رحلة في أعماق الديار (2) "عبد الرسول النور": اجتمع في الشريط الحدودي الغضب والظلم والجهل والسلاح يوسف عبد المنان حينما أخذت الطائرة المروحية في الإقلاع نحو مدينة (الدبب) حاضرة المسيرية أولاد عمران والفضلية تداعت للذاكرة صور شتى من الماضي القريب والبعيد.. وأخذت صور وشخصيات صنعت تلك المدينة تطوف بمخيلتي.. وقد تعددت أسماء مدينة (الدبب) من (قم) إلى (مكة) و(كاودة) والصفة الأخيرة أطلقها بعض الذين كانوا يحيطون بالجنرال "أحمد خميس" وبينه وقيادات تلك المدينة خلافات وصراعات حتى تبددت بزيارة مفاجئة تم تريبها من قبل د."عبيد الله محمد عبيد الله" الذي تشغله كثيراً قضايا المسيرية وملفات النزاعات والصراعات عن واجباته كوزير بالخارجية.. والطائرة المروحية الرئاسية تعلو وتهبط.. وتكاد أنفاسها تنقطع ربما من وطأة الحمل.. أو أعاصير نهاية فصل الخريف.. كان الوزير "حسين حمدي يشير" لنائب الرئيس إلى القرى والفرقان المتناثرة، وقد أخذت قطعان البقارة تسرع الخطى نحو المصيف في بحر العرب بعد أن حرمها الانفصال من التوغل في التيجان جنوباً.. قلت للأخ "أسامة عبد الماجد" وهو من الصحافيين النابغين لكنه في حالة عداوة مع الجنوب يفرح لقرار إغلاق الحدود.. ويرقص مثل أغلب الصحافيين طرباً لقرارات التصعيد بين الجنوب والشمال.. قلت له: إن هؤلاء البقارة في ترحالهم جنوباً وشمالاً مصالحهم الحقيقية مع الجنوب والجنوبيين ولا مصلحة لهم مع السودان النيلي الذي يقرر نيابة عنهم في فتح الحدود وإغلاقها.. وهؤلاء البقارة يرعون في دولة الجنوب.. ويتصاهرون مع الدينكا والنوير ويتحدثون لهجاتهم وتجارتهم مع أويل وبانتيو وربكونا.. وكاكا.. ولا مصالح لهم في دنقلا أو مروي التي وصل خيرها من الكهرباء حتى جنوب كردفان ولم يبلغ الفولة والمجلد بعد !!. تبدت (الدبب) قرية صغيرة أو مدينة تخيط بها الأشجار الكثيفة العالية.. هي ذات المدينة التي تمرد أكثر من ألف شبابها بقيادة "حسن حامد" و"عبد الرحمن باخت".. ثم خلع هؤلاء (كاكي الحركة الشعبية) وأشعلوا فيه النيران تعبيراً عن وفاء لعهد قديم مع قيادة الإنقاذ.. ورموزها د."عيسى بشرى" و"حسن صباحي" رجل الأعمال الذي سخَّر ثروته الطائلة في بناء المدارس والمراكز الصحية وخدمة السياسة والولاء ل"البشير" قبل المؤتمر الوطني.. وهي ذات (الدبب) التي وقفت مع مولانا "أحمد هارون" في معركته الانتخابية واحتفلت معه في قسمة مشروعات التنمية.. وهي ذات (الدبب) التي خاض شبابها بقيادة "عبد الرحمن باخت"..غمار معركة تحرير هجليج.. ولكنها هي (الدبب) التي قتل شبابها بعضهم بعض في حرب البسوس بين أولاد عمران والزيود وهي الدبب التي غسلت الدم بالدموع واحتفت لقاء المصالحة والوئام في يوم (الاثنين) الماضي.. وتعانق الرجال وزرفوا الدموع ندماً وحسرة على لحظات الضعف التي اعترت صفهم ونجاح الشيطان في مهمة زرع بذرة الخلاف.. الذي أدى لنشوب الحرب.. الدبب أمس واليوم حينما كان السمر ليلاً في الفولة يتحدث الدكتور "عيسى بشرى" القيادي البارز في المؤتمر الوطني عن الدبب بين عام 1986 حينما خاض د."عيسى" الانتخابات البرلمانية لنيل عضوية الجمعية التأسيسية في دائرة المجلد الجنوبية وأبيي.. وقد حقق الفوز د."يونس جبريل" من حزب الأمة القومي بفارق (400) صوت فقط عن مشرح الجبهة الإسلامية د."عيسى" وفي الدائرة الأخرى المجلد الغربية فاز "أحمد الصالح صلوحة" عن الجبهة الإسلامية بالدائرة الوحيدة في كل كردفان الجنوبية، مستفيداً من تعدد المرشحين "الصادق بابو نمر"، و"عبد الرسول النور إسماعيل" ومرشح آخر وبين خلافات حزب الأمة نجح "أحمد صالح" بشخصيته الاجتماعية وخدمته للناس من خلال المجالس المحلية الفوز أكثر من بطاقته الحزبية كممثل للجبهة الإسلامية القومية.. د."عيسى بشرى" يتذكر أن الدبب كانت محطة مياه "دونكي" بها خفير ومنازل على أصابع اليد الواحدة.. لم تمكث سيارات الجبهة الإسلامية طويلاً وغادرتها إلى (فرقان) ومضارب العرب الرحل.. الذين يعتبرون د."عيسى بشرى" من رموزهم التي تحمل قضاياهم، في حين بدأ سوق الدبب فقيراً.. عربات قليلة تقف في المقاهي المبعثرة.. وقد تأثرت المنطقة بالانفصال وأنفض ذلك السوق العامر بالناس وحركة التجارة بين الشمال والجنوب.. ورغم أن الدبب اليوم قد أصبحت مدينة نهضت على أكتاف أبنائها.. خاصة المغتربين وشيخ الرأسمالية "حسن صباحي" الذي شيَّد مدرسة ثانوية للبنين وأخرى للبنات.. وقد افتتح النائب "حسبو" كلية الدراسات الإسلامية في الدبب التي شُيَّدت بنياتها حديثاً.. وفي اللقاء الجماهير الكبير الذي تقاطرت الجماهير لحضوره منذ الصباح.. والأمير "إسماعيل حامدين" الذي يمثل الوالي والمعتمد والرئيس سلطة أعلى من سلطة الجهاز السياسي.. ويحبه أهله جداً.. وينظرون إليه كقائد أكثر منه زعيم لقبيلة أولاد عمران.. تحدث في اللقاء الجماهيري "عمر عبد الله سالم" نيابة عن أهل المنطقة. وقال: إن الدبب تمثل الحارس الأمين على حدود السودان الجنوبية، وقد شهدت المنطقة حالات مد وجزر سياسي، ولكنها بفضل إرادة أهلها تشهد تنمية وعمران وتطور سياسي واجتماعي واقتصادي، وأن شباب الدبب هم من حرر هجليج وأبيي من خلال حشد (4) آلاف مقاتل يقودهم د."عيسى بشرى" وأن هذه المنطقة في عام 1999 كانت بها (9) مدارس فقط، والآن بلغت (24) مدرسة وعدد (6) آلاف طالب. وحينما شاهد المجاهدين د."عيسى بشرى" يترجل من سيارة مكشوفة لنائب الرئيس (حملوه على الأعناق) مثل عريس يتم زفافه على عروسته!! وفي اللقاء الجماهير طلب د."بشرى" من الفريق أول "علي سالم" وزير الدولة بالدفاع الصعود للمنصة، لأنه كان واحداً من أبطال معركة هجليج التي هزمت فيها القوات الجنوبية.. وأتهم "بشرى" جهات عمدت على تحريض المسيرية ليقاتلون بعضهم البعض. "عبد الرسول النور" الغضب والجهل تبدى الرهق والتعب على جسد الحاكم الأسبق لكردفان "عبد الرسول النور" وهو يصعد لمنصفة المخاطبة ويتحدث بصفته واحداً من أبناء المنطقة.. وقال: لقد انقطعت طويلاً عن أهلي في المرحال الشرقي، وجئت اليوم من أجل المساهمة في إصلاح ذات البين وتجفيف الدم، لأن أهل هذا الشريط الحدودي الممتد من أم دافوق غرباً وحتى الكرمك شرقاً اجتمع عندهم السلاح والغضب والجهل والمرض والفاقد التربوي والظلم، ولذلك انفجر الغضب كصراعات بين صفوفهم.. وهي صراعات غير مبررة.. وقال "عبد الرسول" في شهادة لصالح المؤتمر الوطني: إن "حسبو محمد عبد الرحمن" هو أول (عطوي) يدخل القصر الرئاسي في السودان منذ استشهاد الخليفة، ويعني (بالعطوي) أي أبناء وأحفاد (عطية وجماد) أجداد عرب البقارة في غرب السودان ورفض "عبد الرسول النور" الحديث الآن عن جمع السلاح ونزعه من المواطنين باعتبار أن هناك حرباً تستهدف الوجود العربي في السودان من خلال الجنوب أو المنطقتين، داعياً في الوقت الراهن لتنظيم حمل السلاح.. وحث الحكومة على إفراغ النفوس من الضغائن. عناق أبناء العمومة من النجاحات الكبيرة التي تحققت أن قيادات المسيرية قد تعانقت في المنصة الرئيسة من فرقاء الطرفين أولاد عمران والزيود في مشهد يعيد بيت الشعر العربي القديم للحياة مرة أخرى. إذا احتربت يوماً وسالت دمائها تذكرت القربى وفاضت دموعها تعانق د."الطاهر بقادي" و"حسين حمدي" ود."عبيد محمد عبيد الله" والفريق "حامد منان" في مشهد يثير لانقشاع ساحبة الخلاف، وحينما تحدث نائب رئيس الجمهورية لمواطني الدبب قال إنه ذهب إلى الشمالية وكانت مطالب المواطنين كهرباء المشاريع الزراعية وتوفير تقاوى الزراعة الشتوية وتمويل المصارف للمزارعين والتعليم.. وجاء لغرب كردفان والحديث هنا عن المصالحة القبلية وجمع الديات.. لأن الناس يقاتلون بعضهم دون مبررات.. ووجه النائب المسيرية بثلاثة توجيهات الأولى الإسراع بجمع الديات وتسليمها قبل نهاية العام الجاري.. ثانياً وقف العدائيات والتحرشات فوراً، وثالثاً الالتزام بقرار التباعد بين المتحاربين المعروف عرفياً (بالصف).. وأعلن التزام الحكومة المركزية بحفر السدود ضمن مشروع (زيرو عطش).. ودعا النائب أبناء المنطقة الذين حملوا السلاح من قبل وانضموا إلى المتمردين بالعودة والمشاركة الايجابية في التنمية.. وقال هؤلاء (قنصوا وقمحوا) وترجمة التعبير أن هؤلاء خرجوا من أجل الصيد ولم يجدوا شيئاً يصطادونه.. وشدد "حسبو" على ضرورة القبض الذين يثيرون الفتن بين الناس.. وإيداعهم السجون.. وقال: (من نقبض عليه في جريمة التحريض نذهب به لسجن بورتسودان ليعمل ذليلاً في خدمة البيوت وغسل الملابس حتى انقضاء فترة السجن بأمر الطوارئ هل تقبلون لأنفسكم بالسجن). لقاء الصراحة بعد اللقاء الجماهير اتكأ الجميع في استراحة ومقر إمارة أولاد عمران والفضلية وهي بناية من عدة غرف.. ومضيفة كبيرة تسع أكثر من خمسمائة شخص في هذا اللقاء الذي جاء بدعوى من النائب "حسبو" لقيادات قبيلة أولاد عمران عمد ومشايخ وأعيان طالبهم بتكوين لجنة من عشرة أشخاص للجلوس مع الطرف الثاني الزيود الذين وصلوا إلى الدبب كواحدة من المفاجأة الكبيرة.. ووجه النائب د."حسين حمدي" ود."عيسى بشرى" ود."عبيد الله محمد عبيد الله" ود."الطاهر بقادي" وهو اختصاصي جراحة بمستشفى الشرطة برتبة لواء بالبقاء في الدبب ومساعدة أهلهم وعشيرتهم حتى الوصول لاتفاق نهائي خاصة وقد وصل وقد الزيود.. وأقسم الحضور في بيعة رددها الوالي "أبو القاسم" قسماً مغلظاً بأن لا عودة إلى الحرب والنزاع ونبذ الخلاف.. وقد أقسم المسيرية على المصالحة، وفي تمام الساعة السادسة غادرت الطائرة الرئاسية الدبب عائدة إلى منطقة بليلة التي تعتبر حقل تجميع للنفط بغرب كردفان.