بيتهم العامر بالضيوف أضفى على طفولتها عبء كبير فبقدر ما كانت تسعد بالجلوس على حجر إحدى ضيفات حبوبتها تستمع للثرثرات المشفوعة بالضحك، بقدر ما كانت تخاف نظرات جدتها المؤنبة..لم تكن تقوم بالكثير من الضجيج ولكن صبر جدتها النافذ كان يلاحقها عقب كل حركة..تنظرها جدتها بعيونها الضيقة الحازمة فترتعد أوصالها وتنسحب راكضة..لتتنهد جدتها بإسترخاء فرح قائلة للجارات: انحنا بناتنا كان عاينا ليهم ساكت بفهمن.. والله خشمى ده ما بفتحوا مع واحدة منهن، بس أعاين كده يقومن جاريات. توووت..تتوت..توووت.. نانى ناانى نانى ..كان فمها الصغير يحاكى أصوات عربات مختلفة.. وكانت تسعد بان تسأل الآخرين : عربيتى دى شنو؟ وهى تمسك مقود وهمي بيديها الصغيرتين، وكانت حماستها تزيد كلما تعرف الآخرين بسرعة على نوع عربتها، ومع كل عربة كانت تحكى حكاية: “انا سواق شاحنة كبيييييرة شايل أسمنت يبنوا بيهو بيت ناس حبوبة.. زحوا ياجماعة دى عربية اسعاف شايلة ولد ما شاطر بلعب بالشمعة بتاعت عيد الميلاد .. انا بوليس بقبض الحرامية عندى نور كبير فى رأس العربية بنور بيهو للحرامية عشان ما يقعوا فى الخور لما اجرى وراهم …و….، كان الجيران يستجيبون للعبتها هذى مستمتعين، وفجأة خبأت ضجتها وخفتت كل أصوات عرباتها المختلفة، صارت تجر دمية بلاستيكية منفوشة الشعر، ظلت تردد لمن يسألونها “البنات بلعبوا بالعروسات والأولاد بلعبوا بالعربات.. أنا بت.. لكن عروستى دى ما بتسمع الكلام ما بتسرح شعرها” وقفت فى وسط “الكافتيريا”، شحيحة الأضواء طمعاً فى حفظ خصوصية زبائنها من المحبين. تلفتت ميمنة وميسرة بحثاً عنه ولم تجده. انسحبت لتجلس بخجل بأقرب مائدة. لم تتوقف حركة يديها المتوترة وهى تعبث بموبايلها، اصطدمت عينيها بعيني النادل فأشاحت بصرها بسرعة خوفاً من ان يتصور انها ترغب فى استدعائه فهى لا تملك نقود لطلب اى مشروب، اتصلت به وعندما لم يستجب وقفت مباشرة لتغادر وهى تشعر بحرج بالغ وتتخيل ان العيون تلاحقها. فى الطريق الترابى سمعته من خلفها يهتف باسمها، لم تلتفت كانت غاضبة، لحق بها متلاحق الأنفاس حاول ان يشرح لها ظرف حرج اضطره للتأخير. كانت قد أوصدت أذنيها وعقلها فلم تسمعه قط. ظلت تكرر عبارات التأنيب، لاطفها معتذراً وطلب منها الرجوع للكافتيريا. اصرت على عدم الرجوع، انصاع لغضبها وواصل المشى معها بطريقهما للمواصلات. ظلا صامتين للحظات. فكرت بعدها بخوف من ان غضبها هذا قد يدفع به الى هجرها فرسمت ابتسامة على وجهها واقترحت مكان جديد يجلسان فيه فيما تبقى من وقت. أدارت دبلتها بين أصبعيها، لم تستطع أن تسيطر على اهتزاز قدميها، ظل التلفزيون يبثها صورا لم تفلح فى إبعاد عينيها عن الباب. دخل بعد منتصف الليل بحوالي النصف ساعة، لم ينظر بعينيها ألقى عليها تحية مقتضبة واندفع إلى الغرفة ليغير ملابسه. انتظرت ان يخرج اليها دون جدوى. ذهبت اليه وهى تسأله ان كان يريد شئياً قبل ان ينام، همهم بشىء عن يومه المرهق وانه لا يرغب سوى بكوب حليب. بعد ان شربه التفت متجنباً نظراتها ونام..لحظات وصار شخيره يدمى سكون الليل.. رجعت للتلفاز وهى حانقة وغاضبة. فى الصباح ناولته كوب الشاى وهى ترغب فى سؤاله عن رائحة العطر النسائى التى وجدتها تفوح بملابسه ولكنها لم تستطيع، حياها مودعا..وقفت تودعه وشعرت بغثيان شديد فركضت للحمام وتقيأت دم داكن .. انه وجع صمتها.. يستفزنى كثيراً ان اسمع – ومن المثقفين على وجه الخصوص- عبارات تشي بتحمل النساء مسؤولية أوضاعهن الدونية. وكثيرون الذين يرون ان النساء هن اللاتى يخترن هذه الأوضاع! وحقيقة الأمر ان هذا الموقف هو تبسيط مخل لقضية معقدة. فخيارات الانسان بالفعل هى خيارات مفتوحة ومتعددة ولكن تلعب التنشئة وتشكيل الشخصية فيها دور أساسى وتبعاً للدكتور الامريكى “سيرجى سانجر” الاخصائى بنفسية الطفل فإن هناك” سلسلة من الحط من قيمة النفس ونكران الذات، سلسلة تقيد النساء عبر الأجيال بالاذعان والانقياد للرجال وجذر هذه السلسة موجود فى الطريقة التى تتم تنشئة الطفلات بها اذ غالباً ما تحصل الفتيات على الابتسامات التشجيعية والكلمات اللطيفة فقط مما يجعل الطفلة تفكر فى تفسير لهذه الاشارات، لان تعابير الوجه تحمل معان متعددة وظلالاً من المواربة .. وهكذا تتعلم البنت منذ أيامها الأولى ان عليها تفسير مايريده الشخص الاخر قبل نيل رضاءه، وحتى الرضا لا يمكنها قبوله دون تفسير” ويستطرد قائلاً: “ومن السخرية ان البنات الصغيرات غالباً ما يكن بسبب هذا الحرمان الذى يعشنه أفضل كطالبات من الذكور..ان المستقبلات البعيدة للبنات – العين والاذن – مدربة بصورة أفضل لدى البنات، لتصير البنات أكثر اهتماماً باللفظ وأكثر سلبية، أنهن لم يولدن هكذا بل تم تدجينهن بخسارة روحية معينة”. المحزن فى الأمر ان هذا التدجين لا يلغى التكوين المزاجى للطفلات فغالباً ما تفور براكين من الغضب المكبوت والانفعالات المثبطة تحت السلبية المعلنة، فالطفلة الهادئة التى لا تتعب أمها بالشغب وتجلس هادئة بعد عودتها من المدرسة تقوم بواجباتها لا يتصور أحد ان لديها ذات الانفعالات والرغبات التى لدى اخيها الذى يطارد الكلاب بالحجارة فى الشارع او يلعب “البلى” مع رفاقه، وتسعد الأم لان ابنتها “عاقلة” وهى لاتفكر باضطرابها الداخلى.. يقول د. “سانجر” هناك فترة نمو حرجة تمتد من سن الخامسة الى العاشرة، حيث يتم قبول سلبية البنات كشىء طبيعى ولذلك تخسر البنات فى هذه الفترة معرفة تقنية أساسية، لأن هذه السنوات حيوية فى تطوير نماذج الحياة، لقد لاحظت من خلال مهنتى انه يعرض على عشرة أطفال فى هذه الفترة العمرية مقابل طفلة واحدة كل عام. ذلك لا يعنى ان للبنات مشاكل أقل ولكن الأم تعترف بسهولة أكبر بمشاكل الطفل الذكر أو بأنه أقترف خطأ ما. بالنسبة للبنت السلوك الأكثر عدوانية هو الثرثرة وكثرة التعليق على الآخرين والتصرف بسلبية مع المحيط الخارجى”. ويقول الدكتور”جون باولباوى” ان الغيظ والغضب انفعالات إنسانية يجب ان تحدث للطفل ابتدأ من الشهر الثامن وهى جزء من التطور الطبيعى. والمربك للفتاة إنها تود التعبير عن هذا الغضب الطبيعى إلا إن خوفها من فقدان الأم وشعورها بان هذا السلوك الغاضب غير مرض للأم يجعلها ساكنة وهادئة بشكل زائف، وتلجأ لمرحلة كمون حيث ترتد للعب الدمى وحيدة وتتصرف بنقيض ما تشعر به، وبذلك لا يتم حل مشكلة الغضب بل يتم فقط تجنبها وانكارها. . ان مشاعر الغيظ الصامت مصدر للعديد من المشاكل النفسية- الجسمية التى تعانى منها النساء. فى السودان تتفاقم هذه المشاكل اذ يتم النظر للطفل المشاغب على انه “راجل” ونتصور كل ما هو شاذ فى سلوكه او عدوانيته على انه تدريب على “الرجالة”. ويسوء الأم ان تسمع ان ابنتها دخلت فى عراك او تشابك ولكن تقابل شغب الولد برضا خفى. وتهتم الأسر بوضع حدود على سلوك البنات باكراً. اذ يتم تلقيننا طريقة جلوس هى اقرب الى السكون والجمود، يجب علينا ان نكون مسيطرات على نبرة صوتنا كى لا ترتفع أكثر مما هو مسموح به، كما يجب ان نكون مسيطرات على مزاجنا فلا نظهر غضب او سلوك غير لائق، ويجب ان نسيطر على تدفق انفعالاتنا ونأسف على ما قلناه، نسيطر ونسيطر على كل شرارة من العفوية .. ولا تلغى سيطرتنا مشاعرنا المكبوتة ولكن تخفيها عن الأعين. لذلك تجنح النساء إلى قبول القمع والرضا به لأنه ما تدربت عليه منذ الصغر. كما يظل هناك صراع مؤجل.. صراع الفردية.. اذ لا تستطيع البنت ان تبنى فرديتها وهى مطوقة بغضب مكبوت وتعليمات حرفية لكل تفاصيل سلوكها بالإضافة لخوف دائم من فقدان رضا الأم. وتظل البنت تابع لرغبات الآخرين وفاقدة للقدرة والشجاعة لبناء شخصيتها بعيداً عما تم تدجينها عليه.. إذن فى ظل هذه الخيارت المحدودة للنساء هل يعقل ان نضعهن كمسؤلات عن اختياراتهن! ونحاكم قبولهن للقمع كخيار عاقل وحر من قبلهن؟! من غير العدل ان نقوم بذلك. ولكن بذات الوقت فإننا نؤمن بقدرة النساء ورغبتهن فى التغيير وقدرتهن على رفض الظلم رغم التدجين الكثيف الذى يمارس عليهن، كما نؤمن بان المناخ القامع فى بيوتنا لن ينجب سوداناً معافى بل ستظل علاقات القمع هى السائدة فى كل مجالات حياتنا لأنها ما نشانا واعتدنا عليه. لذا يجب علينا تفحص طرائقنا فى التربية لنصنع مستقبلاً هادئاً وعادلاً ليس لبناتنا فحسب بل أيضاً لبلادنا. هادية حسب الله [email protected]