر عنها من لغات، إذ كانت لسان العلم في تينك المنطقتين.
على أن الجُّمود الذي حاق بالحضارة العربيَّة لقرون طوال أورثها ما تعاني الآن من صعوبات وضيق وعنت، خصوصاً فيما يتَّصل بأحد أهمِّ وأخطر التَّحدِّيات التي تجابه مستقبل التَّعليم في البلاد العربيَّة، وبالأخص التَّعليم العالي، وهى قضيَّة "التَّعريب". فمداخل النِّظام العربي الرَّسمي لم تحقِّق، بعد، نجاحا يُؤبه له في هذا الشَّأن، برغم تواتر الاعتمادات والأرصدة، وتراكم الشِّعارات والبرامج. وما ذلك إلا لأن مهمة "التَّعريب"، فى أصلها، ليست من بين وظائف السُّلطة السِّياسيَّة، بل هي شأن يفترض أن يضطلع به العقل الجَّمعي، ويزهر، بخاصَّة، على أيدي الشُّعراء والأدباء والعلماء. إن هذا العقل لقادر، يقيناً، على ذلك، في ما لو رفعت عنه أغلال الطوارئ، والرَّقابة، والسَّنسرة، وغيرها من الشروط الاستثنائيَّة المقيِّدة لحرِّيَّاته وحقوقه. مناخ المبادأة الابداعيَّة والحريَّة البحثيَّة هو ما يفتقر إليه العقل العربي، قبل المعينات الماديَّة، على ما لها من أثر وخطر عظيمين.
(5)
ولئن كان علم دلالات الألفاظ Semantics من المُبتَدَعات التي ذهبت نسبتها، بإهمالنا، إلى غير العرب، فإن الواقع التَّاريخي الذي لا مرية فيه هو أن علماء العربيَّة الأوائل عرضوا، باكراً، لقضيَّة "اللفظ والمعنى": نقَّاد الأدب منهم، ومؤرِّخيه، ومفسِّري (القرآن الكريم)، وأهل الحديث، والبلاغيين، والمناطقة، واللغويين، وغيرهم، دَعْ الجِّيوش الجَّرَّارة من المحدثين الذين نهلوا من المناهج الحديثة، وانفتحوا على التُّراث العالمي العريض.
وإذن، فقضيَّة "اللفظ والمعنى"، فى العربيَّة كما في غيرها، قضية قديمة، انقسم أهل الأدب والعلم حولها، قبل أزمان، بين أنصار "اللفظ" وأنصار "المعنى". وقد أجهد "اللفظيون" العرب أنفسهم في الكشف عن حسن الكلام فى حسن ألفاظه وشرفها، مِمَّا أسلمهم إلى الافتتان التَّام بالألفاظ من حيث هي.
وكان الجُّرجاني مِن أبرز مَن تصدُّوا، في "دلائل الإعجاز"، لتفنيد حُجَجهم، مِن زاويتين: الأولى قضيَّة القيمة الأدبيَّة، حيث الألفاظ محض وسائط لبلوغ البيان، لا غايات في حدِّ ذاتها، والأخرى قضيَّة (الإعجاز القرآني)، إذ لو كانت الألفاظ وحدها مناط الاحتفاء، لما أمكن تمييز (القرآن) من غيره من النُّصوص العربيَّة! ومن ثمَّ يرى الجُّرجاني، صراحة، أن (إعجاز القرآن) ليس في محض الألفاظ كمادَّة للغة، وقد كانت معروفة للعرب، فلا يُعقل أن تكون هي مجال التَّحدِّى: "قل فأتوا بسورة مثله" (23 ؛ البقرة). ثمَّ إن الألفاظ المفردة لا يُتصور أن يقع بينها تفاضل دون أن تدخل في تراكيب، إلا في قولهم هذه مألوفة مستعملة، وتلك غريبة وحشيَّة، أو أن تكون حروف هذه أخفَّ، وامتزاجها أحسن. أما في ما عدا ذلك فإن الجُّرجاني يولي اعتباراً كبيراً، بحق، لمكان الألفاظ من النَّظم، وحسن ملائمة معناها لمعاني جاراتها؛ فلا فضيلة لها إلا في خلوِّها من الغرابة، ومن تنافر حروفها في النُّطق، مع الأخذ في الحسبان بأن تلك ميزة سلبيَّة ضئيلة القيمة، فلا يمكن الاحتجاج بها على (إعجاز القرآن). فالبلاغة، والفصاحة، والإعجاز البياني، وسائر ما يجري في هذا الطريق، مِمَّا تحدَّى سبحانه العرب به في (القرآن)، أوصافٌ راجعة إلى المعاني، وإلى ما يُدَلُّ عليه بالألفاظ، دون الألفاظ ذاتها.
وحتى الجَّاحظ الذي يُنسب، عادة، إلى "اللفظيين"، ردَّ الأمر في استعمال الألفاظ، وسبك الأسلوب، إلى المعنى أو الموقف، وليس إلى اللفظ المفرد في حدِّ ذاته، مشدِّداً، في "البيان والتَّبيين"، على أن شأنَ الكلام شأنُ الصِّياغة، وأن لكلِّ ضربٍ من الحديث ضربٌ من اللفظ، فلم يُرد الألفاظ مفردة عن تراكيبها.
وقد ذهب أبو سليمان المنطقي إلى ذلك أيضاً، حسب أبي حيَّان التَّوحيدي في "الإمتاع والمؤانسة"، ضمن درس باكر، لا في جدل اللغة فحسب، بل وفي جدل سائر العلاقات، مؤكِّداً على أن دلالة الأسماء محدَّدة على الأعيان، لا على صفات الأعيان، أو ما يكون من الأعيان، أو ما يكون في الأعيان؛ وأنها لمعتبرة بما يضاف إليها، وأن هذه الإضافة حاكمة على الألفاظ، مثلها مثل سائر الأشياء الأخرى، حسيَّة كانت أو عقليَّة، ".. فالإضافة لازمة، والنِّسبة قائمة، والمشابهة موجودة، ولولا إضافة بعضنا إلى بعض ما اجتمعنا ولا افترقنا، ولولا الإضافة بيننا، الغالبة علينا، ما تفاهمنا ولا تعاونَّا .. لأن الإضافة ظلٌّ، والشخص بالظلِّ يأتلف، وبالظلِّ يختلف .. ويزيدك بياناً أن العدم والوجود شاملان لنا، سائران فينا، فبالوجود نتصادق، وبالعدم نتفارق". وهكذا فإن اللفظ عند أبي سليمان يكاد لا يفصح عن دلالة محدَّدة، وفق هذا الدياليكتيك الباكر، إلا من خلال علاقاته مع الألفاظ الأخرى في سياق معنوي مبين.
ويذهب بعض المحدثين، كخلدون الشَّمعة في "المنهج والمصطلح"، إلى التفريق بين مستويات ثلاثة لدى التَّعامل مع أيِّ نصٍّ لغوي: مستوى "لفظي" يُقصِر التَّعامل مع الكلمة بما لا يتجاوز حدود الضَّبط المعجمي؛ ومستوى "اصطلاحي" حسب المعرفة التي يُراد من النصِّ تقديمها، ويقوم على الانتصار للتَّعريف الافتراضي للكلمة، أي المجاز، في محاولة تقريبيَّة يمكن أن تحقق هدفاً مفيداً إذا عومل المصطلح حسب قيمته المحدَّدة. وهي قضيَّة عرض لها، قديماً، أبو هلال العسكري في "الفروق في اللغة"، حيث ميَّز بين "الاسم العُرفي"، ويعني به "اللفظ المجرَّد"، و"الاسم الشَّرعي"، ويقصد به "المصطلح". أما المستوى الثَّالث، وفق الشَّمعة، فهو "الشِّعاري" الذي يُخضع الكلمة لمنظور الجَّماعة السِّياسيَّة، أو العقديَّة، أو الإعلان التجاري .. الخ.
(6)
سياحة شاع الدِّين الطليقة الشَّائقة بين الألفاظ والتَّعبيرات، وما تُحدِّث عنه من نشاط اقتصادي، وإنتاج معيشي، وفكر أدبي، وممارسات شعبيَّة، لمِمَّا يغوي بمثل استطراداتنا هذه وأكثر. فبهذه السِّياحة يُحسن شاع الدين إلى لغة قومه، مستعربي السُّودان، وثقافتهم، على خطى نفر من كرام علمائهم وأدبائهم وباحثيهم، كالإمام المهدي وخليفته "المنشورات"، وعبد الله عبد الرحمن الأمين "العربيَّة في السُّودان"، وعبد الله الطيِّب "تفسير القرآن" و"الأحاجي"، وعون الشَّريف قاسم "قاموس اللهجات العربيَّة في السُّودان"، وغيرهم؛ وجُله إحسان جديرة به هذه اللغة "الأفريقيَّة" الأكثر تأهيلاً لتكون أداة تواصل lingua franca بين مفردات أمَّة، كأمَّتنا، لم تعبر طور التَّكوين، بعد، ولأن تضحى حاملاً لثقافة المشروع الدِّيموقراطي للوحدة المتنوِّعة، إن تمَّ التخلص من مواريث الاستعلاء التَّاريخي البغيض! ولعلَّ من دلائل تمام هذا التأهُّل أن العربيَّة ظلت تتفاعل مع غيرها من اللغات الوطنيَّة في بلادنا، برغم أدواء السِّياسات الرَّسميَّة، فما انفكَّت تتشقق، شعبيَّاً، إلى لهجات عربيَّات كثر، كعربي أم درمان، وعربي جوبا، وغيرهما شرقاً وغرباً.
وبعد، فما هذا كله سوى بعض غيضٍ من فيضِ ما يغوي بالتَّفكير فيه كتاب شاع الدين الفريد هذا، والذي يُعدُّ إضافة متميِّزة إلى ما تحتويه خزائننا الجياد من علم ومعرفة لا غنى عنهما، وأدب وفكر تتساوق فيهما المتعة والفائدة معاً.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.