سيكتب التّاريخ غداً أن الطبقة السياسية السودانية، المُمسكة بتلالبيب السلطة وتلك التي تعارضها، ربما من بين نظائر قليلة في العالم، أنها تجسّد بامتياز الحالة البروبونية في أعلى تجلياتها، لم تنسَ شيئاً ولم تتعلم شيئاً مع كل الذي حلّ بالبلاد والعباد جراء حالة التجريف السياسي والاجتماعي، لذلك ظلت أزمات البلاد ومأزقها الوطني تدور في حلقة مفرغة، وتنزلق إلى الأسوأ عاماً بعد عام، ومع ذلك يظلّ طرفا الأزمة في الحكم والمعارضة متشبثين بسياسة الباب الدوار، بلا كلل ولا ملل، تعيد إنتاج فشلهما بالإصرار على الذهنية نفسها التي لا تزال تؤكّد العجز عن استشراف أية آفاق جديدة للخروج من النفق المظلم. حالة فريدة تلك التي انتهت إليها الحالة السودانية من العجز غير المسبوق، وهي السمة الوحيدة التي تجمع بين الشتيتين، فلا السلطة الحاكمة مع كل قبضتها المستمرة منذ ثلاثة عقود بقادرة أن تحكم وقد تحلّلت روابطها تهزم نفسها بنفسها بسياسات بائرة تجلّت في أكثر من صعيد ليس أقلها حالة الانهيار التي انتهى إليه الاقتصاد السوداني بكل موارده الضخمة وحوّلت البلد الغني إلى منتظر للهبات قروضاً وودائعَ يسأل الدول إلحافاً حتى لم يبقَ في وجهه مزعة لحم. وعلى الجانب الآخر، تقف المعارضة على امتداد طيفها تمثّل بامتياز الوجه الآخر من عملة الفشل السياسي، فلئن عجزت السلطة أن تحكم وما يُفترض أن يكون دافعاً لمعارضة فعالة، فقد تبيّن أن للعجز وجهاً آخر والمعارضة تفشل أن تقوم بدورها في أن تقدم بديلاً مقنعاً للرأي العام، ينتظر منها خلاصاً ويرى في أطروحاتها مخرجاً، ولكنها هي الأخرى مثخنة بجراح معارك دونكيوشتية عبثية، استبدلت الرهان على الوجود بين الجماهير والقيام بواجبها، لتنتظر حلولاً للأزمة الوطنية يتصدّق بها عليها الخارج، ويراهن بعضها على السلاح الذي لم يتسبب سوى في المزيد من المُعاناة لغمار الناس. والناظر في التطوّرات الأخيرة في طرفي السلطة والمعارضة يرتد إليه بصره وهو حسير، حين يكتشف مدى حالة العجز والخواء الذي انتهى إليه الطرفان، تاركاً هذا الفراغ العريض من الحيرة أمام السودانيين وهم يضربون كفّاً بكفّ على حظهم العاثر، فلا حظوا بحكومة قادرة على أن تقيل عثرات البلاد والعباد، ولا هم على وعد بمعارضة تحمل لهم أملاً أو بشريات بديل أفضل، لا شيء سوى الإمعان في اجترار الألاعيب نفسها، والمناورات الحزبية الضيقة، والأجندة الذاتية المحدودة التي لا تجد ما يدفع ثمن بوارها سوى الشعب السوداني المكلوم في طبقته السياسية التي فشلت على مدار ستة عقود من الاستقلال أن تجعل من السودان بلداً يستحقه مواطنوه كسائر بلدان الدنيا التي مهما تعقدت مشكلاتها فقد حظيت بقادة استطاعوا أن يهدوها سواء السبيل. ومن يتابع مجريات ما حدث في العاصمة الفرنسية باريس في اجتماع قوى نداء السودان، وتلك التطورات التي تشهدها دوائر الطبقة الحاكمة في السودان والتغييرات الدرامية التي توالت تترى في المؤتمر الوطني والأجهزة التنفيذية، فلن يجد صعوبة في الإمساك بالخيط الرفيع الذي يجمع بين ما يجري في الخرطوم وبين ما جرى في باريس على اختلاف الأماكن وما يبدو من تباعد المواقف، إلا أن المحصلة في النتيجة النهائية هي واحدة عند فحص ما يترتب على ما يبدو من حراك سياسي على جانبي السلطة والمعارضة، إلا أن الحقيقة هي أن الشعب السوداني يقف متفرجاً في هذا السيرك وألعابه البهلوانية الممجوجة التي تعيد إنتاج أزماتها قبل أن تزيد من تعقيد أزمة البلد. جاء المجتمعون في تحالف نداء السودان إلى باريس بعد طول بيات سياسي، وفترة كمون حتى نسي الناس أمره في ظل تطورات كثيرة شهدتها البلاد خلال الفترة الماضية، وقد حلّ التنازع بين مكوّناته، والتباغض مع جماعات المعارضة الأخرى، وكان الظنّ أنه في ظلّ الأوضاع المتداعية سياسياً واقتصادياً واجتماعياً ستتوافر البيئة المُناسبة للمعارضة لتتقدم بأطروحات بديلة تلهم الشارع العريض وتدفعه للضغط من أجل التغيير، ولكنها وقفت تتفرج لا تفعل شيئاً إيجابياً واحداً يتطلبه دورها التي انتدبت نفسها له، وبقيت تنتظر تتفرج تتسقط أخطاء السلطة الحاكمة المتراكمة وتكتفي بالتعليق عليها، وترجو أن يهبط عليها تغيير من السماء منّاً وسلوى بلا عمل لازم تقدم به نفسها، تنتظر أن يتبرع لها النظام بتغيير نفسه بنفسه. لن تكون هناك معارضة جادة ما لم تستطع الإجابة عن السؤال الصعب لماذا هي عاجزة عن إقناع الشعب صاحب المصلحة الحقيقية في التغيير بإنجازه، لا يمكن لأي قمع أو تضييق أو وأد للحريات أن يمنع شعباً إذا أراد الحياة أن ينتصر، امنحوا الشعب دليل استحقاقكم لقيادته، واستعدادكم لتقديم بديل أفضل، ستجدونه أمامكم. ولا يضاهي هذه الصورة البائسة لحال المعارضة العاجزة عن المعارضة إلا ما تكابده السلطة الحاكمة من عجز بيّن من القدرة على إدارة دولاب الحكم في بلد مأزوم تحاصره الأزمات التي تسلم كل واحدة لأختها لا لسبب إلا أن التكلس في مفاصل السلطة قد بلغ من العطب ما لا يرجى صلاحه، والمفارقة أنه في ظلّ هذه الأزمات المتلاحقة فإن ما يشغل بال الطبقة الحاكمة ليس النهوض للقيام باستحقاقات التصدي لهذا الفشل المستدام، فالقوم مشغولون بأجندة انصرافية بامتياز من قبيل مستقبل الحركة الإسلاميّة، والانتخابات، وتشريع دُستور آخر وكأن البلاد ينقصها وجود دُستور أو مصير حركة سياسية تتحايل لعدم دفع فاتورة رهانها الخاسر.