أرفع هذا المقال تحية لرهط من الشباب والشابات، في ركنٍ من خارطة بلادنا. وكإنسان حر ، فإنني لا أخفي غرضي من الكتابة، ألا وهو التحريض على الفعل الحضاري، وتأكيد إرادة الإنسان في أن يكون سيد نفسه. وقديماً قالوا: (ما حكّ جلدُك مثلُ ظفرِك.) لذا رأيت أن أحي كتيبة من أبنائنا وبناتنا ، سخروا وسائل التواصل الإجتماعي ، ومعرفتهم بالجغرافيا والمناخ الثقافي لبيئتهم ليقوموا بفعل حضاري راقي. وهم بذلك يغرسون الأمل في الإنسان العادي ، صانع التحولات في عصرنا. ويفتحون له نافذة على شمس الوعي والمعرفة، ليملك زمام إرادته الحرة. بدءاً .. أستأذن قاريء المقال أن أحيي منبر (المنتدى الحر)- وهو منبر في خدمة واتساب – تداعي له نفر من شباب ساءهم أن وطنهم الأصغر الذي رأوا الشمس فيه أول مرة يعاني ما يعاني من التهميش وبؤس الحال رغم ما يدره ضرع المكان للوطن من ثروة ضخمة ممثلة في ملايين رؤوس الماشية وفي النفط وفي التربة التي إن زرعت بها الحجر أعطاك ما يملأ خزانة عام كامل من الغلال. جاءوا من الناحية الجنوبية الغربية لإقليم كردفان. عرفوا أنّ ما تقوله مانشيتات صحف زمن الخيبة على لسان المسئولين ليس إلا بيعاً للوهم. هذا الجزء من السودان- لمن لا يدرون- رزيء أكثر من أي شبر في بلادنا – بأن جعلت منه حكومات المركز المتعاقبة مختبراً لحروبها بالوكالة ولإذكاء نعرة القبيلة التي تخطاها العصر. حتى إذا فصلت الإسلامويون الجنوب ، كان الخيار الجديد هو حرب العشائر ذاتها ضد بعضها البعض – مستغلين كل أمراض التخلف وعصبية القبيلة لإشعال فتيل الحرب بين بني العمومة. سيقول لي البعض ممن يؤذيهم ما قلت: وما دخل الحكومة بحرب بين بدو يصطرعون على المرعى؟ حسناً..وأين كانت هذه الحرب القبيحة بين الخال وابن اخته (بين الزيود وولاد عمران) وقد عاشوا في هذه الأرض جيرة وصلة رحم منذ أكثر من مائتي سنة؟ بل من أين جاء السلاح والذخيرة الحية والموتوسايكلات التي يستخدمها شباب ، هم فاقد تربوي، في حرب لو سألتهم ما هي أسبابها لما خرجت بإجابة تغنيك، ولزادت حيرتك! وتلك قصة سنفرد لها جلسة أخرى ويوماً آخر بعون ا لله. من مطبخ (منتدى الحوار الحر) خرجت فكرة النفير لنشر الوعي في منطقة موبوءة بحرب ضروس بين أبناء العمومة. لقرابة العام والشباب يتواصلون عبر خدمة واتساب وعلى الأرض. ولأن عالمنا في عصر الإنترنت والفيمتو سكند صار بمثابة قرية كونية فقد لبّى دعوة النفير من هم في المنبر ومن هم خارجه من أبناء وبنات المنطقة، يجمعهم الإحساس بالغبن على واقع أهلهم والغيرة على أن يفعلوا شيئاً من أجلهم. سنفرد حديثنا هنا لمنطقة الدبب (75 كلم شرق المجلد) وقد اختيرت لتكون الملتقى لهذا الجهد الشعبي الذي يرمي للخروج من عنق الزجاجة وبداية الطريق للحاق بعصر العلم والنور. (هناك إضاءة اخرى للمرحال الأوسط- سوق فيض الزراف (أميت) ونجاح تجربة التعايش ..سنرفعه قريباً إن شاء الله.) يعتبر "منتدى الحوار الحر" مطبخ الأفكار التي انبثقت منها فكرة النفرة. عمل شعبي حقيقي ، ساهم فيه النساء والرجال وأطفال المدارس (من حق الفطور). كذلك ساهم المغتربون من أبناء وبنات المنطقة. طغى الحماس عليهم، وعمل الخير مبارك وموفور. وبعد أن توفرت الإرادة والمال اللازم تابعت الرابطة ومحلية الدبب الترتيب للوساطة بين الإخوة المتحاربين ، والترتيب للمهرجان في محلية الدبب. سبق أن نجحت وساطات الأهل في طي صفحة الحرب المفتعلة بين الزيود وولاد عمران ، لكن المهرجان سبق جلسة الصلح التي يقتضي عقدها وفود من كل العشائر ، وترتيبات تمليها ثقافة المجتمع الرعوي ذي التقاليد والعادات الإدارية عميقة الجذور. (وقد قام الصلح التاريخي بين الأشقاء المتحاربين.والمنطقة تعيش هذين اليومين أعياداً من فرحة الصلح الحقيقي.) قام مهرجان الدبب: حملات طبية بقيادة إثنين من الأخصائيين :بروفيسور آدم احمد علي بقادي (أخصائي طب النفس للأطفال في مانشيستر) والبروفيسور عبدالله عبد الكريم جبريل – جامعة الجزيرة. والرجلان مشهود لهما بالكفاءة والخبرة العالية في مهنة الطب. أجرت القافلة الطبية فوق السبعين عملية جراحية للعيون وعمليات جراحية صغيرة والكشف الطبي على فوق ال 700 شخص، ومنح الأدوية لهم. كما تخلل المهرجان ورشة للتعليم لمدى ثلاثة أيام ، ناقشت أوراقاً مهمة وخرجت بتوصيات يرجى أن تسهم في استقرار التعليم في المنطقة. تخلل المهرجان فقرات إبداعية من الطلاب ومسرح وغناء شعبي وغناء حديث. كما أحيا الحفل الختامي الفنان الدكتور عبد القادر سالم. وقد كان الجو احتفالياً ، ذبحت فيه الذبائح (قدروها بمائة خروف وخمسين ثوراً). أود أن أرفع التحية لمن ساهموا في هذا العمل العظيم ، وأردد المثل القديم: ما حك جلدك مثل ظفرك! أنتم يا أبناء وبنات المنطقة من شعر بالغبن والظلم الذي يعانيه الإنسان السوداني. ولأننا تلقينا نور العلم على نفقة دافع الضرائب هناك ، فقد حان الوقت لرد الجميل. شكرا يا جاد الله الرضي يا من تعرف أنّ ابن الشعب منه وإليه. والشكر لمؤسس المنتدى الشاب الأديب البشر النعيم من السعودية. شكرا يا مهندس سعيد الحريكة من عمان والإقتصادي فضل الله خاطر من كوريا والبخيت الباشا وهشام القوني وآخرين من قطر ..الشكر لرجل الأعمال حسن صباحي وجهوده التي لا تنقطع. والشكر للمهندس المقدم ركن اسماعيل الحريكة ومحلية الدبب على تعاونهم وما قاموا به من ترتيبات لنجاح المهرجان. والشكر للزعامات الأهلية بقيادة وكيل ناظر العجايرة اسماعيل حامدين و الشيخ عبدالرحمن عبد الكريم والشيخ بريمة النور تورجوك. رسالتي إليكم أهلي وأحبابي: فلنوقد شمعة ، إن لم يكن باستطاعتنا إضاءة المكان كله من حولنا. وأخيراً .. لم أقل شيئاً عن الوفد الرسمي الذي جاء كما عودتنا الإنقاذ لسرقة جهد الآخرين عبر مكبرات الصوت والوعود والوعيد. لست ممن يهتفون للملك وحاشيته. أنا ابن سيدي الشعب.. السلطة التي تعرف كيف تمد أصبعها في عين كل طاغية طالت سنوات المسغبة والإهانة أم قصرت!