سادت موجة من الانشراح والتفاؤل الأوساط الرسمية في الخرطوم فور إعلان الإدارة الأميركية رفع العقوبات الجزئي والمشروط، ولا شك أن للقرار فوائد اقتصادية جمة لكن كثيرا من المسؤولين بالغوا في تقدير نتائجه وتجاوزوا المدى وسمحوا لتفكيرهم الرغائبي أن يتسيد الساحة -صحيح أن القرار وضع حدا لعقوبات طالت السودان على مدى عقدين من الزمان وكانت آثارها المباشرة هي صعوبة تحويلات العملات الأجنبية خاصة الدولار للسودان واستحالة الحصول على التقانة الأميركية المتقدمة والتهديد بمعاقبة الشركات العابرة للحدود إذا ما تعاونت اقتصاديا أو تجاريا أو استثماريا مع السودان ورفع العقوبات أزال كل هذه المعوقات التي تعترض طريق السودان- ولكن هذه المعوقات ليست هي سبب الأزمة الاقتصادية الخانقة التي يعيشها السودان حاليا. الأزمة ببساطة هي عدم التوازن في الميزان التجاري والفجوة الكبيرة بين حصيلة صادرات وجملة واردات السودان التي بلغت 6 مليارات من الدولارات ويوم كان السودان دولة بترولية قبل انفصال الجنوب وكان الميزان يميل لصالح اقتصاده لم يكن أحد يشعر بمخاطر العقوبات وتم ابتداع وسائل وطرق لتفادي آثارها والإحساس بكارثية آثارها لم يحدث إلا حينما اختل ميزان المدفوعات وتدنت قيمة العملة الوطنية وساد الغلاء فأخذ الحديث عن العقوبات يتصاعد في حملة تبريرية لأزمة الاقتصاد السوداني. الأسلوب الأكثر حكمة في التعامل مع القرار الأميركي هو اعتباره مجرد إجراء لخلق أجواء أفضل لحلول اقتصادية جذرية تعالج مشاكل الاقتصاد الحقيقية فالأزمة تبدأ بضعف الإنتاج والإنتاجية وضعف البنيات التحتية التي تعيق مشاريع التنمية وضعف مدخلات التقانة في العملية الإنتاجية وما لم يزد الإنتاج والإنتاجية وتزيد القيمة التنافسية للمنتجات السودانية وتزداد صادرات السودان المنافسة في السوق العالمية فإن الأزمة ستظل تراوح مكانها وما دام السودان لا يتحصل من صادراته على الموارد الأجنبية الكافية فإن رفع العقوبات لا يعني شيئا. وإذا كان الرئيس أوباما قد رفع عقوبات فرضها رئيس أميركي سابق قبل عشرين عاما فما زالت هناك عقوبات فرضها قانون سلام دارفور الذي أجازه الكونجرس الأميركي وما زالت هناك عقوبات تفرضها الأممالمتحدة وهناك عقوبات مترتبة على استمرار وجود اسم السودان في قائمة الدول الراعية للإرهاب مما يعيق أي محاولات جادة لإعفاء ديون السودان التي تشكل أكبر العقبات في سبيل الإصلاح الاقتصادي فيه وتمنع استيراد المعدات العسكرية ومعدات التقانة العالية والمعدات ذات الاستعمال المزدوج (المدني/العسكري) ولذلك لا بد من النظر إلى رفع العقوبات باعتباره مرحلة أولى التي يجب أن يتم التعامل معها باعتبارها نقطة البداية وليست سدرة المنتهى وأن تتجه الجهود عبر مسارين الأول هو إكمال متطلبات الحوار مع أميركا بإنجاز باقي المستحقات خلال فترة الأشهر الستة التي حددها القرار الأميركي للإلغاء القانوني والثاني معالجة مشكلات باقي قرارات المقاطعة وتضمين اسم السودان في الدول الداعمة للإرهاب وهذه قضايا ستتوقف على معالجة أزمة السودان السياسية الداخلية بالوصول إلى نظام حكم يرضي طموحات أهل السودان. ويبقى بعد ذلك الاتفاق على استراتيجية اقتصادية شاملة تخاطب جذور الأزمة الاقتصادية وتوفر البنيات التحتية المطلوبة للبناء والتعمير وزيادة الإنتاج والإنتاجية ومحاربة الفساد والقضاء على ظاهرة الإفلات من العقاب بأعمال مبدأ المساءلة والمحاسبة ويومها يحق لمن يريد أن يسرف في التفاؤل أن يفعل ذلك وهو مطمئن، أما قبل ذلك فلا مجال لمثل هذا الإسراف!; العرب