أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    مليشيا التمرد تواجه نقصاً حاداً في الوقود في مواقعها حول مدينة الفاشر    ضربة موجعة لمليشيا التمرد داخل معسكر كشلنقو جنوب مدينة نيالا    مدير مستشفي الشرطة دنقلا يلتقي وزير الصحة المكلف بالولاية الشمالية    شاهد بالفيديو.. شاعرة سودانية ترد على فتيات الدعم السريع وتقود "تاتشر" للجيش: (سودانا جاري في الوريد وجيشنا صامد جيش حديد دبل ليهو في يوم العيد قول ليهو نقطة سطر جديد)    ضياء الدين بلال يكتب: نحن نزرع الشوك        أقرع: مزايدات و"مطاعنات" ذكورية من نساء    بالصور.. اجتماع الفريق أول ياسر العطا مساعد القائد العام للقوات المسلحة و عضو مجلس السيادة بقيادات القوة المشتركة    وزير خارجية السودان الأسبق: علي ماذا يتفاوض الجيش والدعم السريع    محلية حلفا توكد على زيادة الايرادات لتقديم خدمات جيدة    شاهد بالفيديو.. خلال حفل حاشد بجوبا.. الفنانة عشة الجبل تغني لقادة الجيش (البرهان والعطا وكباشي) وتحذر الجمهور الكبير الحاضر: (مافي زول يقول لي أرفعي بلاغ دعم سريع)    شاهد بالفيديو.. سودانيون في فرنسا يحاصرون مريم الصادق المهدي ويهتفون في وجهها بعد خروجها من مؤتمر باريس والقيادية بحزب الأمة ترد عليهم: (والله ما بعتكم)    غوتيريش: الشرق الأوسط على شفير الانزلاق إلى نزاع إقليمي شامل    أنشيلوتي: ريال مدريد لا يموت أبدا.. وهذا ما قاله لي جوارديولا    سوداني أضرم النار بمسلمين في بريطانيا يحتجز لأجل غير مسمى بمستشفى    محاصرة مليوني هاتف في السوق السوداء وخلق 5 آلاف منصب عمل    غوارديولا يعلّق بعد الإقصاء أمام ريال مدريد    امين حكومة غرب كردفان يتفقد سير العمل بديوان الزكاة    نوير يبصم على إنجاز أوروبي غير مسبوق    تسلا تطالب المساهمين بالموافقة على صرف 56 مليار دولار لرئيسها التنفيذي    محافظ بنك إنجلترا : المملكة المتحدة تواجه خطر تضخم أقل من الولايات المتحدة    منتخبنا يواصل تدريباته بنجاح..أسامة والشاعر الى الإمارات ..الأولمبي يبدأ تحضيراته بقوة..باشري يتجاوز الأحزان ويعود للتدريبات    بايرن ميونخ يطيح بآرسنال من الأبطال    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    العين يهزم الهلال في قمة ركلات الجزاء بدوري أبطال آسيا    مباحث المستهلك تضبط 110 الف كرتونة شاي مخالفة للمواصفات    قرار عاجل من النيابة بشأن حريق مول تجاري بأسوان    العليقي وماادراك ماالعليقي!!؟؟    الرئيس الإيراني: القوات المسلحة جاهزة ومستعدة لأي خطوة للدفاع عن حماية أمن البلاد    بعد سحق برشلونة..مبابي يغرق في السعادة    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    خلال ساعات.. الشرطة المغربية توقع بسارقي مجوهرات    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    وزير الخارجية السعودي: المنطقة لا تحتمل مزيداً من الصراعات    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الطيب مصطفى…النازية على الأبواب
نشر في حريات يوم 19 - 11 - 2011


بِت عندما أسمع كلمة تنوُّع أتحسس مسدسى!!
(الطيب مصطفى)
تصدر كل دعاية الحرب والكراهية عمَّن لا يحاربون.
GeorgeOrwell(روائى بريطانى)
تمهيد
كنت قد أنتويت الكتابة عن حالة التفكك التى يشهدها السودان هذه الأيام وفى بالي مدي خطورة الدورالقوى والحاسم الذى لعبته، وما زالت، تلعبه الدوائر الأصولية المتطرفة إثنياً داخل النظام، فى بلورة رؤية تدفع بإتجاه تأسيس جمهورية شمولية طاردة للمختلف دينياً وإثنياً بل وآيدولوجياً،لتحافظ على التركيبة الإثنوثقافية للسلطة وهى التركيبة التى بفضل تصوراتها الدينية للدولة وضيق أفقها السياسى ومركزيتها الضاغطة ونهبها للموارد،وإغترابها عن روح العصر،أصبحت كل أطراف السودان تحمل السلاح أملاً فى إحدى الحُسنيين الإصلاح أو الإنفصال.لا يمكن لنا،والحال كذلك، تجاهل الدور التفكيكى الذى لعبه (منبر السلام العادل) فى الفترة التى أعقبت إتفاقية (نيفاشا) التى تُعد بمثابة (فرساى) بالنسبة (للطيب مصطفى) .يقول:”إن أهم مرتكزات الجمهورية الثانية أنها قامت على (التجانس) الذى أنهى التنازع حول الهوية بعد أن صار المسلمون يشكلون أكثر من98%من سكان الجمهورية الثانية لكن التحدى يتمثل فى إستدبار حالة الإسترخاء والإنبطاح التى سادت الفترة الإنتقالية والتى كشفت وبرهنت أن نيفاشا لم توقف التطاحن والتنافروالتشاكس”. (الأنتباهة،20 فبراير2011. العدد1786).يضغط (الطيب) كثيراً على فكرة التجانس بإعتبارها الشرط اللازم لتأسيس الدولة،ناسياً أن الولايات المتحدة،بما هى عليه الآن،قد إنبنت، أساساً، على فكرة الإختلاف والتنوع،غض النظر عن سيطرة البيض،نوعاً ما، أو اللوبيات أو الشركات عابرة القارات.
لنبدأ إذن،وتفادياً لتهمة التسرع فى إطلاق الأحكام،بعملية تفحص شاملة ومُنصفة لمُجمل خطاب الطيب مصطفى.
النازية الجديدة:
كيف إلتقى هتلر بالطيب مصطفى؟ وماذا نعنى بالإلتقاء؟
إلتقيا،بشكل عام، على مستوى المشروع والرؤية وبشكل خاص على مستوى المزايا الشخصية وطرائق التفكير.وكيف لهما أن لا يلتقيا وقد وحَّدَت بينهما (الشمولية والجوهرانية) الدعامتين الأساسيتين لكل الأصوليات المتطرفة.
غالباً،ما تُعبِر الظاهرة الفكرية أو الإجتماعية عن نفسها بصيغ و أشكال يبدو فى ظاهرها الإختلاف ولكن فى باطنها التشابه والتماثل،ولا يمكن لنا أن نعثُر على ما يدعم التماثل بين النماذج المختلفة،شكلاً،إلاَّ إذا قمنا بعملية تفحص شاملة لخصائص النماذج،مبتعدين قدر الإمكان عن النظر للقشور.وهذا ما حاول (د/عبدالوهاب المسيرى) أن يفعله فى دراسته لعملية العلمنة الشاملة التى تسود المجتمعين الإشتراكى الإلحادى والرأسمالىالإيمانى(المسيحى)،رغم إدعاء الأخير بتميزه الروحانى. إذ أثبت،إلى حدٍ ما،أنهما وجهان لعملة واحدة، مما يعنى أن المجتمعان يعبران عن نفس النموذج ولكن بصيغتين مختلفتين.ويُعرف هذا التشابه بين النماذج “بالإلتقاء الحضارى”. ويمكن تطبيق هذه الفكرة على الظواهر و المشاريع و الرؤى المتباينة،صيغةً،أملاً فى إثبات تماثلها أو تباينها.وهذه مهمة سيدعى هذا المقال النهوض بها وعلى يساره الحالة النازية(هتلر) وعلى يمينه الطيب مصطفى كممثل لتيار إجتماعى عريض.
يعود مفهوم الدولة القومية(المُتجانسة عرقياً وثقافياً ودينياً) للأدبيات السياسية التى سادت أوربا فى الربع الأول من القرن العشرين إبان إحتداد المنافسة الشرسة بين القوميات الأوربية فى السيطرة على الفضاءين، الأوروبى و العالمى (المستعمرات)،ما أدى فى نهاية الأمر إلى إندلاع الحربين العالميتين اللتين أفرزتا،بعد إنتصار الحلفاء،هذا الواقع العالمى الذى جرت تحت جسورعلاقاته الدولية الكثير من المياه.
لذا كان من البديهى أن تستدعى الطبقة السياسية،فى ذلك الوقت وفى اوروبا تلك،الوجدان الجمعى للشعب كى تنسج من خيوط مشتركاته التاريخية هُوية صلبة يشعر بها كل أفراد المجتمع.إذ بدون هذه الهُوية لا يمكن أن تتأسس العقيدة العسكرية التى سيخوض بموجبها المجتمع الحرب،وبما أن الحرب تنشأ ،عادةً، للتوسع الإستعمارى أو للدفاع عن الحدود، أو أى مبررات أخرى لن يكون من الصعب على البشر إختلاقها،فقد وجد الألمان،مثلاً،أنفسهم محاطين بالأعداء المتربصين من كل جانب وعليهم، فوق ذلك، أن يدفعوا التعويضات المالية الضخمة التى نصت عليها إتفاقية فرساى1919الموقعة بين ألمانيا والحلفاء.وهى الإتفاقية التى أوقفت الحرب العالمية الأولى بعد هزيمة ألمانيا.فى أجواء الهزيمة هذه،ترافقاً مع الكساد العالمى1933،وضجر الشعب من هشاشة الحكومة المنتخبة ديمقراطياً التى لا تستطيع أن تصمد إلا لبضعة أشهر ثم تسقط،بدت النازية فى ألمانيا كمُخلص.فقد وعد الحزب النازى الواصل حديثاً إلى السلطة الشعب بالرخاء الإقتصادى وأنه سيعيد لألمانيا العزة والمجد و الكرامة وأنه سينقُض إتفاقية )فرساى( المُزلة ليستأنف إعادة مستعمرات ألمانيا التى صادرتها الإتفاقية وسيقوم،كذلك،بإعادة تسليح القوات الألمانية.فشرع فوراً فى زيادة الإنفاق على التصنيع الحربى مما أحدث إنفراجاً إقتصادياً مؤقتاً، نال رضا الألمان، إستثمره الحزب النازى فى تدعيم سلطته حتى تمكن من الإنقضاض على الديمقراطية معلناً مشروع دولة الحزب الواحد التى تستند على آيدولوجيا متكاملة يتم على ضوءها تعريف ماهو ألمانى بالجينات الوراثية وكل من لم يتوفر على هذه الجينات فهو بالضرورة غير ألمانى.
تنفيذاً لهذه الآيدولوجيا على أرض الواقع قام النازيون بأكبر عملية توسع إستعمارى داخل أوربا فاجتاحوا أجزاء كبيرة من اوروبا مُشعلين،بذلك، الحرب العالمية الثانية التى أنتهت بإنتصار الحلفاء على دول المحور.
النازية:
ما يهم من كل هذا هو،كيف أمكن لهذا المعتوه أن يقود الشعب الألمانى كله لخوض كل هذه الحروب العبثية؟.
فاز الحزب النازى فى إنتخابات العام 1929ب276مقعداًفى البرلمان الألمانى من أصل 387مقعداً وبذلك قويت شوكة الحزب وأزداد نفوذه فى الدولة الألمانية.وفى يناير 1933وافق رئيس ألمانيا(هندنبيرج)على تعيين هتلر مستشاراً لألمانيا بعد أن فشل(كورت فون شلشر)فى تشكيل الحكومة.بعد أقل من سنتين بدأت حكومة (هتلر) المشكلة حديثاً بالتأسيس لشمولية إستبدادية،تكون الصلاحيات المطلقة فيها للمستشار(هتلر)الذى ضم إليه قيادة الجيش أيضاً فى مسعىً منه لإحتكار قرار الحروب التوسعية التى سيدشنها بإحتلال بولندا فى سبتمبر 1939 مُشعلاً بذلك الحرب العالمية الثانية.
تقوم العقيدة العنصرية النازية على فكرة تفوق العرق الآرى(الألمان) على باقى الأعراق البشرية وتستند فى زعمها هذا إلى نظرية متكاملة،وبالإتكاء على نظرية النشوء والإرتقاء، مفادها أن إنتاج الحضارة يعتمد على الطبيعة الجينية للشعب مستبعدةً أى عوامل أخرى يمكن أن تلعب دوراً فى نشوء الحضارة مثل العوامل البيئية أوالثقافية…إلخ.يقول هتلر:”إن الشرط الأساسى لبقاء الشعب المتفوق هو بقاء العرق ذى المواهب المبدعة،لا بقاء الدولة.فالمواهب تكمن فى الأعراق بإنتظار الفرص المناسبة لتبرز”(هتلر،كفاحى ص.146.) يتضح لنا من الفقرة السابقة أن خطاب الأصولية العنصرية، بشكل عام، خطاب جوهرانى شمولى ينظر للمجتمعات البشرية بإعتبارها كتلة متاجنسة من القطيع المتوائم المُوحَّد إثنياً ودينياً وثقافياً ولا يكون الفرد فيه إلاَّ تجسيداً للمجموع.وانطلاقاً من هذه الرؤية الإختزالية للفرد والمجتمع سيكون على الفرد تحمل مسؤلياته كاملة عن كل ما سيصدر من أبناء جِلدته من سلوك وأفعال،وسيحاكم عليها شاء أم أبى.وسنجِد،دون عناءٍ يُذكر،أن مفهوم”الثأر”،بنسختيه البدائية(القبلية) والحديثة(القومية)ينطلق من ذات الرؤية:”ولا نظلم الفرنسيين حين نقول أن لهم يداً فى تلويث الدم الألمانى فى رينانيا،لأن هذا (الشعب المتهتك) لا يختلف عن اليهود برغبته فى القضاء على حيوية شعبنا حين يشجع (الأجناس المنحطة) على تلقيح الألمان بدمها النجس.إن الدور الذى تلعبه فرنسا،بدافع من الحقد و بتحريض من اليهود، هو إجرام بحق الجنس الأبيض،وسيأتى اليوم الذى تتكاتف فيه الشعوب الأوروبية وتلقن هذا (الشعب المجرم) درساً لن ينساه وتنزل (به) العقاب الصارم الذى يستحق” (هتلر،كفاحى،ص247 ).
أى إنتقامٍ فظيع هذا الذى كان سيحيق بالفرنسيين الأبرياء النازيين أنفسهم لو قُدر له أن ينتصر فى الحرب..!؟ على الأرجح أنه لن يستثنى أحداً من الفرنسيس حتى لو أقسم بالصليب المعقوف(رمز النازية)،كما لن يشفع له تاريخ ميلاده المُتأخر.وعلى ذات المنوال ينسج الطيب مصطفى تصوراته عن سكان الجنوب:”أقول للبشير وعلى عثمان إننا نرحب بالجمهورية الثانية وبذلك الشعار لكننا ننصح بأن تجربتكما السابقة مع الحركة الشعبية كافية لإقناعكما بأن الجنوب ليس من(ثقافته) أن يُقدِّر ما يُبذل فى سبيل إسترضائه وليس من (ثقافته) أن يُقدر من يلاطفه أو يهادنه ويتنازل (له) وهل من دليل أكبر من نيفاشا و(سلوكهم) بعد كل ما بذل (لهم) فيها وهل من برهان أكبر من أحداث الأثنين (الأسود) فى مواجهة من (إحتضنوهم) وفتحوا لهم(بلادهم)!؟(الأنتباهةالأحد.20/2/2011العدد 1786).فكما لم يميز هتلر بين الفرنسيين(العنصريين مثله) وبين الفرنسيين المتسامحين المنفتحين،كذلك لم يميز الطيب بين أبناء الجنوب الذين،ولا شك،لم يخرجوا كلهم لإثارة الفوضى فى يوم الأثنين الذى يدعوه هو(بالأسود)لإرتباطات اللون الأسود عنده بالشر، وفقاً لترميزات ثقافته البيضاء المحمولة لُغةً!.وكما لم يرى الفرق بين الذين قاموا بالفوضى والذين أختبؤا بالبيوت مثلهم مثل أى مواطن مدنى مُسالم،كذلك لم يرى الفرق بين الحركة الشعبية كفاعل سياسى(مؤسسة) وبين المواطن الجنوبى كفاعل إجتماعى(فرد).أى أن كل الجنوبيين مسؤليين عن القرارات التى تتخذها الحركة الشعبية.على أن أهم ما فى هذه الفقرة هو تأكيدها على مدى شعبوية وجهة نظر الطيب مصطفى تجاه الجنوبيين،فهو يستقى أحكامه عنهم على ضوء ما أرتكز فى الوعى الجمعى الشمالى عن كون الجنوبى يصير أكثر ضراوة حين تعتزر له عن خطئك،لذا من الأفضل أن تصمت(وتحمِّر فيه)بدلاً من أن تعتزر.
إذن. تنبع عدم القدرة على التمييز بين أفراد المجتمع من جهة وبين الشعب وحكومته من جهةٍ أخرى من رؤية تستند فى تحليلها للأشياءإلى منطق(الجوهرانية) التى تسم طرائق التفكير الشمولى.
“إنالاشتراكيةفيالشرقأوالغربقدتوصَّلتإلىحقيقةأنهلا
يمكن التعاملمعالناسككُتل،كجُموعغيرمتمايزةتؤلفطبقة
أو عرقاً أونوعاًأوأمَّة. إنمفهومالناسليسهوبالمُعطى
الجوهرى،المحدَّد طبقياًالمُوحَّدوالمتجانسالذييُشكلالمجتمع،كماتراهالسياسة،بل هو عبارة عن عملية تجلٍ سياسي وتفاوض سياسيعلىطولخطالمواقع الإجتماعية المتناقضة”.(هومى بابا،مجلة الغاوون،العدد،41،ص21).
كم هو محزن أن نرى خطاباً على هذه الدرجة من الجمود يقود أمتناويُوجِّه قدرها التاريخى عكس مسار التاريخ.وما من شك فى أنهموغلٌ فى الرجعية ليس لأنه غير إنسانى وحسب،
بل لأنه غير علمى وعتيق،وقد تم الوعى به و تجاوزه فى الغرب(قانونياً على الأقل) بفضل الطفرات المعرفية التى حدثت فى حقلى العلوم الإنسانية و التطبيقية على حدٍ سواء ما فتح الباب واسعاً من ثمَّ، أمام الفرد الغربى على آفاق تضامن إنسانى لم تكن لتخطر على بال هتلر فى ألمانيا القرن العشرين ولا على بال (الطيب مصطفى) فى سودان القرن الحادى و العشرين.على أن ما يدعو للحسرة،حقاً،هوأن الصفوة النيلية الإنقاذية المتنفذة التى أستطاعت، بِليل، أن تطيح بالنظام الديموقراطى التعددى،لم تغادر حتى الآن مربع النظر للدولة بإعتبارها غنيمة إستعمارية تخصهم،وقد أودعهم إياها الله مع تكليفهم بالوصاية والإنفاق من موارها على المواطنين الآخرين المختلفين إثنياً ودينياً وآيدولوجياً.وهم بذلك يعيشون أزمات مُرحلَّة من قرون مضت ويُجهدون أنفسهم بطرح أسئلة عن المواطن والمواطنة والدولة كان قد اُجيب عنها عملياً قبل أكثر من قرن فى مناطق أُخرى من العالم المتقدم.وهى إجابات تحمل خلاصات التجربة البشرية فى الترقى بالشرط الإنسانى من خلال تعريف الإنسان من حيث هو إنسان يعيش مع إخوته البشر فى دولة بينه وبينها عقد يتأسس على حكم المؤسسات والقانون،غض النظر عن جنسه أو دينه أو نوعه… إلخ
لا تعدوظاهرة الطيب مصطفى،وشعبيته الكاسحة(كما كان الحال مع هتلر)،إلاَّ أن تكون تعبيراًعن التردى الحضارى الذى يعيشه شعبنا ،الآن،الرازح تحت سياسات التجهيل والإفقار المبرمج.وهذا التردى يتمثل فى:
*بعد أكثر من إثنين وعشرين سنة من وصول عُصبة الأصوليين إلى السلطة،بإنقلاب عسكرى، وبعد تنفيذ سياساتهم فى هيكلة المجتمع والاقتصاد والعلاقات الخارجية وتأسييس دولةمعزولة برؤية شمولية تجاوزتها التجربة الإنسانية،أصبح المواطن السودانى يعتقدأنمواطنيتهتتأسسعلى الإسلام ديناً وعلى العروبة نسباً ومن لم يتوفر فيه هذان الشرطان عليه أن يوفق أوضاعه.
*بناءاً على ما سبق،فقد حدثت ردة مجتمعية شاملة،تراجعت على إثرها شعارات الدولة الديموقراطية الحديثة مقابل شعارات دولة القبيلة (التى لها دين ولها لغة)،فلم يجد السودانيون الآخرون (غير العرب وغير المسلمون) بُدَّاً من الإصطفاف على أسس عرقية ودينية ،وفى أحسن الأحوال جهوية، ليطالبوا بحقوقهم مُفسحين المجال، بذلك،للسلطة أن تصنع منهم أعداءاً لها،وبالتالى،أعداءاً لمن تمثلهم السلطة ( وهم أبناء الوسط والشمال النيلى المستعربة). واستطاعت أن تغذى هذه التناقضات وتلعب عليها.
*إن مستوى المقروئية العالية التى تحظى بها (الإنتباهة) بين السودانيين الشماليين تعكس،بوضوح،مستوى التعصب الذى يديرون بواسطته علاقاتاهم مع الذات و مع الآخر المختلف.وهو تعصب يسم مجتمعات ما قبل الدولة،حيث يعيش الفرد فى بحبوحة القبيلة مُنعماً بامتيازاتها المادية والرمزية ومُنخرطاً فى مؤسساتها التى تعمل على تقويض فكرة الدولة،ذاتها، وتحويلها إلى ساحة تنافس قبلى على مغنم الوطن.
وعلينا أن نذكر أن القراء المولعين بمقالات (الإنتباهة) المثيرة للحماس و النخوة الوطنية الزائفة،لا يجروؤن على أن يطرحوا(على أنفسهم ولاعلى صحيفتهم المفضلة) الأسئلة التالية: لماذا نحن فى حالة حرب دائمة أصلاً؟(ستقول الصحيفة:لأن القبيلة مستهدفة فى دينها وهويتها وثرواتها وهى لذلك تخصص جُل ميزانيتها للدفاع عن أفرادها).لماذا يهاجر السودانى المسلم إلى اوروبا وامريكا ولايعود إلا بعد أن يحصل على جواز سفر أجنبى يضمن له نفس الحقوق التى يتمتع بها المواطن فى البلد المعنى بما فيها حق حرية الإعتقاد؟
كيف أستطاعت شعوب الهند ونيجيريا،غانا والبرازيل أن تجعل من فسيفساءها العرقية والدينية دولاً مستقرة ومذدهرة؟
كل هذه الأسئلة تقع فى دائرة اللاَّمفكر فيه بالنسبة للصحيفة ومريديها لأن العقل العصبوى الأصولى العنصرى تعوزه سعة الأفق اللازمة للتفكر فى شئون غيره لأنه يفتقد للحس الإنسانى و لقيم التضامن مع الآخر(بالمعنى المعاصر لمفهوم التضامن) ولا يستطيع أن يتواصل مع الآخر،بسبب تضخم الأنا، من أجل فهمه والتفاوض معه لأن حق التفاوض يضعه معه فى نفس المرتبة لهذا يميل لحسم الصراع بالعنف تساعده فى ذلك(فى حالة الطيب) وجود آيدولوجيا جهادية تم تطوير مقولاتها الأساسية من فقه القرون الوسطى.
ولأن هكذا أسئلة لن تُطرح أبداً، وإن طرحت فستعالج عبر آليات الذهن الأصولى ،فسيواصل(فوهرر الجلابة) فى تعبئة ما تبقى من سودانيين فى الشمال،بدعوى الدفاع عن الهوية، ضد ما سيتم فرزهم ،لاحقاً،كآخرين مختلفين فى جبال النوبة وجنوب النيل الأزرق، لذات الدواعى التى جعلته يستنفرهم قبل الإنفصال ضد الجنوبيين.ولأن الأصولى المُتعصب لا يكف عن التعصب لدينه فقط وإنما لعرقه أيضاً، فستتسع دائرة المطرودين من دولة (الطيب) لتشمل البجا فى الشرق والنوبيين فى الشمال والدارفورين فى الغرب،فوجودهم يشكل تهديداً للصورة البهية لدولة النقاء العرقى والدينى المغلقة التى يحلم بها،ودولته هذه هى المولود الشرعى لكل الجهود النظرية والسياسية التى راكمتها الحركة الإسلامية الشمولية فى السودان التى لم تكن تحمل خطاب دولة وإنما خطاب إصلاح مجتمعى راديكالى ضلَّ طريقه إلى السلطة فقلب عاليها سافلها.
وإذا ما أستمرت متوالية الإقصاء والتهميش والإستعلاء هذه،فسوف لن يجد الطيب مصطفى أفضل من خرائب الخرطوم المُدمرة مسرحاً لإلقاء قصيدة الموت الأخيرة.
نعود للتأمل ،مجدداً، فى الأسئلة التى كان على السودانيون الذين يمثلهم الطيب مصطفى أن يطرحوها على أنفسهم وستحاول هذه المقاربة أن تجيب عليهامن وجهة نظر نقدية تسعى لتقديم تحليل متماسك عن الأزمة الوطنية الشاملة التى يمثل الطيب مصطفى والتيار الإجتماعى الذى يصدر عنه نموذجها الصارخ.
إن عدم تجزر الديموقراطية فى بنية الدولة بالرغم من المحاولات الثلاث التى قام بها السودانيون لتأسييس نظام ديمقراطي يستطيعون من خلاله أن يديروا التنوع وأن يبدأوا برسم سياسات تنموية وطنية بدلاً عن السياسات الإستعمارية التى كانت تدير البلد كمزرعة يعود ريعها للحكومة البريطانية فى لندن.
و تقف وراء عدم رسوخ التجربة الديموقراطية فى السودان عوامل سياسية داخلية وإقليمية ودولية بالإضافة لعوامل مجتمعية، تخص المجتمع السودانى، غاية فى التشابك والتعقيد:
أولاً:إن الديمقراطية وقيمها نتاج طبيعى لسيرورة التطور الرهيب الذى أنجزته المجتمعات الغربية وهذا ليس مدعاة للقول بأن الديمقراطية نبتة لا تنمو إلاَّ فى الشتاء التى أستأنفت بنائها الحضارى بالإتكاء على التراثين الوثنى الأثينى والمسيحى لتشيد منهما،بعد أن تجاوزتهما نقدياً، دعامتين صُلبتين لعصر النهضة و الأنوار ثم الإستعمار.وأستطاعت فى مسارها هذا أن تصل لنقطة تطورية متجاوزة لكل الأنماط الحضارية البشرية فى تلك اللحظة حين كان العالم ينعم بالحضارات..!.إذن،يظل التفاوت الحضارى بين المجتمع السودانى، الذى أرادت قواه المستنيرة دمقرطة نظام الحكم، وبين السياق الغربى الذى أنتج الديمقراطية يظل هو من الأسباب الرئيسة التى حالت دون تبيئة الديموقراطية فى السودان لغياب المشتركات والخلفية الحضارية.
ثانياً:صعود القوى الشمولية إلى مسرح الحياة السياسية السودانية وقيامها بعرقلة الديمقراطية،بل و بالإطاحة بها كل ما سنحت الفرصة، مرة بحجة إنقاذ البلد من الفوضى الحزبية ومرة بحجة المهددات الأمنية المحدقة بالوطن التى تمثلها حركة التمرد جنوباً فى ذلك الوقت،و كلها حجج لا تستوى على ساق لأن الفوضى الحزبية،لو وجدت،يمكن معالجتها بمزيد من الإصلاحات الديمقراطية داخل جهاز الدولة،أى بالمزيد من الديمقراطية وليس بنسفها.أما الحجة التى تزعم بأن النظام الديموقراطى أقل قدرة على إدارة شئون الدفاع،فيكفى أن نذكر بأن بريطانيا قد خاضت أهوال الحرب العالمية الثانية تحت قيادة حكومة وبرلمان منتخبين ولم يتنازل الشعب البريطانى،تحت زريعة لا صوت يعلو فوق صوت المعركة،عن أى حق من حقوقه الأساسية،كإنسان، التى كفلها له الدستور المدنى.إذن،فلن تسمح الهند، التى تعيش توتراً أمنياً نووياً مع جارتها باكستان ولا إسرائيل التى تُقيم على فوهة بركان عربى،لأى حزب شمولي أصولى بأن ينقض على النظام الديمقراطى بدعوى الدفاع عن الوطن أو الهوية.
أخيراً: لعب البُعد الإقليمى دوراً،وإن كان متواضعاً، فى وأد الديمقراطية الثالثة،خصوصاً الدور المصرى،إذ أن أى تحول ديمقراطى فى السودان كان سينقل العدوى إلى الجارة مصر وهذا ما كان يخشاه النظام الشمولى هناك فلم يرحب بالتغيير وظل النظامان يتبادلات نظرات الشك والريبة حتى تاريخ إنقلاب 1989. نحن نعرف أن الديمقراطية المحاطة بالدكتاتوريات من كل جانب،فى ظل عدم توفر دعم دولى،تكون مهددة بالفشل.فالمجتمع الدولى فى تلك اللحظة لم يبلور موقفاً واضحاً تجاه مسألة دعم دمقرطة الحكم فى العالم الثالث برغم أطنان البحوث والدراسات التى تصدرها المؤسسات البحثية فى عالم الشمال التى كانت تتحدث عن أن ما يحدث فى أفريقيا،سياسياً،بيئياً…إلخ.سيلقى بظلاله على الجميع لأن الحرب الباردة التى كانت تدور رحاها بين قطبيه(الولايات المتحدة والإتحاد السوفيتى)الذان يحملان آيدولوجيتين إحداهما إشتراكية شمولية والأخرى رأسمالية ديمقراطية، لم تضع أوزارها بعد،أما الآن بعد أن نجحت الرأسمالية و الديمقراطية فى مجالى الإقتصاد والحكم فقد صار بإمكان المجتمع الدولى أن يدعم الديمقراطيات الوليدة فى العالم الثالث. مهما يكن من أمر،فإن مسئولية الإطاحة بالديمقراطية الثالثة تظل،رغم أهمية العوامل الخارجية،على عاتق القوى السياسية السودانية،خصوصاً،تلك التى كانت على سدة السلطة.على أى حال.هذه بعض العوامل التى أفشلت مشروع الديمقراطية فى بلادنا،ضمن عوامل أخرى لا يتسع المجال لذكرها.
منبر السلام العادل:
وجدت الحركة الإسلامية الشابة، فى أجواء السيولة السياسية التى وسمت الديمقراطية الثالثة والتخبط الذى لازم حكومة الإئتلاف الحزبى الأمة و الإتحادى فى ذلك الوقت،بالأضافة لحرية العمل السياسى الذى توفره الأنظمة الديمقراطية،وجدت الفرصة المناسبة
للإنقضاض على جهاز الدولة وإلغاء النظام الديمقراطي كيما يتسنى لها وضع تصوراتها عن الدولة موضع التنفيذ. وهى تصورات شمولية تسير عكس مسار التطور الطبيعى لسيرورة الإجتماع البشرى؛إذ أن فى اللحظة التى سعى فيها الإسلاميون فى السودان لتأسيس دولة متجانسة تستند على الهوية الدينية و اللغوية كان البشر فى أنحاء أخرى من الكرة الأرضية يبدعون أنماطاً و أنظمةً عقلانيةً أكثر قدرةً على مخاطبة وإدارة التنوع البشرى الذى يجب الإعتراف به والتعايش معه بدلاً من نفيه و نسفه.
قصدت من الفقرة السابقة إعادة (منبر السلام) إلى جزوره الفكرية والسياسية التى أنطلق منها ليصبح فيما بعد كياناً مستقلاً بذاته له رؤيته السياسية وطرحه الفكرى.و يمكن لنا، أن ننسبه بسهولة الى تيارات الإسلام السياسى الشعبوى فى المنطقة وإلى أحزاب اليمين القومية المتطرفة فى اوروبا فى آن. وتحديداً الحزب النازى الألمانى.
دولة الإثنية المتدينة:
يستخدم الطيب مصطفى لغة دينية ليسمح لنفسه بالحديث عن دولة إثنية لا يمكن التبرير لها إلا بالشعارات الدينية:
يعيش السودانيون، كغيرهم من مجتمعات العالم الثالث، أوضاع ما قبل الدولة،حيث تتجاور فى ذات الحيز الجغرافى مجموعات سكانية مغلقة إثنياً(القبيلة؛مركز الهوية القريب) تتنافس على جهاز الدولة كتركة إستعمارية، من أجل الحصول على الثروة.وقد يصل هذا التنافس حد الحروب مما يفتح الباب للتفاوض لإيجاد طريقة يتم بها إستيعاب المجموعات المستبعدة من المعادلة السياسية والإقتصادية و الثقافية.فى هذه اللحظة يكشف المجتمع عن مدى تخلفه أو تقدمه.عن مدى إمتلاكه القدرة على إنجاز مرحلة الدولة التى ستصبح هى المظلة العابرة لكل الإنتماءات(رابطة الروابط).وهذا ما لم يحدث حتى الآن.
لقد نشأت الدولة،إذن،نتيجة لتقديم التنازلات(إقتصادية،دينية) وذلك بالتواضع على عقد مبدئى عقلانى يسمح لكل الأطراف بالتعايش السلمى داخل إطار قانونى يكفل الحقوق والمصالح ويحدد الواجبات وهذا الإطار المجمع عليه يُسمى الدولة!.
ماذا نقصد بالتنازلات الدينية؟نقصد بها أن على كل طرف أن يمارس حريته بما فيها الحرية الدينية فى فضاءه الخاص طالما أن الفضاء العام مملوك للجميع.وعلى هذا الأساس لا يحق لأى طرف أن يفرض تصوراته على الآخرين.
إذا إستطعنا أن نعرِّف الدولة الحديثة على هذا الأساس فسيكون من السهل جداً أن نحدد الموقع الذى يصدر عنه الخطاب الأصولى الفاشستى الذى يسعى لتأسيس دولة خارج الدولة،أى بالإرتداد عن الإنتماء للدولة مقابل ترسيخ الهوية الإثنية الدينية.وهذه الردة بمثابة تحليل لمكونات الدولة الأولية(القبيلة ودينها) التى بفضلها أصبحت دولة.و بين التحلل و التفكك قرابة فى المعنى لا يخطئها أحد،وها هم الجنوبيون أول المغادرين لمضارب القبيلة(الدولة) بعد أن يئسوا من حلم الدولة المدنية التعددية المتنوعة.
إن الموقع الوحيد الذى يمكن أن يصدر عنه خطاب الطيب مصطفى الإستعلائى العنصرى هو (موقع المقاومة) من حيث هى قدرة على التعامى عن حركة الواقع والناس التاريخ . هى مقاومة لكل التراث الإنسانى فى التعايش.
يقول الطيب مصطفى فى رده على بيان أصدره (ياسر عرمان):
“يا سبحان الله حتى بعد أن انفصل الجنوب وأصبح السودان الشمالى (ملكاً خالصاً للإسلام) الذى يعتنقه الآن أكثر من 98%من شعب السودان الشمالى يقول بيان عرمان[إن ما يجمع السودانيين ليس هو الدين الواحد او الإثنية الواحدة...]عجيب أمر هذا الرجل!!يخلط بين العرق والدين..صحيح أن أبناء الشمال (قد يختلفون) إثنياً لكن هل يختلفون فى الدين بعد أن (خرج الجنوب من خريطة السودان)؟!هل رأيتم هذا الإستهداف للإسلام الذى يجمع أبناء الشمال”(الإنتباهة.30/مارس/2011العدد1823).
وضعت الأقواس على الكلمات المفتاحية من أجل الدرس والتحليل ولنبدأ بأكثرها تطرفاً(ملكاً خالصاً للإسلام)تفترض هذه العبارة الشمولية الإقصائية أن من حق الأغلبية الدينية أن تمتلك السيادة المطلقة على الدولة،ما يعنى أن شروط المساكنة بين البشر فى الدولة الواحدة تقوم على المغالبة والصراع إصطفافاً على أسس ومُطلقات دينية لا يمكن التحاور بشأنها،والنظر للمجتمع بإعتباره كيانات دينية تتصارع حتى الموت يعبر عن مقاربة قروسطية لأصل الصراع الإجتماعى فى الدولة الحديثة لأن مفهوم الدولة فى التصور المعاصر ينبنى على إمكانية إحلال التنافس المؤطر بالقانون محل الصراع الدموى ويحدث هذا بعد ان تبتلع الدولة كل الروابط والإنتماءات التى سبقتها مفسحةً للفرد فضاءات فعل إجتماعى تواصلى خارج حدود إنتمائه البسيط،متيحةً له ،من ثمَّ،توسيع مظلة تضامنه الإنسانى لأبعد مدى.
تشى عبارة(قد يختلفون) إنكاراً مبطناً لفكرة الإختلاف، الكلمة التى لا يحب سماعها كل الشموليين فى العالم،ولأن الطيب مصطفى يحلم بشمولية إثنية دينية نموذجية فسيتناسى نسبة الإختلاف التى لا تساوى غير 2% والتى ليس أمامها سوى خيارين:الإسلام المُعربن أو البتر.
كان يخطط هتلر،لو قدر له أن ينتصر فى الحرب،لإبعاد 51ألف من اليهود و الغجر والسُلاف لغرب سيبيريا الباردة.إمعاناً منه فى التأكيد على كراهيته لهم.وهاهو صاحب المنبر إمعاناً منه فى نبز الجنوب يستخدم كلمة (خرج من الخريطة) كما لو أن الجنوب مرض أو أى شيئ آخر غير مرغوب فيه يخرج من جسد الوطن.
ويختم تعليقه بِثيمة نموذجية لطالما أستخدمها الإسلام السياسى فى تمرير مشروعيته السياسية للجماهير وهى الدفاع عن الإسلام. ولشدة إستهلاكها وفراغ معناها لم يعد الطيب مضطراً لربطها بمنطق الجملة والسياق،فالشعارات السياسية تُفهم هكذا.كيفما أتفق.
سأزعم أن فى العبارة السابقة، والتى سيكررها فى غير ما موضع فى مقاله الراتب فى صحيفته التى يصدرها هو، الملخص الكامل لمشروع الدولة عنده.
ولا يجد الطيب غضاضة فى إستخدام لغة علاقات الرق المتداولة فى الأوساط الشعبية دون أن ينتبه للأثر الجارح الذى يمكن أن تتركه فى نفوس القراء،ضارباً بذلك،كل قوانين وأعراف العمل الصحفى الشريف عرض الحائط”على عثمان الذى وقعإتفاقية نيفاشا مع قرنق (سِيد) مالك عقار”(الإنتباهة،7/أغسطس/2011العدد1953).كان الأولى به،لو كان يعلم ما للصحافة من دور فى عملية البناء القومى،أن يؤسس لخطاب صحفى يرتقى بمستوى وعى المواطن لمستوى التحديات التى تواجه الوطن الذى تمزقه الحروب منذ إستقلاله.وأن يساهم بفكره فى رتق ما تبقى من النسيج الإجتماعى المفتت الذى أحوج ما يكون لمن يُعيد إليه الثقة بين أطرافه.خطاب صحفى يربأ بنفسه عن بث ثقافة الخرافة ويزيل سوء التفاهمات والإنطباعات الخاطئة التى منعت السودانيين من رؤية ذاتهم على حقيقتها.
لم يُمجِّد أحداً الحرب كما مجدَّها هتلر وسميِّهِ الطيب”إن إسقاط حكم الحركة الشعبية فى جنوب السودان ينبغى أن يكون الهدف الإستراتيجى لأية إستراتيجية توضع للتعامل مع الجنوب بإعتبار أن ذلك هو السبيل الوحيد لإنهاء التوتر وإبطال الأجندة المعادية للسودان الشمالى”(الإنتباهة،7/أغسطس/2011العدد1953).فهو يرى فى إشعالها الحل الناجع والنهائى لكل أشكال الصراع البشرى،لأن الصراع عنده ينشأ نتيجة لمؤامرة مُعدَّة مسبقاً من الطرف الآخرلا يمكن التراجع عنها.مما يستلزم،فى هذه الحال،نسفه دون رحمة.قد نجد العزر لهتلر فى سياقه ذاك،إذ ما زالت البشرية الأوربية تخوض حروبها الهمجية
من أجل التوسع فى العالم طمعاً فى مواده الخام ضِمن عوامل أخرى .وهى اللحظة التى لم تنتصر فيها قيم الحداثة بعد،أى قيم الإنسان.”تكره إنجلترا أن ترى المانيا تتقدم وتنمو وتذدهر،أما فرنسا فتريد أن تزيل المانيا من خريطة أوروبا و العالم”(هتلر،كفاحى،244).يعتقد هتلر،على ضوء الإقتباس السابق، أن بريطانيا متورطة فى مؤامرة من أجل القضاء على المانيا،وهو ذات الهوس الذى يغطى كامل خطاب الطيب مصطفى:”هل يحق لى أن أسأل من يقف وراء الترابى منذ أن بدأ مسيرته السياسية بدوره فى ثورة أكتوبر1964وهل أُعِّد الترابى من قديم ليلعب دوراً مرسوماً أُختير له بعناية منذ السوربون فى باريس كما أختير قرنق منذ ابتعاثه إلى جامعة إيوا فى أمريكا وكما أختير بورقيبة ومصطفى كمال أتاتورك للحرب على الإسلام؟!”(الإنتباهة،27/يوليو/2011العدد1942).يبدوأن الإيمان الطاغى بنظرية المؤامرة قد حرم الطيب مصطفى من تذكير القارئ بأن الترابى هو رمز الإسلام السياسى الأشهر فى المنطقة بأسرها والذى بفضله وصلت الحركة الإسلامية إلى السلطة فى السودان،كأول تنظيم إسلامى يصل السلطة فى العالم السنى كله.ولم يجتهد كذلك لإثبات هذه العمالة المزعومة على رفيق الأمس وعراب المشروع الذى يعتاش من خيره الطيب مصطفى نفسه ويبشر به فى العالمين.ودون أدنى إحساس بالمفارقة،يحاول أن يقول أن الحركة الإسلامية،التى ينتمى لها الطيب نفسه،صنيعة غربية من أجل القضاء على الإسلام.هى،إذن،ولا شك،حبائل البروبوغاندا اللاعقلانية التى يجيدها أى تنظيم شعبوى يفترض فى شعبه الغباء.يسأل هتلر:”هل توجه الدعاية إلى المتعلمين أم إلى العوام؟” فيجيب بكل ثقة:”يجب توجيه الإعلان إلى عامة الشعب،فالمتعلمون يوجه لهم التفسير العلمى للدعايات”(هتلر،كفاحى،ص71). بناءاً على فرضية أن العوام غير المتعلمين أكثر قدرة على تصديق البروبوغاندا السياسية،خصوصاً فى ظل الحروب والصراعات،فقد صمم هتلر دعاية الحرب المفتوحة من أجل ألمانيا و لكنها لم تكن إلاَّ لخدمة أجندته التوسعية وإرضاءاً لهوسه الشخصى بالقتل والتخريب”لقد أدرك الأنجليز أن أكثرية الشعوب فى الأزمات تأتى آراؤها وتصرفاتها نتيجة المؤثرات لا نتيجة التفكير المجرد.فالتأثير الذى يسيطر على الشعب ليس إلاَّ الشعور بالحب أو البغض،بالصدق أو الكذب،بالقوة أو الضعف”(هتلر،كفاحى،ص73).إن كامل السياسة التحريرية لصحيفة الإنتباهة تقوم على نفس الرؤية الدعائية ويكفى أن نلقى نظرة على تغطيتها لأى إضطراب إجتماعى أو أى صراع سياسى أو مسلح يحدث فى البلد.فبدلاً من أن توفر الحقائق للقراء ليتعرفوا على جزور الصراع المَعنى وتُبصِرهم باحتمالات الحلول الممكنة،نجدها تستغل حالة الغضب الشعبى لتمرر أجندة الحروب والمواجهات بين مكوناته الإثنية والدينية وحتى الحزبية،ورصيدها فى تعبئة الشماليين ضد الجنوبيين،إثر وفاة قرنق،لا ينكره أحد.وليت الدعاية توقفت فى محطة صياغة الخبر وحده، فالأعمدة الداخلية تُعج بهلاويس أدب مابعد الحداثة فى قوالب بوليسية مثيرة وبعضها يطفح بتشنجات المتشددين المتعطشين لرؤية الدماء الشاخبة تنفيذاً لشرع الله.
ويظل عموده الراتب (زفرات حرَّى) ينهل من قاموس الشتائم المشترك الذى يجمعه بهتلر،وإنْ كان الأخير أكثر تقشفاً من الأول،إذ أن عدد الشتائم المبتكرة التى أطلقها الطيب على خصومه اللاَّنهائيين فى عمود واحد تساوى نصف الشتائم الواردة فى كتاب (كفاحى البالغة عدد صفحاته272)،وهى”الهالك،عميل،منبوذ،جهل،سطحية،كراهية،بغض،المزروع،السفيه،الرويبضة،المارق.(الإنتباهة30/مارس/2011 العدد1823).
هذا بالإضافة إلى المفردتين الأثيرتين المكرورتين”الحقد،الغراب الأسود”.بينما أستعان هتلر بالقائمة التالية:”جبان،حقير،سخيف، وضيع،الدم النجس،الحقد، الشعوب المنحطة،المجرم،المتهتك”.
إن خطاب العنصرية والكراهية الذى تدعمه البروبوغاندا المنظمة سواء أكان هنا فى السودان أو رواندا أو المانيا النازيةحتى1945،هو خطاب أزمة مجتمعية شاملة.هو صرخة مجتمع يعانى الضغط الداخلى والخارجى بكافة أشكاله،العسكرى،السياسى،الإقتصادى والثقافى. لأن الأصوليات الدينية أو الإثنية المتطرفة لا يمكن لها أن تسود فى المجتمعات المذدهرة المفتوحة التى تعيش بشروط الإجتماع البشرى الحديث،حيث الرفاه الإقتصادى بجانب الحريات العامة.
24/8/2011
أمدرمان


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.