لا يمكن النظر للتاريخ ككتلة صماء، خاصة التاريخ البشري الذي يتميز بالمتغيرات والتقلبات، لذلك لا يمكن الحكم على حقبة تاريخية حكما عاماً أو القفز على هذه الحقبة بكل إيجابياتها وسلبياتها. نقول هذا ونحن نتوقف اليوم في ذكري إنقلاب 25مايو 1969م، الذي نفذه الضباط الأحرار بقيادة الرئيس الراحل جعفر محمد نميري والجميع يعلم أن مايو بدأت يسارية وختمت عهدها يمينية؛ هذا بمقاييس التصنيفات السياسية التي عفا عليها الزمن ولكن للانصاف لابد أن نعترف بأن الحقبة المايوية استعصمت على الهيمنة الحزبية. حاول نفر من القوات المسلحة محسوبون على الحزب الشيوعي السوداني بقيادة هاشم العطا الإنقلاب على الإنقلاب فيما عرف بالثورة التصحيحية في محاولة للهيمنة المطلقة على الحكم المايوي؛ ولكنها إنتهت نهاية مأساوية أضرت بالحزب الشيوعي السوداني أكثر من غيره من الأحزاب. صحيح لم يحدث إنفراج سياسي إلا في أواخر الحقبة المايوية عندما اقتنع بعض قادة مايو بضرورة التصالح مع الآخرين، ولكن للأسف لم تستكمل حلقات المصالحة الوطنية فقط استفادت منها الحركة الإسلامية السياسية التي بدأت في بناء نفسها اقتصادياً وسياسياً قبل أن ينقلب عليها نميري في أواخر الحقبة المايوية فانتهت آخر مظاهر المصالحة وازداد التخبط السياسي والاقتصادي إلى أن قامت الانتفاضة الشعبية في أبريل 1985م. هناك من يري تشابها بين الحقبة المايوية وحقبة الإنقاذ مما جعل العميد صلاح كرار عضو مجلس قيادة الإنقاذ رئيس اللجنة الإقتصادية في ذلك الوقت يسعى لإقناعي بالعمل في صحفهم كما كنت أعمل في الحقبة المايوية، وهذه ليست المحاولة الاولى فقد سبقتها محاولة عبر صحفي كبير إتصل بي ناقلاً رسالة من أهل الإنقاذ للعمل معهم في “السودان الحديث” وقد اعتذرت أيضاً أولاً لإقتناعي بهيمنة حزب سياسي على الإنقاذ ولأن تجربة العمل في مايو علمتني إن أهل السودان لا يمكن حكمهم بالقهر مهما كانت الشعارات المرفوعة. من المفارقات العجيبة وهي كثيرة هذه الأيام إن من كان يريد أن يقنعني بالعمل في صحف الإنقاذ أصبح يكيل الإتهامات لاخوانه بعد أن أصبح من المبعدين وما أكثرهم؛ ولكنهم يفقدون احترامهم عندما يبصقون في ذات الماعون الذي اكلوا فيه من قبل. لذلك قلنا انه لا يمكن الحكم على حقبة تاريخية ككتلة واحدة، كما لا يمكن فرض الهيمنة الأحادية في الحكم الى ما لانهاية ،ولابد من السير في طريق الديمقراطية التي لامفر من الوصول إليها وأن طال السفر.