أُعلن عن اغتيال الكاتب والفنان المسرحي هادي المهدي ببغداد، الخميس 8 سبتمبر 2011، قُبيل تظاهرات الجمعة بمساءٍ واحدٍ، وكان أبرز منظميها. هاجر المهدي، مثل غيره مِن العِراقيين، واستقر بدولة مِن دول الجوار، للانتقال إلى بلاد اللجوء الإنساني. البلاد التي تحتضن متناقضات شعوبنا، وتتعايش بربوعها بقوة القانون. لا دينًا يحكم ولا مذهبًا، ولا حزبًا يقصي الآخرين. بعد أبريل 2003 عاد المهدي مع مَن عاد، والحلم كان يلامس الجفون: عراق خالٍ من الحزب القاهر، والشخص الحاكم بأمره، وتسلط آلة الموت. كانت نوايا العائدين متباينة، لبناء العراق أم لغرض آخر. فالحديث يقول: “إنما الإعمال بِالنِّيَّات، وَإِنَّمَا لكل امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ”(صحيح البخاري، كتاب النِّكاح). عندما تنظر في ما آلت إليه الأمور، بعد أبريل 2003، ستفضح لك الأفعال اختلاف النَّوايا في الهجرة المضادة: مَن نوى إلى المال فأصابه، عبر تعدد المشارب والسُّبل. ومَن نوى لاستبدال زوجته فتزوج ما طاب له، وترك امرأته تستمر في حياة اللجوء، ومَن كانت عينه على قصر من قصور الرئاسة السابقة فعل المستحيل للحصول عليه، ومن هاجر من أجل امتلاك عقارات الدولة كان له ذلك. أما أمثال هادي المهدي فلا تبدو هجرتهم إلا لمشاكسة تلك الأحلام والنوايا، ومحاولة الحؤول دون تحقيقها، على حساب أجيال هرستها الحروب وأدقعها الحصار دقعًا، والمعنى ألصقها بالتُّراب فقرًا وذلاً، وما عُرف الإمام علي بن أبي طالب (اغتيل 40 ه) بأبي تُراب إلا لفقره، ولصق خده بتُراب المسجد، لا بمرمر القصور الرئاسية. قال منظف حوض سباحة، رئيس وزراء وعميد حزب ديني سابق، إن مخدومه كان يتضايق مِن ورق شجر الحديقة المتساقط في حوض سباحة قصر الرئاسة وقصره الحالي، لأنه يسبب له حساسية في جلده! تم هذا التَّحول في طريقة وسلوك العيش خلال أسابيع، فوا عجبي! حلم هادي المهدي كان مختلفًا عن هؤلاء، إنه لشدة ما عاش من ضيق في الزمن السابق، ولألق الديمقراطية التي عاشها ببلاد اللجوء، وما في ضميره من هاجس المثقف الفنان، أخذ يُعاند ويعاند، غير مصدق أنه يمارس الديمقراطية في الحقيقة لا الحلم، وكأنه أراد بمشاكسته التأكد من وجودها قولاً وفعلاً، مستبعدًا أنه سيكون أحد القرابين على مذبحها. سكت هادي لسنوات ما بعد أبريل 2003، لعل الحلم يتحقق، ولعله يُصيب ما أراد، لا زوجةً رابعةً ولا جامعةً يملكها ولا ميليشيا يقودها، ولا حوزة يلقي فيها مواعظه الدينية، ولا تيجانًا وسيوفًا يضعها على كتفيه، ولا عمامة يغري بها البسطاء، ويحلبهم حلبًا، عبر ثقافة الكهنوت، ولم يكن حلمه رفع السلاح أو افتعال خطاب المقاومة الكاذب. فهو صريح الضمير، يعلم علم اليقين أن الحلم تحقق عبر الأجنبي، وكان لاجئًا محميًا لدى الأجنبي، لكنه عوض عن أكذوبة المقاومة وحقيقة الإجرام عبر المليشيات والكتائب، بل أخذ يُفكر بثمن القبول بالاحتلال، أو مقاومة الاحتلال بطريقته، وعدم ترك الفرصة الماسية تذهب من ربوع بلاده هباءً. بعد سنوات، وهادي المهدي ينتظر، ونحن عندما نكتب عن المهدي، نأخذه ظاهرةً وليس فردًا، فدمه جارٍ في عروق آخرين. كان ينتظر وينظر النَّوايا لعلها تحققت لأصحابها ليكتفوا بما أصابوا. لكن المطامع لا تقف عند حدٍ، بل هي حلقات، مَن تملك بيتًا يريد الثَّاني، ومَن تزوج ثانية يطلب الثَّالثة، فهم لم يدركوا من حالة الترمل بين العراقيات سوى اللذة، مثلما لم ينظروا في ثروة البلاد سوى الغنائم، وبالخمس والزكاة تُطهر الثَّروات مهما كانت مصادرها، ومقولة “مجهول المالك” حاضرة. في 25 فبراير مِن هذا العام وجد هادي المهدي القوم قد أغوتهم اللَّذائذ، مِن متدينهم وغير متدينهم، كلهم سواء “لا أستثني أحدًا”، والعبارة للشَّاعر العِراقي مظفر النَّواب، الذي عاد زائرًا بغداد واستغنت رئاسة الحكومة عن استقباله، وهو القائل مناشدًا علي بن أبي طالب: “أُنبيك عليًا لو عدت اليوم لقاتلك الدَّاعون إليك وأسموك شيوعيًا”. وهنا تصدق كلمات مظفر تلك، فلو عاد ابن أبي طالب، وشاهد ما شاهده هادي المهدي واحتج من أجله لحاربوه واغتالوه. أعلم أنهم سيرجموني في ما سيكتبون ويتقولون ويتمنطقون بالتقوى، بأني شبهت هادي بعلي. وها أنا أستبقهم رادًا: عليًا الذي نعرفه غير علي الذي صنعتموه على قدر مصالحكم، ترفعونه لافتةً للهيمنة به على العقول وتكريس الخرافة، وجمع المال، وإشباع النَّزوات. حشد المهدي التَّظاهرات الاحتجاجية، فهو لم يجد حلاً قريبًا يدور في الأفق، ولم يجد بوعزيزي التُّونسي أشجع منه، ولم يجد الشَّباب المصري أكثر منه حرصًا على محاربة الفساد، ولم يجد الضحايا السُّوريين أرخص دمًا مِن دمه. نعم ببغداد ديمقراطية، لذا ظن هادي ليس لهروات الشرطة المصرية، أو التونسية، ولا لرصاصات الجيش السوري العقائدي، مكان ببغداد، فحمل لافتات تعميق الديمقراطية، ومحاربة مافيا الفساد، لكنه هوجم واعتقل، وظهر شاكيًا لآية الله، مرجعه الدِّيني الذي لاذ بظله المقتحمون لساحة التحرير والمهشمون لرأس هادي وصحبه من الشباب. سمعنا زوجة المهدي تقول: كان كائنًا غير حزبي، ولا يعرف العمل السياسي، إنما كان يقول: “إذا أسكت أنا ويسكت ذاك فمَن يتكلم والبلد مسروق منتهك”. كان هادي يتسلم التهديدات، ولم يحسبها بدقة، وقُبيل اغتياله كتبها كأنه هازئًا فيها على صفحة الفيسبوك، لكنهم ما كانوا يهزؤون. أقول للاغتيال طُرق وأساليب، ولعلَّ من أهمها الإيماءة بالكلمة أو الإشارة باليد، هذا ما مارسه مؤسس “الإخوان المسلمين” حسن البنا (اغتيل 1949)، عندما أومأ باغتيال أحمد الخازندار (اغتيل 1948) قائلاً: “لو واحد يخلصنه منه” (عبد العزيز كامل، في نهر الحياة)، والشَّاهد أحد أعمدة “الإخوان” الكبار. لكنها سنة واحدة، أو أقل، ويواجه البنا المصير نفسه. معنى المشاكس: صعب الخُلق، فقيل: “شَكسٌ عبوسٌ عنبسٌ عَذوَّرُ (الجوهري، الصَّحاح). وكان المهدي كذلك، لم يرتدع لاعتقال وللكمات حكومية في وجهه، ولم يرتدع لتهديد، فإذا لم يكن هو المشاكس فيا ترى مَن المشاكس! نقلاً عن الأزمة