مليشيا التمرد تواجه نقصاً حاداً في الوقود في مواقعها حول مدينة الفاشر    ضربة موجعة لمليشيا التمرد داخل معسكر كشلنقو جنوب مدينة نيالا    مدير مستشفي الشرطة دنقلا يلتقي وزير الصحة المكلف بالولاية الشمالية    شاهد بالفيديو.. شاعرة سودانية ترد على فتيات الدعم السريع وتقود "تاتشر" للجيش: (سودانا جاري في الوريد وجيشنا صامد جيش حديد دبل ليهو في يوم العيد قول ليهو نقطة سطر جديد)        ضياء الدين بلال يكتب: نحن نزرع الشوك    بالصور.. اجتماع الفريق أول ياسر العطا مساعد القائد العام للقوات المسلحة و عضو مجلس السيادة بقيادات القوة المشتركة    أقرع: مزايدات و"مطاعنات" ذكورية من نساء    وزير خارجية السودان الأسبق: علي ماذا يتفاوض الجيش والدعم السريع    محلية حلفا توكد على زيادة الايرادات لتقديم خدمات جيدة    شاهد بالفيديو.. خلال حفل حاشد بجوبا.. الفنانة عشة الجبل تغني لقادة الجيش (البرهان والعطا وكباشي) وتحذر الجمهور الكبير الحاضر: (مافي زول يقول لي أرفعي بلاغ دعم سريع)    شاهد بالفيديو.. سودانيون في فرنسا يحاصرون مريم الصادق المهدي ويهتفون في وجهها بعد خروجها من مؤتمر باريس والقيادية بحزب الأمة ترد عليهم: (والله ما بعتكم)    غوتيريش: الشرق الأوسط على شفير الانزلاق إلى نزاع إقليمي شامل    أنشيلوتي: ريال مدريد لا يموت أبدا.. وهذا ما قاله لي جوارديولا    سوداني أضرم النار بمسلمين في بريطانيا يحتجز لأجل غير مسمى بمستشفى    محاصرة مليوني هاتف في السوق السوداء وخلق 5 آلاف منصب عمل    غوارديولا يعلّق بعد الإقصاء أمام ريال مدريد    امين حكومة غرب كردفان يتفقد سير العمل بديوان الزكاة    نوير يبصم على إنجاز أوروبي غير مسبوق    تسلا تطالب المساهمين بالموافقة على صرف 56 مليار دولار لرئيسها التنفيذي    محافظ بنك إنجلترا : المملكة المتحدة تواجه خطر تضخم أقل من الولايات المتحدة    منتخبنا يواصل تدريباته بنجاح..أسامة والشاعر الى الإمارات ..الأولمبي يبدأ تحضيراته بقوة..باشري يتجاوز الأحزان ويعود للتدريبات    بايرن ميونخ يطيح بآرسنال من الأبطال    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    العين يهزم الهلال في قمة ركلات الجزاء بدوري أبطال آسيا    مباحث المستهلك تضبط 110 الف كرتونة شاي مخالفة للمواصفات    قرار عاجل من النيابة بشأن حريق مول تجاري بأسوان    العليقي وماادراك ماالعليقي!!؟؟    الرئيس الإيراني: القوات المسلحة جاهزة ومستعدة لأي خطوة للدفاع عن حماية أمن البلاد    بعد سحق برشلونة..مبابي يغرق في السعادة    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    خلال ساعات.. الشرطة المغربية توقع بسارقي مجوهرات    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    وزير الخارجية السعودي: المنطقة لا تحتمل مزيداً من الصراعات    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تقرير: روسيا بدأت تصدير وقود الديزل للسودان    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ما تعرفه طيور الليل بشاطيء النهْر
نشر في حريات يوم 21 - 12 - 2017

عيناها غائرتان، بنظراتها يعشعش حزنٌ راسب، حزنٌ قديم ناتجٌ عن خيباتٍ متلاحقة، مكثت تلك الخيبات في نواحي روحها طويلاً. باتت لا تذكر ترتيب وقع تلك الخيبات علي صفحة الزمان المُر علي حسب ما تفكر. نعم انعدمت عندها الحساسية تجاه ترتيب وقع الأحداث. يبدأ يومها من بكورة الصباح المنطفئة بفعل الأحلام الضائعة و الكوابيس المبهمة و المخيفة. الصحو المبكر من عاداتها القديمة بالرغم من السهر نتيجة للخيبة و الحزن.
قالت خديجة لنفسها بصوت مسموعٍ " الراجل دا ما ح يرجع تاني". ثم قالت دون تفكير " هل كان لازم يمشي و تاني ما يرجع ؟ يعني شنو كان هنادي حِمْلَت بالحرام؟ و يعني شنو كلام الناس؟ و الفضيحة وين؟ ما بت حِمْلَت من غير زواج و من راجل لو كان عنده قدرة كان عَرّسها"
تبتسم خديجة عندما تتذكر تعليق زوجة إمام المسجد المجاور علي انتفاخ بطن هنادي و كلامها عن إنْطِلاقة بنات الزمن دا و إنعدام التدين بينهن و كيف أن إنتفاخ بطن هنادي قد غطت عليه فضيحة ضبْط إمام المسجد مع ولد المغتربين الذين إستأجروا بيت صديقتها سعدية. "الولد صرخ! واي واي الناس إتلمت و جاءت الشرطة لتأكيد الفضيحة بأضواء زرقاء و صافرات لا داعٍ حقيقي لها و كمان جاء اسعاف ليحمل الولد إلي المستشفي" هكذا حكت خديجة القصة لنفسها كأنها خائفة من نسيانها . تلك الضحكة المكتزنة بالشماتة اسعدتها كثيراً و غيّرت مزاج صباحها المعتكر علي الدوام.
نعم نسي الحي الذي يسكنون به حكاية انتفاخ بطن هنادي بإنتشار خبر فضيحة إمام المسجد. في أيام إنشغال سكّان الحي بحكاية إمام المسجد و نسيانهم انتفاخ بطن هنادي من غير زواج تمكنت خديجة بمساعدة صديقتها سعدية من تدبير أمر الداية التي ساعدت علي إختفاء الإنتفاخ عن بطن هنادي بطرائق بلدية و ناجعة. ببساطة تمت العملية و دون آلالام كثيرة. بالضبط خمسة أيام مع المضاد الحيوي و مسكنات الألم ثم عادت هنادي لسابق عهدها مبتسمة الملامح، رائقة الجمال و منتظرة.
بالبيت الآن اولادها و أصدقاؤهم، نائمون بحوش الديوان. بالجانب الداخلي للبيت باتت معها هنادي الباحثة عن وظيفة محترمة أو زيجةٍ مباغتةِ الغِنَي و فجائية الثروة أو أي نوع من محوِ الذاكرة. البيت في نظر خديجة مظلم بالرغم من الإنارة الكهربائية و بالرغم من الثلاجة و البوتاجاز و بقية الأثاث فهو بنظرها فارغٌ و مظلمٌ لأن زوجها صابر فضّل مغادرة البلد علي إيذاء مشاعر بنته هنادي، تقول ذلك لنفسها عندما تفكر عنه برحابة صدر و ربما هرب كما تفكر عنه أحياناً و هي غاضبة، هرب من مواجهة المشكلة. كانت مغادرة صابر مباغتة للجميع لأنه ببساطة ذهب لعمله و لم يرجع، لم يرجع و ترك وراءه عدداً من الأسئلة و عائلة محاصرة بالشائعات. حتي إخوته و أهله لم يكونوا يعلمون عنه شيئاً و لا عن مكانه و هذا أمرٌ لم تكن خديجة تصدقه. تعبت خديجة من إختلاق حكايات السفر لتبرير غياب صابر و أكثر ما كان يضايقها سؤال زبون عابر لأن ذلك السؤال يعيد السيرة لأذهان الجيران و المعارف و هو ما لا تحبه خديجة.
خديجة و صابر بالأصل أقارب دم. لم يحتاجا لتعليم كثير لتبتديء بينهما حياة زوجية هادئة، خديجة موظفة بمكاتب البلدية و صابر موظفٌ بوكالة سفر و سياحة. في ذلك الزمن امتلكا أرضاً في إمتداد ناصر، بناها لهم قرضٌ من البنك العقاري و ركبا في شبابهما السيهان بيرد ديلوكس و سهِرا بالفندق الكبير، الريفيرا و في الاندية العريقة بشارع المطار و خرطوم-2 .
لاحقاً ساءت الامور كثيراً و احتاجت خديجة أن تمتهن بيع الطعام نتيجة لفقدانها وظيفتها في واحدة من حملات الإحالة عن العمل و خسران زوجها لوظيفته نتيجة لإغلاق وكالة السفر و السياحة التي يعمل بها و انهيار قطاع السياحة بالكامل. لاحقاً إنضمّ إليها صابر و صارا يبيعان الكوارع، الشيّة، النيفة، الطعمية و المخللات في المساء ببيتهم
لم تنقطع زيارات عناصر اللجنة الشعبية لبيتها و كان ابنها الأكبريتكفل بجعل زيارة عناصر اللجنة الشعبية غير معيقة لسير العمل خاصة و إنه من المترددين علي مسجد الحي. يفتح البيت علي شارعٍ ترابي واسع موازٍ لشارع ناصر الذي تسلكه وسائل المواصلات العامّة، مساء الشارع أغبر و واسع الإحتمالات، يفتح الجانب اللآخر للبيت علي شارعٍ ترابي ضيّق و ملتصق بجانب آخر ببيت صديقتها سعدية و بخلفه بيت غير مكتمل البناء يبدو أن مالكه قد نسيه فسكنته أسرة من الجنوب نزحت بسبب الحرب. بيت خديجة و صابر علي ناصية مناسبة الموقع من ناحية إستثمارية كما كان يقول الجميع عندما يعجبهم طعم أكل العشاء أو يتذكرون ملامح هنادي. لم تمانع جارتها سعدية في إنارة سور بيتها ليكون مع سور بيت خديجة و صابر المُنَار أيضاً مجلساً لمشتريي الطعام و آكليه من السابلة و ممن يعتقدون أنهم زبائن دائمين لهم علاقة حسنة بالحاجة خديجة و هو لقبها الجديد و العم صابر و اولاده.خديجة و بنتها و جارتها سعدية يجلسون إلي مواقد لتعبئة الطلبات يقوم صابر مع اولاده بغسل الصحون و ترتيب مجالس الآكلين و فض النزاعات المحتملة دائماً. لم يكن صابر يقبل بتجوال بنته أو خديجة أو سعدية بين مجالس الآكلين بأنوثتهن.
لاحقاً، بعد مغادرة صابر أو إختفائه تكاثف ضغط عناصر اللجنة الشعبية وتضاعفت إتاواتهم مما جعل خديجة، هنادي و اخوانها و جارتهم سعدية يفكرون في فتح مطعهم بالسوق ليرتاحوا من ضغوط اللجنة الشعبية، شرطة أمن المجتمع،موظفي المحلية، الضرائب، ديوان الزكاة و أحيانا شرطة النظام العام. جمعت خديجة من عملها الجديد اموالاً طائلة. "ربما كان غياب صابر أحد عوامل النجاح في العمل" ترِدُ هذه الفكرة عليها عندما تحس ذلك النوع من القهر الناتج عن نظرات الرجال الجائعة أو عندما تفكر بغضب عن صابر. تحس بنوعٍ من الندم عندما تجد نفسها مزينة كزوجة رجل مهم و حاضر. اشترت سيارة نصف نقل للعمل و سيارة أخري أنيقة. لم يكن فتح المطعم بسوق الخرطوم سهلاً، فمساء السوق ميّت كقلب المدينة. استبدلت خديجة فكرة بيع العشاء بتقديم وجبتي الفطور الغداء. لم تنتهِ ملاحقات الرسميين لها من شرطة، موظفي محلية و موظفي الضرائب و ارتفعت الإتاوات التي تدفعها لجعل الأمور تمضي نحو ربح معقول. يبدو أن مشيها الكثير لمكاتب الدولة و أفسام الشرطة جعلها تستطيب فكرة الإنضمام لحزب المؤتمر الوطني الحاكم و تغطي رأسها بنوع من القماش داكن اللون و تسبل باقيه علي جيبها مضروباً كما ورد في القرآن. إنضمامها لحزب المؤتمر الوطني الحاكم و انخراط اولادها في العمل الحزبي بالحي و قلب المدينة الميّت كموظفين في مكاتب أمانات الحزب الحاكم سهل أعمالها التجارية و فتح عيون أفراد اسرتها و جارتهم سعدية علي ثراء لا حدود له خاصة بعد انتهاء عهد الإتاوات و الظلم كما تعلمت خديجة أن تقول لنفسها و لمن تتبادل معهم الأسرار من معارف السوق و العمل.
خديجة الآن إمرأة أعمال إسلامية المظهر مع ثراء فاضح، ظهرت مرات عديدة في برامج التلفزيون المسائية كنموذج لأمرأة الأعمال الإسلامية الناجحة و كان الأمر الأكثر جاذبية عند الإعلاميين الذين يحاورونها هو فكرة أن خديجة تلزم من يعملون معها بصلاة الجماعة لاوقات الصبح، الظهر و العصر و المغرب أحيانا، كان مطعمها يفتح ابوابه لأصحاب الأعذار الشرعية في شهر رمضان و يقدم وجبات الإفطار و يلبي طلبات الزبائن من الصائمين و المُتسَحرِّين و الأمر الثابت أن المطعم يغلق أبوابه لصلاة الجمعة تمشيا مع الآية إذا نُوِدي للصلاةِ من يوم الجمعة فذروا البيع
ضاق بيت امتداد ناصر علي ثراء عائلة خديجة و ضيوفهم فاتفق افراد الأسرة علي بيعه و استبداله ببيت فخم و كبير في ضاحية المنشية لم يكن فرق السعر بمشكلة لهم علي الإطلاق.
لم تغيّر هنادي مظهرها و لقد وفرت السيارات العديدة بالبيت ستراً لأناقتها حتي ترتدي البنطلونات و الجيبات الضيقة و لم تكن تلبس التوب علي الإطلاق، علمت هنادي أن ما يحميها مما تتعرض له الأخريات من عسف شرطة النظام العام هو النفوذ الذي تتوفر عليه أمّها و أخوانها و ربما سِتْرُ السيارات.
توَسّعت علاقات خديجة و اولادها بعضوية حزب المؤتمر الوطني الحاكم و طرقت عتبات بابهم أقدام نساء و رجال أعمال و زوجات رجال أعمال إسلاميين كُثر. لم يكن من بين الزوّار من جاء لطلب يد هنادي. تضايقت خديجة من عنوسة بنتها و صار أمر عدم زواجها من الأمور التي تتناقش حولها خديجة مع اولادها و صديقتها سعدية التي تعمل الآن مديرة لمطعم الخرطوم الذي تمتلكه خديجة. سرَي خاطرٌ سِرّيٌ عند افراد الأسرة مفاده أن ما يعيق زواج هنادي هو مظهرها غير المُتَديِن و كان هنالك خاطرٌ متْعَب و قديم ينتاب خديجة و اولادها و ربما سعدية أيضاً و هو الخاطر المتعلق بذكري ذلك الحمل الذي علي إثره غادر صابر دون رجعة.
من مخبأه في دولة خليجية تابع صابر إتساع أعمال زوجته و اولاده و ثراءهم المحروس بالإنتماء للحزب الحاكم. أكدت هذه الفكرة عدم رغبة صابر في الرجوع لأسرته لكنه كان قلقٌ بشأن بنته هنادي خاصة عندما علم بأصرارها علي عدم تغيير مظهرها فافترض أنها من غير أتباع النظام الحاكم مما أثلج صدره المعارض للنظام.
تدَبّرت خديجة أمر مجموعة من رجال الأمن ليجدوا لها زوجها الهارب صابر فلم ينجحوا.
زادت جلافة اولادها في نظرها و تعمّق تدينهم، ارسلوا لحاهم و صارت أحاديثهم متركزة عن مصير الإسلام و المسلمين في ظل سيادة حضارة الكفر و الإلحاد أو ما يسمونه بالهيمنة الغربية علي العالم أو زمان حكم الصهيونية للعالم و استشراء الكفر و الفساد في العالم أجمع. كان تحوُّل اولادها تدريجياً و لم تلاحظه خديجة عند بدايته لكنها عرفت خطر ذلك التحوُّل في أحد الأيام عندما جاءت إلي البيت و وجدت بنتها مضروبة و باكية و عندما سألتها قالت هنادي" لقد ضربني إخوتي عندما رفضت خلع ذلك الإسكيرت و تلك البلوزة". كانتا ممزقتان و ملقيتان علي الأرض عندما نظرت خديجة في الإتجاه الذي أشارت إليه هنادي. غضبت خديجة و مضت إلي أولادها في الديوان فوجدتهم يصلون مع جمعٍ من أصدقائهم، انتظرت انتهاء الصلاة و طلبت منهم الحضور إلي جزء البيت الداخلي و كان ذلك بعد أن قالت " السلام عليكم و رحمة الله" تحيّة للضيوف. جاءوا فانتهرتهم و زجرتهم و وصفت فعلتهم ضد أختهم بأنها عمل خسيس و لا يمارسه رجال أسوياء. ردّ عليها كبيرهم باختصار و نفاذ صبر قائلاً " من رأي منكم منكراً فليغيره بيده.." إلخ الحديث النبوي. لم يعجبها الكلام لكنها لم تعرف ما تقوله فسكتت. ربما أسكتها الحديث النبوي أو الخوف منهم و ربما خوفها علي بنتها. بعد قليل قالت: هنادي أختكم الكبيرة و الوحيدة دعوها تفعل ما تريده و لا أريد لأحدكم أن يتكلم معها ثانية حول مظهرها فرد عليها ابنها بقول جزء من آية قراآنية " الرجال قوامون علي النساء .. ". غضبت خديجة و غرقت في صمت مؤكد و أخير.
ضمن وفد من الإسلاميات من نساء الأعمال و زوجات الشهداء كما كان يقال قررت خديجة السفر لأداء مناسك الحج. جاء القرار بعد لحظات الرعب التي عانتها من تصاعد نبرة التدين العنيف عند اولادها، خافت علي هنادي. هنادي نفسها أحسّت بنوعٍ من الإنهزام و التشتت، عندما قال أحدُ إخوانها لها " لن يقترب رجلٌ خيّر من فتاة مثلك طالباً للزواج، لن يكون عندك غير الصعاليك و العواليق الذين تعرفينهم". تلعثمت لم تعرف كيف ترد عليه حيث كان النقاش عن مظهرها و إمضائها أوقات طويلة بمعايير أخوتها في التزيُّن و إختيار ملابسها قبل أي مشوار. كان ذلك الكلام جِلْفاً في نظرها لدرجة أنها لم تخبر به أمَّها.انتصب حائط صمت و ترقب بين هنادي و أخوتها. يبدو أنه لهذا السبب وافقت هنادي علي فكرة مرافقة أمّها للحج لتخفيف ضغط لهجة التدين الإلزامي عند إخوتها. ابتهج أخوتها و هم يدفعون لها سعر ملابسها الجديدة المتوافقة مع المناسبة و التكوين الفكري لمرافقات أمّها في رحلة الحج و الملتزم بمنطق قانون النظام العام النافذ.
علِم صابر بتلك التطورات و قرّر مفاجأتهما في موسم الحج. سافرت خديجة و بنتها للحج بعد ذبائح، كرامات و ختمات متعددة للقرآن بالمنزل يتضوع من مجالسها أريج نكهات الحلويات الشرقية، الكيك، شاي الحليب و بليلة القمح المحلاة و المعالجة بالزبدة و مسحوقي القرنفل القِرْفة وبجانب بخور اللبان المحسن بالبخور الحلو. لم يتوقع صابر ضخامة وفد الحج السوداني و لم يتصور كيف يخبيءُ الإسلاميون مواقعهم حصينة الثراء أيام الحج بفنادق محددة و فخمة. باءت جميع محاولاته لمقابلتهما بالفشل فأكمل مناسكه و غادر المملكة العربية السعودية إلي حيث يقيم. عندما رجعتا من الحج عرفت هنادي أن أخوتها قد غيّروا جميع ملابسها و عدّة زينتها و لم تكن بخزانات ملابسها غير الملابس المتوافقة مع قانون النظام العام و قليل من الزينة الشرعية كما قال لها أحدهم. في البداية تخيّلت أن أنها ستستطيع استرجاع أناقتها و لكنها لم تنجح جراء تهديدات أخوتها لها بالويل و الثبور و الكلام المتواصل عن عذاب القبر و مصائر المتبرجات الخطرة علي حسب ما كانوا يقولون. إلتبس تهاني نوعٌ من الخوف الشديد، فقدان الشهية تجاه الحياة و نوع من الزهد في الدنيا. انتظمت هنادي في صلاتها و صوم الإثنين و الخميس و لم يقطع صلواتها و صومها غير الطمث و أيامه المتطاولة. تعاودها كوابيس مزعجة تري فيها رجالُ بأعضاء جنسية كبيرة و منتصبة يهرسونها هرساً فتصحو من نومها فزِعَةً، مبتلةَ بشهوة خائفة، غاضبة و فائضة تضطرها لتغيير لباسها الداخلي من البلل بنوع من الإستعجال كأنها تستر فضيحة. زادت وتيرة معاودة تلك الكوابيس لها فتجنبت النوم و استسلمت لخوفها. بحثت عن عزاء لها في قراءة القرآن و التنفل لم تخفف قراءة القرآن و لا النوافل من وطأة تلك الكوابيس. تدهمها أيضاً كوابيس أخري تري فيها نفسها راكضة تلهث من تسارع الأنفاس و خلفها جمهرة من رجال الدين و النساء المنقبات يطاردونها بالسياط و الهراوات، تصحو من هذه الكابوس متعرقة و خائفة و أحيانا تصحو بصرخة تيفظ أمّها فتجيئها بالطمأنينة و التعاويذ و الماء.
و في ليلةً ما ركضت هنادي بعد ضراخ تمزقت لصوته سُتُر الليلِ، فتحت الباب فأصدر صوتاً أستيقظ علي إثره الحي الهاديء فزِعَاً، لا بل عَوت بسببه كلابٌ ضالّة تزور مزابل الحي المكتنزة ببقايا المؤائد اللاحمة. ركضت هنادي لا بل انسجبت الارض تحت قدَمَيها و لم يوقفها حتي النهر فخاضته و لم تعَمْ إلي أن غرقت و لم يعرف عن غرقها أحد غير طيور الليل بشاطيء النهر.
لإختفاء هنادي و لغياب صابر غوّرت عينا خديجة أكثر و عشعش عليهما حزنٌ راسب، حزنٌ قديم ناتجٌ عن خيباتٍ متلاحقة، مكثت تلك الخيبات في نواحي روحها طويلاً. باتت لا تذكر ترتيب وقع تلك الخيبات علي صفحة الزمان المُر علي حسب ما تفكر. نعم انعدمت عندها الحساسية تجاه ترتيب وقع الأحداث فوجدت ضالتها في إكتناز الثروة من جوع الناس، الإكثار من الصلاة و النوافل أمام الناس و الصوم المعلن.
طه جعفر الخليفة
تورنتو- اونتاريو – كندا
20 ديسمبر 2017م
[email protected]
AddThis Sharing Buttons
Share to FacebookFacebook


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.