لم يعد أمر الانفصال الجنوبي مخفيا. نراه اليوم رأي العين، ونحسه في الدولار الصاعد، والساعة المعلقة في ساحة بجوبا تعد الأيام والساعات والدقائق، ونسمعه في دقات قلب حكام الشمال المتصاعدة، وسنلمسه غدا.. ولو غابت قافلة الجنوب المصممة على الابتعاد عن ناظرنا فسيتلفت القلب معها، ولكنه لا بد سينخلع هذه الأيام، فهنالك قوافل جديدة تزمع الرحيل.. من هو يا ترى السابق فيها؟ نحن نعلم أصلا أن استفتاء تقرير المصير للجنوب مفروض أن يكون بصحبة استفتاء في أبيي لتقرر مصيرها مع الجنوب أو مع الشمال أي ان يعقد في 9 يناير 2011م. ونعلم أن المؤتمر الوطني يسوف في ذلك وهناك اختلاف حول تعريف الناخب حيث لم يذكر المسيرية بالاسم وذكر فقط الدينكا نقوك. السيد باقان أموم الأمين العام للحركة الشعبية ووزير السلام في حكومة الجنوب قال في واشنطن إبان زيارته لها إنهم سيقدمون فدية لمن أسماهم “قراصنة المؤتمر الوطني” وفهمنا أن هذه الفدية عبارة عن نسبة من ريع نفط الجنوب بدون أن يشرح باقان، وقد ظلت الإدارة الأمريكية تحث الحركة الشعبية كثيرا على التنازل عن جزء من نفطها لتشتري حريتها الشيء الذي رفضه السيد سلفا كير رئيس الحركة لدى خطابه أمام مؤتمر الكوكس الأفريقي (الأسود) في واشنطن (الجمعة 17/9/2010م) ورفضه بشدة. ولكن الضغط الأمريكي المستمر ربما أثمر قبول الحركة الشعبية بتقديم الفدية، وقال باقان إن المؤتمر الوطني لا يزال يحبس أمر أبيي وأن استفتاء أبيي ربما انعقد بعد أسابيع من الاستفتاء في الجنوب، أو ضمت للجنوب بأمر إداري كما كان ضمها للشمال من قبل في 1905 بقرار إداري، وقال باقان إن الفدية مطلوبة من جانبين: من الحركة الشعبية وهي نفطية كما نفهم، ومن أمريكا ونفهم أنها متعلقة بجملة مطالبات واردة ضمن الجزر الأمريكي مع إضافات من الأماني المؤتمروطنجية ويمكن إيجازها في التالي: إخلاء سبيل الرئيس من الجنائية، ورفع العقوبات الاقتصادية وشطب السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، وترك دارفور وشأنها لهم. وفي النهاية ومهما كان فإن أبيي ذاهبة.. ذاهبة.. فمن سيلحق أيضا؟ دارفور رفعت السلاح منذ أبريل 2003م، وظلت تنادي بحظوظ في السلطة والثروة وظلت الخرطوم متمسكة بنسب نيفاشا وسقوفها التي لا تغني ولا تسمن من جوع لذلك ولدت اتفاقية أبوجا 2006م ميتة، وبعد الانتخابات ووريت الثرى بعد أن ظل جثمانها الطريح تحت مناقير جوارح المؤتمر الوطني يثير الشفقة والغثيان معا. وفي هذه الأثناء منذ توقيعها وحتى الآن تحول الخطاب وشهدنا المطالبة بتقرير المصير لدارفور من أكثر من جهة حتى تعالت الأصوات وصارت أكثر ترددا. وفي لقاء للسيد مني أركو مناوي مع صحيفة الشرق الأوسط في 12 نوفمبر الجاري قال: “إذا تمادى المؤتمر الوطني الحاكم برئاسة البشير في سياساته الحالية فإن الحرب قد تعود، بل إن دارفور قد تطالب بتقرير المصير”. قال مناوي: “الشعب السوداني كله الآن في نفق مظلم كل الأقاليم الأخرى ستنادي بحق تقرير المصير بطريقة أو بأخرى وربما ستتوحد في مطالبها هذه وتطلب بتقرير المصير من المؤتمر الوطني. لكن البداية قد تكون في اقليم دارفور ، حيث يتميز عن غيره بوجود حركات مسلحة وعمل سياسي منظم ومنطقيا هو الأسهل والأقرب لذلك، ولكن هناك قوى سياسية تتململ في الشمال وأصوات في ولاية الجزيرة وجبال النوبة والنيل الأزرق والمناصير في أقصى الشمال، كلها تحتاج إلى إعادة صياغة نسميه بطريقة أو أخرى تقرير مصير”. وفي الأشهر الأخيرة تفاقمت الأوضاع الأمنية بعد أن أعلنت الحكومة عزمها على حسم “التمرد” في دارفور مستفيدة من حالة الهدنة الدولية الحالية حتى موعد الاستفتاء فالمجتمع الدولي يركز اليوم على الاستفتاء وحسب، ينظر لدارفور بطرف عينه ويقول: اليوم خمر، وغد أمر. ونظام “الإنقاذ” يود أن يفض (الأمر) قبل أن ينفذ الخمر! وتصاعدت النزاعات الأهلية بين القبائل الدارفورية حتى لم تعد هنالك قبيلة ولا بقعة بدون نزاع. وتعالت أصوات تنادي بأن تصير دارفور محمية دولية. هذه الدعوة تصب أيضا في دعاوى تقرير المصير، متعاضدة مع تاريخ الإقليم المغاير أيام السلطنات الإسلامية الزرقاء حيث كانت له سلطنته الدارفورية في مقابل سلطنة الفونج في الشمال والوسط، وكذلك أيام التركية حيث لم عاشت فيه دارفور أقل من عقد من الزمان بينما عاشت بقية أقاليم السودان خاصة الشمال والوسط حتى كردفان ستة عقود.. هذه المغايرة التاريخية، والمعطيات الحالية، تتضافر مع النداءات المتصاعدة لتجعلنا نتحسبل من أن تكون دارفور كذلك قد صرت صرتها وأزمعت الرحيل! وبينما نحن نتخوف ونتحوقل، تعالت الأصوات في جبال النوبة. السلام أو وقف إطلاق النار في جبال النوبة سبق نيفاشا وأشرف عليه السناتور الأمريكي السابق جون دانفورث الذي نجح في حمل المتصارعين على الانخراط في مفاوضات استضافتها مدينة بيركنستوك السويسرية، استمرت سبعة أيام تحت رعاية الحكومة الأميركية التي مثلها العقيد سيسل دينز والحكومة السويسرية التي مثلها السفير جوزيف بوشر. وكان التوقيع على الاتفاقية يوم 19 ديسمبر 2001م. وكانت أهم نقاط الاتفاقية وقف إطلاق النار بمراقبة دولية لمدة ستة أشهر قابلة للتمديد، وحددت منطقة جبال النوبة بأنها كل جنوب كردفان ومحافظة لقاوة بولاية غرب كردفان. وتم تعيين هيئة عسكرية مشتركة ومراقبين دوليين للعمل معا على ضمان التزام أطراف القتال بوقف إطلاق النار. ثم أبرم لاحقا ضمن بروتوكولات نيفاشا الستة بروتوكول لجنوب كردفان نص على مشورة شعبية يقوم بها المجلس التشريعي المنتخب لتحديد رضا شعب جنوب كردفان أو عدم رضاه عن الإجراءات الواردة في اتفاقية السلام. ولكن جبال النوبة عانت بعد ذلك حيث كان التشكيك كبيرا في نتائج التعداد السكاني ما أدى لتأجيل انتخابات المجلس التشريعي والوالي فيها وإعادة التعداد السكاني الخامس الذي تسلمت “المقوضية” القومية للانتخابات نتيجته في 28 أكتوبر الماضي وتزمع أن تعلن عن جدول الانتخابات التكميلية وكانت أعلنت من قبل أنها ستكون في نهاية نوفمبر ولكن ذلك لم يحدث بعد. والأدهى وأمر أن المؤتمر الوطني ولى على هذه الولاية السيد أحمد هارون المطلوب للعدالة الدولية لاتهامه بارتكاب جرائم حرب في دارفور ويقدمه مرشحا للمنصب في الانتخابات. وقد شاعت الأخبار عن الحشود العسكرية والمضايقات في الولاية حتى انطلقت أصوات أبناء الولاية في المهاجر تقول إن المؤتمر الوطني تنصل عن الاتفاقيات والترتيبات الأمنية وحشد عشرات الآلاف من الجيوش وأنه يحاول تنفيذ إبادة عرقية هناك ويسمي أبناء الإقليم (الجنوبيين الجدد) قال أبناء جبال النوبة إنهم أجروا “العديد من الاتصالات بخصوص تقرير مصير شعب جبال النوبة كخيار أو قيام دولة غرب السودان وتغيير النظام بالصورة التي تمت لنظامي طالبان وصدام للحفاظ على ما سيتبقى من سودان، بعد أن تأكد تماما رغبة أبناء جنوب السودان فى الانفصال والاستقلال، بالإضافة إلى تعذر إمكانية إنصاف شعب جبال النوبة و دارفور وكردفان وشرق السودان و النيل الأزرق وبقية المهمشين طالما أن هذا النظام مستمر في السلطة و بعقليته المتطرفة”. (صحيفة حريات الإلكترونية). أعلن أبناء جبال النوبة أنهم يمهلون المؤتمر الوطني حتى منتصف ديسمبر للإيفاء “بتنفيذ اتفاقية السلام بما فيها الترتيبات الأمنية و سحب القوات من الإقليم وقيام الانتخابات وتحقيق المشورة الشعبية وتبادل منصب الوالي وتقديم مجرمي الحرب للعدالة العالمية وغيرها من القضايا الأخرى، ولقد سلمت خطابات رسمية إلى الإدارة الأمريكية و الكونغرس والأمم المتحدة والاتحاد الأوربي وعدد من منظمات حقوق الإنسان بخصوص ذلك متضمنة حق تقرير المصير و لقد كانت الردود إيجابية و مشجعة للغاية”. وأعلنوا عن تسيير مسيرة كبرى بواشنطن في 16 ديسمبر 2010م ستطوف الخارجية و البيت الأبيض و الكونغرس مصحوبة بلقاءات هامة بصناع و منفذي السياسة الأمريكية وكل مجموعات الضغط يدفعون “بضرورة التدخل العسكري الأمريكي المباشر عبر طلعات جوية ذات أهداف محددة و مرسومة لضرب نظام الخرطوم، والتأكيد على جاهزية 2000 شاب من أبناء جبال النوبة الأمريكان للتدريب كقوات خاصة للإنزال بالعاصمة الخرطوم بعد التغطية الجوية عبر خطة محكمة لإزالة نظامها في أقل من عشرة ساعات”. هذه خطة مجنونة، لو تبعها الأمريكان لما كانوا إلا أشد خبالا مما فعلوه في العراق، ولا نظنهم يتبعونها ليس لعقل فيهم وإن كنا لا نشك أن إدارة أوباما أقل جنونا من إدارة بوش، ولكن لأن نظام الخرطوم قطعا أقل تهورا وأكثر براجماتية وأبعد عن الشعارات والمبادئ وأقرب لإرضاء اليانكي عن عراق صدام! ومهما كان من أمر مطالب أبناء جبال النوبة المهجريين الموجهة للأمريكان، إلا أن بين رماد الجبال اليوم وميض نار الدعوة لتقرير المصير.. الدعوة لصر الصرة والرحيل عن السودان المؤتمروطنجي.. المؤتمر الوطني سيظل لو ذهب هؤلاء جميعا. وسيكون سعيدا بعداء أصحاب أحلام السودان الموحد كما كان سعيدا بعداء أصحاب دعوة السودان الجديد مثلما قال نافعه! سيرضى بالكرسي الوثير ولو نتف بعض ريشه في القصر الأبيض وإن لوثته دماء الضحايا وأحاطت به صرخات الجوعى والمحرومين والمجزومين والمعذبين في السجون الرافضين القهر والتسلط.. سيكون سعيدا.. وستحصد قلوبنا الحسرات والتلفتات خلف كل راحل.. فهل سيرحمنا التاريخ أن صمتنا؟ وليبق ما بيننا