عندما كنت طفلاً في المدرسة الابتدائية الكاثوليكية وعضوًا في كشافة الأطفال غالبًا ما كنا ننخرط في أنشطة خيرية لجمع التبرعات من خلال طرق البيوت وإقناع الناس بالتبرع لمشاريع خيرية تشرف عليها الكنيسة، أو المدرسة، أو غيرهما من المؤسسات، وبانخراطي في هذا النشاط الخيري تعلمت سنة بعد أخرى بعض الدروس المهمة المتعلقة بالسلوك الإنساني، فقد تعلمنا مثلاً أنه يوجد أشخاص أسخياء لا يترددون في التبرع للمشاريع الخيرية فيما هناك عينة أخرى من الأشخاص بخلاء ويرفضون التبرع بكل بساطة. ولكن بين من يعطي من دون تردد وبين من يقول “لا” ويذهب إلى حال سبيله، كان هناك نوع ثالث من الناس يلجأ إلى اختلاق مختلف الحجج والذرائع للتهرب من التبرع، من دون أن يبدو سيئًا وغير متضامن مع العمل الخيري والاجتماعي! وكانت إحدى العبارات التي تتكرر على ألسنة هؤلاء الناس “لقد أعطيت مسبقًا في المكتب”، وهي الجملة التي لا تعني سوى أن الشخص يحاول التهرب من المساهمة المالية مع الحفاظ على ماء وجهه أمام الأطفال الذين طرقوا بيته! غير أننا في تلك السن المبكرة كنا على يقين بأن الشخص المعني يختلق فقط الأعذار الواهية لأن المشاريع الصغيرة التي نجمع لها المال لم يكن لديها مكتب أساسًا ليتبرع له صاحب الجملة. ولأن هذه العبارة كانت رائجة ومتداولة على نطاق واسع فقد دخلت القاموس وبدأت تعني التهرب من شيء ما، أو التنصل من مسؤولية معينة من دون الاضطرار إلى قول “لا” مباشرة. والحقيقة أنني استحضرت هذه الكذبة الصغيرة التي دأبت على سماعها كثيرًا في الطفولة ومعها مشاعر الاستهجان التي كانت تولدها في نفوسنا وأنا أقرأ لقاء صحفيًّا أجراه نتنياهو، مع صحيفة “جيروزاليم بوست”. ففي إحدى لحظات الحوار عندما ضغط الصحفي على نتنياهو للإجابة عن سؤال عما إذا كان مستعدًا لتجميد الاستيطان لمساعدة الفلسطينيين على الانخراط في المفاوضات المباشرة، جاء رد رئيس الوزراء الإسرائيلي مقتضبًا وواضحًا بقوله “لقد مررت على المكتب من قبل”، وهي العبارة نفسها التي كنت أسمعها صغيرًا، ثم سرعان ما انتابني إحساس مزدوج يجمع أولاً بين الشعور بالغضب من محاولات نتنياهو المكشوفة التنصل من مسؤولياته في إفشال السلام، وثانيًا لأن رجلاً يفتخر بقدراته الخطابية الاستعراضية سقط في فخ اللغة باستخدام عبارة تدل على الكذب والنفاق أكثر مما تدل على الصدق والصراحة. وأخيرًا تساءلت مع نفسي عما إذا كان نتنياهو يعني فعلاً ما يتلفظ به وكأن لسان حاله يقول “لقد تعودت لسنوات طويلة التحايل على هذا المطلب المتمثل في وقف الاستيطان وكنت دائمًا أنجو بفعلتي فلا داعي اليوم لتجميد الاستيطان كما لم يكن له داع في الماضي”. وعلى مدار اللقاء جادل نتنياهو لماذا يواصل البناء أينما شاء ووقتما أراد من دون أن يزعجه أحد، وهو فعلاً ما قام به مباشرة بعد عودته “المظفرة” من واشنطن وشعوره المتضخم بالثقة والمباهاة عندما أعلن بناء 1100 وحدة سكنية في مستوطنة “جيلو” الواقعة على أرض فلسطينية بالضفة الغربية صادرتها قوات الاحتلال الإسرائيلي. وقد نجح نتنياهو في افتعال أجواء الأزمة في إسرائيل قبل ذهابه إلى أميركا بتصويره لقرار الفلسطينيين التوجه إلى الأممالمتحدة للمطالبة بالعضوية الكاملة في المنظمة على أنه كارثة حقيقية، والحال أن المساعي الفلسطينية كانت عادية، فيما ظل هدف نتنياهو من افتعال الأزمة هو الظهور بمظهر البطل العائد من نيويورك. والحقيقة أنني أستطيع تخيل كيف كان يفكر نتنياهو لدى رجوعه من أميركا فلعله كان يقول لنفسه: لا أحد بمقدوره إيقاف نتنياهو، فخلال التسعينيات انتُخبت على أساس برنامج تعهدت فيه بنسف اتفاقات أسلو، وقد نجحت في ذلك، وحتى عندما أرغمني الرئيس كلينتون على التوقيع على اتفاقية مع الفلسطينيين في «واي ريفر» هزمتهم جميعًا لأنني لم أطبق حرفًا واحدًا مما جاء في الاتفاقية، وعندما طلب مني كلينتون وقف البناء في جبل أبو غنيم، وهي التلة الخضراء الوحيدة المتبقية بين بيت لحم والقدس، تحولت تلك التلة إلى مستوطنة «هار حوما» التي تضم 18 ألف مستوطن، وفيما كانت أميركا تصف المستوطنات بأنها «غير مشروعة» والاتحاد الأوروبي يعتبرها «غير قانونية» باتت اليوم لدى الاثنين «حقائق مقبولة»! وربما يضيف نتنياهو وهو يحادث نفسه متباهيًّا “أما في فترة رئاسة الوزراء الثانية فقد واجهت رئيسًا أميركيًّا جديدًا طالبني بتجميد الاستيطان، وبعد فترة من التردد تظاهرت بالموافقة فيما استمر الاستيطان ومع ذلك نجوت بفعلتي، وباستخدامي لأصدقائي في واشنطن وفي الكونجرس تمكنت من الوقوف في وجه رئيس الولاياتالمتحدة، فأنا أستفيد من أجواء الانتخابات الأميركية وتملق أعضاء الكونجرس وانتقاد الجمهوريين لأوباما بأنه يريد تعريض إسرائيل للخطر، ولذا فليس أمام البيت الأبيض سوى الإشادة بي وبسياستي وحتى إذا لم يكفِ ذلك أستطيع الحديث بصوت عال في الأممالمتحدة”! فهل أشعر بالغيظ من جهل وصفاقة نتنياهو؟ بالقطع أفعل، وهل أشعر بالإحباط من أن الرجل الذي وصفه الرئيس الأسبق، كلينتون، قبل أسبوع فقط بأنه مسؤول عن “نهاية عملية السلام” يعود إلى عادته القديمة في التسويف؟ بالتأكيد نعم، لكن ما يثيرني أكثر من ذلك هو اختلالات السياسة في أميركا إلى درجة نتسامح فيها مع رجل امتهن الكذب مثل نتنياهو. نقلاً عن الأزمة