أمسكت بطرف ثوب أمها وتعثرت وهى تحاول متابعة الركض خلفها.. لرائحة أثواب أمها عبق مميز.. رائحة النظافة ، الصابون ممتزج بالمسك الذي ترشه على ملابسها عندما تكويها، كانت بقصر قامتها لا ترى شيئا سوى “السفنجة” بقدمي أمها المخضبتان بالحناء، ظلت القدمين تنطلقان مسرعتان مثيرتان لغمامة صغيرة من التراب.. ظلت تتابع الغمامة الترابية وهى تحاول أن تبعد عنها أحداث اليوم العنيفة.. سنواتها الخمس لم يسعفنها لفهم سبب غضبة أبيها عندما أتى من الخارج ووجد أمها لدى الجيران، صراخه ومن ثم ضربه لأمها وخروجه غاضباً لم يكن أمرا مفهوماً بالنسبة لها.. وها هي أمها تجمع ملابسهما بسرعة وتضعها بحقيبة تجرها بيد، وباليد الأخرى تجرها هي وحيرتها… امتطت الغيمة”ركشة” وسحبتها خلفها، وصلتا لمنزل جدتها دلفت خلف الغيمة وهى سعيدة وتوقعت أن تحتضنها جدتها بحنانها المعهود ولكن بدلاً عن ذلك لم تنتبه لها بل أمسكت بأمها وجلست تستمع لنحيبها وشكواها من ضرب زوجها المتواصل ومنعه لها الخروج.. تنهدت أمها وصمتت.. سكبت الغيمة مطراً مالحاً.. ورود الأماني الضحلة الطلع الدائم لربيع خامل شجرة الصبر الشائخة المهترئة لبلاب الظلم الأخضر آثار السوط علي الأجساد المرتجفة روافد الدمع. في صحارى الوجوه “من قصيدة: صورة من حياتنا للشاعرة فاطمة أختر” اندفع الهواء عبر النافذة التي بجوارها ففتحتها أكثر لتستمتع بالهواء الطلق، شعرت بروحها تهدأ بعد يوم مرهق فكرت انه من الجيد أن تسافر لأهلها بنهاية أسبوعها المرهق هذا من بعيد لمحت السماء الصافية تنظرها والخضرة تحوط المكان فانتشت روحها أكثر.. طارت الطرحة من رأسها رأتها تطير بعيداً بعيداً .. نظرتها بهدوء لم تفكر بملاحقتها ، تمنت أن تكون مثلها.. تابعتها بفرح رأتها تقترب من السماء الصافية .. وتغيب بعيداً تاركة الهواء يلف شعرها ووجهها.. إن النفسية التي ترى في جسد المرأة ما يستحق الحبس تحتاج للتفكير في الأسباب الكامنة وراء خوفها من هذا الجسد، اذ ارتبط جسد المرأة قديماً بالفتنة.. والشيطان.. وصارت مترادفات للمرأة وجسدها، لقرون طوال ظل جسد المرأة تجسيداً للدمار ورمزاً للفوضى والتعذر عن الضبط ، ظل هذا الجسد المغلوب على أمره ممثلاً لقوة النشاط الجنسي المرعبة والغامضة، لذا ظل هذا الجسد يتحمل ويلات دوره البيولوجي السامي وبذات الوقت لعنة هذا الدور، ورغم إن الإسلام قد جاء بنمط تعامل مع الجنس أرقى أخلاقيا إذ يقول الأمام الغزالي في كتابه إحياء علوم الدين:” إن النفس ملول وهى عن الحق نفور لأنه على خلاف طبعها، فلو كلفت المقاومة بالإكراه على ما يخالفها جمحت وثابت، وإذا روحت باللذات في بعض الأوقات قويت ونشطت، وفى الاستئناس بالنساء من الاستراحة ما يزيل الكرب ويروح القلب، وينبغي أن يكون لنفوس المتقين استراحات بالمباحات” إلا إن السلفيين والمتزمتين أفلتوا هذا الترقي الروحي الفريد ليرموا بنا في لجة التفاسير الإسرائيلية حيث المرأة هي الخطيئة والشيطان نفسه.. لذلك ظلت الثقافة العربية تكرس لدونية المرأة عبر بوابة الدين ، لتحط بكرامة نفس كرمها الله، ولتضع أجساد النساء خارج المجال الحيوي للحياة ليكن مملوكات لإمتاع الرجل والحفاظ على نسله فقط، إذ إن وجود هذه الأجساد خارج البيت يرمى بالذكور المسلمين فى شرك الشهوات “الشيطانية” التي تشغلهم عن بناء “حضارة” ظلت “مونتها معجونة” ولم ترتفع بها طوبة قط.. لقد ناقش المفكر قاسم أمين هذا الخوف الغريب من جسد المرأة بسؤاله الشهير “من يخاف من!؟” إذ يصل إلى إن الرجال يخافون فتنة النساء فيقول عن ذلك:” إذا كان ما يخافه الرجال هو استسلام النساء لجاذبيتهم الذكورية فلماذا لا يرتدون الحجاب؟ هل فكر الرجال إن قدرتهم على محاربة الإغواء أدنى من النساء؟ … ليصل في الختام إلى ” إذا كان الرجال يشكلون الجنس الأضعف فهم الذين يحتاجون إلى الحماية وبالتالي هم الذين يجب أن يتحجبوا”. ببلادنا يرى المجتمع ان صورة المرأة السافرة بها خدش للحياء وقبل الخوض فى هذا التفكير السطحى دعونا نتساءل هل تجد النساء الحق المماثل فى عدم خدش حيائهن وشعورهن؟ فالرجال في هذه المدينة لا يكلفون أنفسهم بالضغط على مثانتهم أو أمعائهم إذ يقضون حاجتهم قاطعين الطريق بعريهم الكامل أمام النسوة المارات ولم نسمع بمن قال انهم يخدشون حياءنا كنساء لان المشرع يستبطن إن الشوارع ملك للرجال والنساء غريبات عنها لا يملكن حق صون الشعور.. كما انه من الطبيعي ان ينتهك حياء وأجساد النساء بالنظرات والملامسات والعبارات القبيحة دون أن يكون السوط واقفاً بالمرصاد مثلما يحدث مع النساء.. وتقول الدكتورة فاطمة المرنيسى فى كتابها الخوف من الحداثة : الإسلام والديمقراطية” برغم أن بعض الآيات تربط الوأد ربطاً مباشراً بمتطلبات الآلهة الأمر الذى يجعل الوأد قرباناً بشرياً، فإن العديد من المؤرخين المسلمين يرفضون اعتقاد ذلك ويطرحون نظريات أقل ارعاباً كالفقر والفضيحة، ففى الحالة الأولى كان الآباء يضحون ببناتهم كى ينقذوهن من الموت جوعاً، وفى الحالة الثانية لينقذوهن من الوقوع فى أيدى الأعداء إثر غزوة ما. ويفهم من ذلك ان الغزو كان أمراً مألوفاً. ويقر القرآن بوضوح فى الآيتين(137،140) أن الوأد أمر توحي به تلك الالهات القبيحات اللواتى يستمر المشركون بإشراكهن فى الله برغم وضوح الآيات” وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم ولو شاء الله ما فعلوه فذرهم وما يفترون”. ولقد فسر الطبرى هذه الآيات بأن الأصنام كانت تطالب بقتل البنات وسمى هذه الآلهة البشعة بالشياطين”أمرتهم الشياطين أن يقتلوا البنات” . إن ما يمارس تجاه النساء في مجتمعاتنا من حبس لأجساد الفتيات داخل زى محدد هو وأد جديد، إن الحرية هواء الكائنات الحية جميعها ودونها تذوى الروح وتفقد حيويتها. وردم النساء بالعباءات والزى الذى لم يخترنه. هو تجاهل سافر لحقهن المشروع في العيش حرات.. لذا فهو بحق وأد معاصر. هادية حسب الله [email protected]