د. خالد التيجانى النور بالأمس تأكدت أسوأ ظنون الذين كانوا يشككون ابتداءً في جدوى "الحوار الوطني" الذي دعا له الرئيس السوداني عمر البشير في يناير 2014 في خطاب شهير بغرض وضع حد لاستدامة الحرب في البلاد وتحقيق السلام والاستقرار بالتوافق عبر حوار يشارك فيه جميع الفرقاء لوضع أسس جديدة لبناء الدولة السودانية تعهد مراراً بتنفيذها. الجديد التي حدث بالأمس أن المجلس الوطني، البرلمان الذي يسيطر عليه حزب المؤتمر الحاكم، أثبت أنه يملك حق الفيتو على مخرجات الحوار مع كل تلك التعهدات، مما يثير سؤالاً عن جدوى الدعوة له أصلاً، حيث أسقط بناءً على توصية لجنة التعديلات الدستورية توصيات حاسمة تتعلق بكفالة الحريات العامة. المهم في هذا التطور الحاسم أنه أعاد للأضواء الجدل حول صدقية الدعوة للحوار الوطني التي كانت سبباً أساسياً في مقاطعة أغلب القوى السياسية الفاعلة في المعارضة الانخراط فيه في غياب ضمانات تؤكد جديته، في حين اكتفى من انخرط فيه بتعهدات الرئيس البشير بضمان تنفيذ المخرجات التي يتوصل إليها المشاركون فيه. ويأتي هذا التطور أيضاً في ظل تعثر تشكيل حكومة جديدة لعدة أشهر بسبب التنازع على الحصص من بين مائة وستة عشر حزباً وجماعة متمردة شاركت فيه. إذاً ما الذي يجري في الكواليس؟، لا أحد يعرف على وجه التحديد إلى أين تمضي الأمور حول هذا الموضوع الذي شغل الساحة السياسية السودانية لثلاث سنوات حسوماً، سوى أن أكثر الناس حيرة في مآلاته هم أنفسهم الذين انخرطوا فيها بحماسة وأمل من أول يوم رجاء أن يثمر طريق خلاص سلمي يجنّب البلاد مخاطر التغيير العنيف بكل تبعاته وتداعياته. تململ القوى السياسية المعتبرة التي شاركت فيه على قلتها، لا سيما المؤتمر الشعبي الذي انفرد في موقفه المتمسك بالحوار بلا سقف معلوم من الشروط ولا حيطة حذر عدم وفاء السلطة بعهودها، ينبئ أن أسوأ ما كان يحذر منه معارضو مسار الحوار على النحو الذي تحكّمت السلطة في مصائره قد تحقّقت بالفعل. النتيجة العملية في الوقت الراهن بالنسبة للذين شاركوا في "حوار السلطة بشروطها"، أنها خلصت إلى "تسليم" الطبقة الحاكمة "صك على بياض" لتقرر في الطريقة التي تنفذ بها مقررات "الحوار" قفزاً على التعهدات السابقة بتفصيل يناسب مقاس حساباتها بما يضمن استمرار قبضتها على مفاصل السلطة والثروة، مع وعود بوظائف لردف من يسعفه الحظ بذلك. وتتالت الإشارات إلى الطريقة الانتقائية التي تعمّدت السلطة أن تقرّر بها التعامل مع توصيات الحوار، هي التأكيد على أنها وحدها من تملك تحديد أولويات ما تختاره للتنفيذ، فمضت إلى تقديم مشروع تعديلات دستورية للمجلس الوطني ب"سقف منخفض للغاية" بمقياس "مخرجات الحوار" استبعد المس بالقضايا الجوهرية التي يمكن أن تنبئ بأن تحولاً نوعياً في بنية السلطة الحاكمة وتغييرا باتجاه عبور جسر الأزمة الوطنية على وشك أن يتحقق. ولم تأبه هذه التعديلات الدستورية لإحداث تغيير نوعي كان يراهن عليه لتدشين مرحلة سياسية جديدة في البلاد، بل مضت باتجاه معاكس حين عمدت إلى منح المزيد من الصلاحيات لرئيس الجمهورية، وإلى تكبيل منصب رئيس الوزراء المقترح الأكثر حضوراً في توصيات الحوار، والذي كان يعوّل عليه في إدخال تغيير على بنية السلطة بما يساعد على تحقيق المحاسبة والمساءلة على أداء الجهاز التنفيذي. وجاءت ثالثة الأثافي في التجاهل التام في مسودة التعديلات وانصرافها بالكامل عن ما يتعلق بقضية الحريات العامة، وهي مسألة مفصلية وأساسية لابتدار أي مناخ جدي من أجل تحول أو انتقال لمربع جديد، ومع أن الأمر لم يكن يحتاج لتأكيدات جديدة سوى المطالبة بالتقيد التام بتنفيذ وثيقة الحقوق والواجبات في الدستور الساري حالياً، وهي تعهدات قاطعة بيّنت الحقوق على نحو لا لبس فيه، ولا يغير من حقيقته تشريع قوانين تسلب باليسار ما أثبته الدستور باليمين، جاءت التأكيدات في توصيات الحوار على مسألة الحريات كشرط أساسي ولازم لتحقيق مقتضيات الحوار. في ظل هذه التطورات التي أفرغت الحوار من مضمونه حتى أصاب اليأس من تحمسوا له وشاركوا فيه، فضلاً عن أنه أكد للقوى السياسية المعارضة الرئيسية وحركات المعارضة المسلحة التي قاطعته صحة موقفها، فإن السؤال ما هي الرهانات التي تطلقها عودة الأمور إلى انسداد الأفق مرة أخرى بعد تبدد فرصة الحوار، من المؤكد أن الاحتمالات ستبقى مفتوحة على الخيارات كافة، حتى تلك التي تستدعي المغامرين. (نقلاً عن صحيفة ايلاف).