…………. في سياق استقلال جنوب السودان، نسمع الكثيرين يتحدثون عن الحاجة لبناء (دولة قوية)، وتتحدث الوفود الأجنبية عن تقديم المساعدة في بناء قدرات الدولة. في مثل هذه المناقشات عادة مايستخدم تعريف ضيق للدولة، يتصل بالهياكل الادارية، وقطاع الأمن، والمؤسسات الأخرى. ورغم ان المؤسسات تشكل البنية التحتية المهمة للدولة، الا ان اختزال الدولة في مؤسساتها يقلل من فهمنا لقضايا تطور الدولة . إذن، فما المزيد الذي يشكل الدولة ؟ انطلق المفكرون السياسيون، من توماس هوبز Thomas Hobbes الى جان جاك روسو Rousseau، من اطار مفاهيمي مختلف عن الدولة، فبدلاً عن مساواتها بمؤسساتها المادية (الوزارات، القواعد العسكرية، ضباط الشرطة)، اتخذوا مقاربة، تنظر للدولة كعقد ضمني بين الحكومة ومواطنيها. وبالطبع لم تتم كتابة هذا العقد فعلياً على الورق، ولكن الفكرة أن الدولة تتطور عبر التفاعل المستمر بين المواطنين والحكام. وهكذا فإن الدولة ينظر اليها كعقد بين طرفين – الحكومة ومواطنيها. والتفاعل الجاري بين الطرفين يؤدي الى مراجعة مستمرة للعقد وشروطه. تفرض الحكومات السياسات ويرد المواطنون، ويقدم المواطنون المطالب للحكومات وهي تتجاوب : وطبيعة هذه الديناميكية تحدد طبيعة كل دولة. وفي اي دولة يطور المواطنون والحكومات عقدهم الإجتماعي، عبر عملية من التفاوض المستمر. وفي النظام الديمقراطي تتخذ هذه المفاوضات شكلاً صريحاُ كل 4 – 5 سنوات، عندما يضع المواطنون حكوماتهم موضع المحاسبة في الانتخابات، من حيث ايفائها لإلتزاماتها في العقد. ولكن يتطور الحوار بين المواطنين والحكومات في اشكال مختلفة. ولجأ الفلاسفة الى تعريف الدولة وفق هذه المقاربة، في محاولاتهم للإجابة على سؤال شرعية الدولة. تخيل اناس عقلاء يعيشون في حالة (طبيعية) من حكم أنفسهم بأنفسهم، فلماذا يرغب هؤلاء في التنازل عن بعض حرياتهم واطاعة اوامر حكومة ؟ بصورة أخرى، ضمن أي شروط يعتبر المواطنون حكومة ما شرعية ويقبلون حكمها، وبالتالي يستمرون في عقدهم معها ؟ اجاب الفلاسفة المختلفون على هذا السؤال اجابات مختلفة، ولكنهم اتفقوا جميعاً على ان الدولة لا تعتبر شرعية الا اذا وفرت لمواطنيها الأمن والخدمات العامة الأساسية. ولكي يكون العقد مستداماً، لا بد ان يكون توزيع الخدمات العامة على اساس من المساواة. وفي السودان تآكل العقد الإجتماعي بصورة كاملة منذ الإستقلال عن البريطانيين في عام 1956م. فلم تفشل الحكومات المتعاقبة في الخرطوم عن تقديم الخدمات وحسب، ولكن توزيع الموارد المتاحة المحدودة لم يكن أبداً على اساس المساواة، كما لم يتم ابداً في حوار مع المواطنين. لقد افترضت الحكومات، عن خطأ، أنه يمكن بناء الدولة دون تعاون وموافقة مواطنيها. وبالنتيجة، طعنت مجموعات اثنية تم استبعادها بصورة بنيوية من العقد الإجتماعي في شرعية دولة مابعد الإستقلال السودانية. وخرج جنوب السودان الآن من العقد بصورة جذرية، بتشكيل بلد جديد – سودان جديد – وتوقيع عقد اجتماعي جديد مع مواطنيه. وهناك مجموعات أخرى في السودان القديم – في دارفور، كردفان، النيل الأزرق – ستستمر في تحدي شرعية الدولة، الى حين اعادة كتابة جذرية للعقد الإجتماعي في الشمال، او الى حين ايجاد فرصة للهروب من العقد القديم بطريقة مماثلة لماسبق وفعله شعب جنوب السودان. ويعتبر توفير الأمن للمواطنين الحد الأدنى لشرعية الدولة وبقائها. ولكن في الوضع الحالي كما في السابق، فإن حكومة الخرطوم لم تفشل في توفير الأمن وحسب، انما شكلت السبب الرئيسي لإنعدام الأمن، الى درجة قتل مواطنيها انفسهم. وبذلك دمرت العقد الإجتماعي، والذي يعني تدمير الدولة نفسها. وهكذا ربما نشهد في شمال السودان في السنوات القادمة انتحاراً للدولة. وفي جنوب السودان ولدت دولة جديدة، ولكن عدد من التحديات في الإنتظار. والنظر الى الدولة كعقد اجتماعي، يلفت انتباهنا الى جوانب عديدة من جوانب بناء الدولة، التي غالباً مايتم التغاضي عنها. فعندما ننظر الى مواطني الدولة كطرف اساسي في العقد، وليس مجرد متلقين للخدمات، يصبح من الواضح ان الاستثمار في بناء مؤسسات الدولة ليس كافياً لبناء دولة قوية. لا بد من خلق مساحة للمواطنين للتفاوض حول جانبهم من العقد، بتسهيل الحوار بين المواطنين والحكومة، مما يعزز من شرعية العقد الإجتماعي، ويجعله اكثر قابلية للإستدامة. وسيكتسب الحوار قوته عبر الإستثمار في تنمية معارف المواطنين، من خلال التعليم والإعلام. واخيراً، فإنه من الأهمية بمكان أن يتم توزيع موارد الدولة بعدالة بين المناطق والمجموعات المختلفة، وضمان الا تشعر اي مجموعة بأنها مستبعدة، مما يدفعها لنبذ العقد الإجتماعي.