هشام عمر النور … الماركسية … نظرية لكل العصور … الماركسية تحلل كل الظاهر على أساس نظريتها المادية التاريخية ورؤية تاريخية خاصة نرافق هذه النظرية. ويمكننا أن نفكر في الماركسية ك”نظرية لكل العصور”، على استعداد للتعليق على أي شئ وكل شئ، في كل أوقات والأزمنة. المصدر المباشر للمادية التاريخية الماركسية نجده في فلسفة هيجل (1770- 1831) المثالية. ولقد أغنى هيجل النظرية بمصطلح حاسم هو الاغتراب alienation الذي يفسر العلاقة الداخلية بين المنطق والتاريخ. في المنطق، يمكننا أن نحدد التناقض الكامن في كل التفكير، الذي يعني أن فكرة ما حتماً ستثير نقيضها. وهدف هيجل أن يحل هذا التتناقض في الوعي ذاته وبه. ويتقدم الوعي بهذه الطريقة على نحو تاريخي دائماً إلى تركيب أعلى، في لولب متصل صاعد إلى أعلى من تحقق الذات. والاغتراب في هذا المشروع اغتراب ديالكتيكي، بمعنى أن عدم كفاية أي شكل من أشكال الوعي تحوله إلى شكل آخر، وهكذا دواليك، إلى أن يتحقق علم حقيقي. الاغتراب عملية يصبح بها العقل كوعي لذات ما (thesis) موضوعاً للتفكير لأجل ذاته (antithesis). ومن ثم يتقدم العقل الإنساني على نحو ثابت إلى الطور التالي الأعلى من التركيب (synthesis) والوعي الذاتي. وبذلك استطاع هيجل أن يقدم إجابته على السؤال الهام والمصيري بالنسبة للنوع الإنساني “ما هو موضوع التاريخ؟” بالقول بأن موضوع التاريخ هو تحقيق المعرفة المطلقة. التاريخ هو رحلة “روح العالم” في تقدمها من خلال سلسلة من المراحل إلى أن تصل أعلى شكل من تحقيق الذات، الروح المطلق. وأن هذا الشكل قد تحقق من وجهة نظر هيجل في الدولة البروسية التي عمل فيها كموظف عام (أي، كبروفسير فلسفة في جامعة برلين). ديالكتيك هيجل ديالكتيك مثالي. منحه ماركس أساساً مادياً، بمعنى أنه نقل الاغتراب بعيداً من “تأمل العقل لذاته” إلى الصراع الطبقي باعتباره التاريخ الحقيقي للوعي في تقدمه. فبينما يرى هيجل أن مهمتنا هي تأمل الوعي في تقدمه دون التدخل طالما أنه لن يتحقق إلاّ في نهاية رحله، يرى ماركس أن الفلاسفة قد فهموا العالم بطرق مختلفة بينما المهم هو تغييره. بالنسبة لماركس تحقيق الفلسفة حرفياً، تحقيق نهايتها يعني هزيمة الطبقة العاملة الصناعية للرأسمالية البرجوازية، وتأسيس المجتمع الشيوعي الذي سيزيل في النهاية “التناقض الكامن” بين المُستغِل والمُستغَل. وهذا هو البرنامج الذي وضعه ماركس في البيان الشيوعي (1848م). تاريخ كل المجتمعات الموجودة من قبل هو تاريخ الصراع الطبقي، الرجل الحر والعبد، الارستقراطي والشعبي، الاقطاعي والقن، النقابة الرئيسية وعامل اليومية، باختصار، القاهر والمقهور، يقفان على نحو ثابت في مواجهة بعضهما البعض، في قتال لا ينقطع، مرة على نحو خفي، ومرة على المفتوح، قتال ينتهي في كل مرة إما بإعادة بناء ثورية للمجتمع بشكل عام أو بخراب عام للطبقات المنافسة. والرأسمالية بسطت الأعداء إلى عدوين كبيرين البرجوازية ضد البروليتاريا. وتم اختزال الصراع إلى الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج ضد العمال الذين يبيعون عملهم للنظام الرأسمالي للإنتاج. كيف تعمل الرأسمالية؟ والسؤال الديالكتيكي الحقيقي بالنسبة لماركس هو كيف تعيد الرأسمالية إنتاج نفسها والحفاظ عليها؟ والإجابة إنها تفعل ذلك بواسطة ميكانزمين عادةً لا يظهران للعيان، ومهمة ماركس هي الكشف عنهما بحيث يحضران أمام الوعي الثوري. الميكانزم الأول الاستهلاكية إذ أن إنتاج العامل يعتمد على تكاثره، فهو يعمل في مقابل المأكل والملبس والمسكن لأسرته. والميكانيزم الثاني هو فائض القيمة، الذي بواسطته ينجح الإنتاج الرأسمالي في استغلال أكثر لوقت العمل مما يدفع مقابله في الواقع. هذا التحليل المركب نحتاج منه فقط أن ندرك الطبيعة الضرورية والمختبئة والمتنكرة واللاواعية للنظام الذي يعمل. وهنالك بنية خفية ثالثة وهي عامة وأساسية لكل المجتمعات، بما في ذلك الرأسمالية. المجتمع دائماً يتكون من قاعدة أو بنية تحتية اقتصادية وبنية فوقية. البنية الفوقية تتكون من كل ما هو ثقافي الدين، السياسة، القانون، التعليم، الآداب والفنون….إلخ والتي تتحدد باقتصاد معين (عبودي، إقطاعي، تجاري، رأسمالي…إلخ). وفهمت الماركسية البنية الفوقية باعتبارها أيديولوجيا طرق للتفكير تميز سلوك الطبقة (أو هي ما نسلم به باعتباره طبيعي). تقوم الأيديولوجيا حرفياً على بنية تحتية اقتصادية الوسائل التي تستطيع بواسطتها إنتاج نفسها وثروتها والذين يملكون وسائل الإنتاج هذه. مرة أخرى، نلاحظ تأكيد ماركس النقدي على ما هو مختبئ: الدين، السياسة، القانون، إلخ كل ما هو ثقافي نعيش به يخفي ويمنح على نحو طبيعي تام وسائل إنتاج اقتصادية غير طبيعية. من وجهة نظر الماركسية الضيقة أو ما يمكن أن نسميه الماركسية التبسيطية أن أيديولوجيات الثقافة (مثل الفنون) نتاج ثانوي يتحدد بالقاعدة الاقتصادية. إلى أي حد؟ وإلى أي درجة يتحدد الثقافي بالاقتصادي؟ هذا السؤال كان مصدر لجدل معتبر في دوائر الماركسية. بعض المنظرين يرى أن هناك أنشطة محددة في البنية الفوقية الفنون أكثرها ملاحظة يمكن أن يكون لها “استقلال نسبي” من القاعدة. ولذلك فإن الأمر ليس ببساطة أن يكون اقتصاد العمل العبودي هو الذي أنتج مباشرةً الفنون الإغريقية. بل إن الاقتصاد يحكم نشاط البنية الفوقية في المستوى الأخير من التحليل. ولكن ماذا يعني بالضبط “الاستقلال النسبي” أو “التحليل في المستوى الأخير”؟ هذه المناقشات هامة في النظرية النقدية للتقرير بشأن إذا ما كان من الممكن ببساطة أن نقرأ الأحداث في البنية الفوقية بعيداً من الأحداث في البنية التحتية الاقتصادية. هنالك أمر يظهر بوضوح إذا أحسنا الإمساك بقواعد التحليل الماركسي فيما يخص الاغتراب. الاغتراب في الماركسية، كما هو واضح، عمليتان. عملية واعية، مثالية، تنتج الثقافة؛ وعملية غير واعية، مختبئة، مادية، تجري في الواقع، وتنتج الشروط الاقتصادية الاجتماعية. وموقع العمليتين هو النص. وعلى هذا النحو شكلت الماركسية النظرية النقدية وجعلتها تبحث تحت سطح النصوص. فالنص لا يعني ببساطة “ورقة عليها كتابة”، وإنما يعني “إنتاج مشفّر”. مع ملاحظة أن ماركس قد منح الاغتراب معنى جديد، ليس كعملية هيجلية للوعي الذاتي وإنما كتغريب لا واعي عن الإنسان يتحدد بشرطه الطبقي (وهو يعادل الوعي الزائف). ونستطيع القول أن النظرية النقدية قد ورثت من الماركسية: التوتر بين المثالية والمادية (استقلال النص ضد بناءه الاجتماعي)؛ واللاوعي المموه أو المختبئ؛ والقدرة على التغيير، أي الإحساس بأن النظرية النقدية تستطيع أن تصنع الفارق.