أخي محمود محمد طه، تحيتي واحترامي، وبعد فقد قرأت العدد الأول من صحيفتكم الغراء «الجمهورية»، فسرني حسن تنسيقها وحيوية الأبواب التي جعلتم منها مسرحاً للآراء ومضرباًًً للأفكار، وقد استوقف نظري بصفة خاصة من بين المباحث التي اشتمل عليها العدد هذا الخطاب الضافي الذي أرسلتموه إلى منظمة اليونسكو، واعتبرتموه ممثلاً لدعائم الحزب الجمهوري وأسسه في العقيد والرأي. وجو الخطاب ليس عليّ لطول عشرتي لاتجاهاتك الفكرية. فأنا أعرف منذ أمد بعيد، حبك للانسانية، واهتمامك بمصيرها، واخلاصك في هذا الحب، وشجاعتك في الافضاء بما تراه صواباً وخيراً. وأعرف أن نزعة صوفية تشد أفكارك إلى السماء شداً عنيفاً، وتلونها بلون مثالي لا تراه إلى عند أصحاب «اليوتوبيات» ولا أذكر اني قرأت لك أو اجتمعت بك وغاب عن ذهني أفلاطون والفارابي. ولست اريد اليوم أن أناقش كل ما ورد في خطابك المثالي، فسأتجاوز الحكومة العالمية لأنني اعتقد أن الحكومة العالمية اذا قدر لها أن تقوم، فسيكون قيامها نتيجة لحسم المشكلات والقضاء على المظالم. ستقوم حين يقبر الاستعمار والاستغلال، وتسود الناس روح المودة والعطف فينظر المرء إلى أخيه بعين الانسان لا بعين الذئب. فالتفكير فيها الآن وثوب غلى النتيجة قبل إحكام المقدمات، وإعداد الوسائل. سأتجاوز الحكومة العالمية إلى «التعليم الجديد» فانت ترى « أن التعليم الحالي مضلل كل التضليل، وتضليله نتيجة منطقية للنظرة العامة للحياة وغاياتها، أننا نعيش الان في عصر آلي؛ يتغلل أثر الآلة في جميع وجوه نشاطه، حتى تعلم الانسان أن يحترم القواعد الآلية، وأن يتمثل الآلة في انتاجه الأدبي والفني، وأن يستمد مثله العليا من دقة الآلة، ومن قوتها، ومن صوتها الموقع الموزون. ويتبع كل ذلك نظامه التعليمي، فهو يحاول أن يخلق نفسه بالتعليم وبالمرانة آلة أدمية شديدة الدقة، موفورة الكفاءة كثيرة الانتاج. وكذلك أصبح التعليم مهنياًً في أكثر أساليبه». أنت ترى هذه هي حال التعليم اليوم، واذا صح ما ترى وكانت فكرتك مستقاة من استقصاء لا مبالغة فيه، فإن حالة التعليم الحاضرة سيئة من غير شك. ولكن ما رأيك اذا قلت لك أن هذا اللون من العادات الفكرية والملكات النفسية هو ما نحتاج إليه نحن الشرقيين؟؛ ليحد من اطراف حريتنا المثالية الحالمة الهائمة وجبريتنا الصوفية. على أنني لا أوافقك -مع أعترافي بنقص التعليم وسوء منهجه- على أن هذه الصورة صادقة للتعليم والانتاج في وقتنا الحاضر. لأن معين العطف والشوق والنزوع إلى حياة أفضل وأكرم من الحياة الماثلة لم ينضب في نفوس البشر. فالناس مذ كانوا أبناء حاضرهم ورواد مستقبلهم. وعندما كان عماد الحياة الحيوان، فإن انتاج الناس في الحياة المادية والفكرية كان متاثراً بالحيوان ونشاطه، مستشرفاً إلى حياة أفضل وأكرم. خذ مثلاً الأدب العربي في جاهليته، فأنك لا تستطيع أن تفهم منه شيئاً ذا بال اذا جهلت حياة الناقة وحيوانات الدو، ومع ذلك فإن هذا الادب مهد خير تمهيد لظهور الاسلام. وقد حلت اليوم الآلة محل الحيوان، فهي لا بد مؤثرة في انتاج المنتجين وهي لا بد عاجزة كما عجز الحيوان من قبل عن السيطرة على جميع الدوافع النفسية والحوافز التي تدفع بركب البشرية إلى الأمام. فالصورة التي رسمتها للتعليم والانتاج تحمل الشىء الكثير من اعراض التشاؤم. والواقع أن المؤثر القوي في منهج التعليم وغاياته والانتاج الفكري ليس الآلة ودقتها، بل هو نوع الحياة الاقتصادية والاجتماعية الذي تخضع له الشعوب. فالتعليم الذي تدعو إليه اليونسكو مختلف في وسائله وغاياته عن التعليم الذي تمارسه الكتلة الشرقية من أوروبا. واذا سلمنا جدلاً بفساد التعليم والانتاج في جميع صوره ومناطقه،وسلمنا بأن الآلة هي العامل القوي في توجيهه هذه الوجهة المادية الميكانيكية، فإن نوع التعليم الذي تدعو إليه في خطابك شىء غير مفهوم. فأنت تقول: أن غاية التعليم أن يُحرر الانسان من الخوف، وتحريره يكون «بتصحيح تلك الصورة الشائهة التي قامت في خلده عن الحياة وعن قوانينها». وللقاريء الحق أن يفهم أنك تدعو إلى التربية العلمية، وإلى سيادة العلوم الطبيعية. فالعلم وحده هو الذي يستطيع بقدر ما وصل إليه من كشف، أن يعطينا صورة صحيحة عن أصل الحياة وقوانينها، وأن يقصي من أذهاننا الصورة الاسطورية الشائهة. وهذا ما حدث بالنسبة إلى الطبيعة، فإن خوف الناس منها قد زال بسبب تقدم العلم، وتصحيحه لكثير من أوضاع الفكير وأساليب البحث، ولم يعد للخوف من الطبيعة أثر إلى في نفوس البدائيين. غير أن القاريء لا يستطيع أن ينعم بهذا الفهم، ويسير على الارض مطمئناً يصغي إليك، ويفهم منك، بل يرى نفسه بالرغم من ارادته يبتعد عن الأرض ويدنو من السماء، محمولاً على جناحك الصوفي إلى عالم المثل الافلاطونية. فيصبح الخوف شيئاً غير الخوف الذي يعرفه، ويصبح التعليم ضرباً من الخواطر الصوفية الممعنة في الخفاء. وأحب ان أسال ما الذي يخيفنا اليوم؟ أما جوابي أنا فهو أننا نخاف العوز ونخاف المرض ونخاف العدوان على أنفسنا وعلى أرزاقنا. فاذا زالت أسباب الخوف بالرخاء والعدل والمساواة بين البشر في الحقوق والواجبات، آمنا ورضينا بقسطنا من الحياة الحاضرة، وزاد تشوقنا إلى حياة أقرب إلى الكمال، وتطلع المؤمنون إلى رضوان الله وكرامته في حياتهم الأخرى. والتعليم الصالح والتربية القويمة يجب أن يكون هدفهما القضاء على اسباب الخوف،واعداد النفوس لبناء حياة تليق بكرامة الانسان، أما الخوف نفسه فلا يمكن أن نتحرر منه ما دامت أسبابه قائمة. ولكن الخوف الذي تتحدث عنه في خطابك شىء موروث، كامن في أعماق النفس البشرية، راسب في العقل الباطن، محجب بستار كثيف لا ينفذ منه العقل الواعي… وهذا الضرب من الخوف لا يعنينا في مشكلة التعليم. وهو اذا كان معتدلاً أمر لا بد منه لحفظ ذواتنا من الكوارث، وليس من الخير أن نستأصله استئصالاً. فالخوف من الميكروب والخوف من الحريق…. الخ، أمر مهم، وسلاح لا بد لنا من حمله. والعلم عند كامن في النفس أيضاًًًَ، بل هو جوهر النفس، مغلف بطبقة كثيفة مظلمة من الأوهام والخرافات والمخاوف الموروثة. وهنا يبرز افلاطون صريحاً يتحدث إلينا في خطابك، فهو كما تعلم يرى أن النفس كانت عالمة بكل شىء في عالم المثل ولكنها نسيت ما كانت تعلمه لما هبطت من عالمها، وأتصلت بالبدن وغرقت في ظلماته. فلابد لها من تذكير لتسترد علمها السابق، فالعلم عند تذكير والجهل نسيان. وقد قضى أرسطو قضاءً مبرماً على علم النفس الافلاطوني وهدم عالم المثل الصوفي بمنهجه العلمي. واذا كان بعض الفلاسفة المسلمين وبعض الفلاسفة المسيحيين قد حاول أن يرد إلى فكرة أفلاطون شيئاً من الحياة والنشاط، فأن علم النفس اليوم لا يعترف بشىء من هذا. فالعلماء اليوم لا يسمحون لانفسهم في معرض العلم أن يتحدثوا عن خلود النفس البشرية. وهم لا يصفونها بالخير ولا بالشر قبل أن تتصل بالمجتمع وتمتص مثله وخبرته وتنال قسطها المعلوم من التربية. حقاً أن العلماء لم يدعوا أنهم عرفوا كل شىء عن النفس، فهم متواضعون دائبون في سبيلهم، وكل يوم يمر عليهم يوقفهم على جديد، ويملأ أيديهم من وسائل البحث ومهما يكن من شىء، فإن النتائج التي وصلوا إليها أقرب إلى اليقين وأدعى للثقة من النتائج التي وصل إليها القدماء بالتأمل الفلسفي والفروض الميتافيزيقية أتظن أن مدير اليونسكو فهم عن القرآن شئياًً؟. القرآن قصة النفس البشرية الخالدة، والقصة نُسيت فرسبت في العقل الباطن، وغلفت بقشرة كثيفة من الخرافات والأوهام والمخاوف «وهذه القصة الطويلة مصنوعة من نفس المادة التي منها صُنعت الأحلام، ومن نفس هذه المادة صنع القرآن» أما أنا فلا أرى مانعاً في الشعر، وقد سرتني العبارة وأخذت بشاعريتها المجنحة وجوها الحالم، فنسيت التعليم والمخاوف ومنظمة اليونسكو، ولكني سألت نفسي هذا السؤال: لو فرضنا أن وصفك الشعري ينطبق على القران، ألا يمكن أن ينطبق على جميع الكُتب الدينية، وعلى الفنون وعلى الميثولوجيا أيضاً؟ فلم أجد مانعاً من الأجابة بنعم. وخلاصة ما أحببت أن افضي به إليك، هو أني أضن بنشاطك الذهني ومقدرتك الفائقة أن يذهب في هذه المجاري التي لا تعدو حدود التأملات الفردية، والفروض المثيرة لعاصفة من الجدل الذي لا ينتهي إلى غاية خصبة منتجة. أحب أن تعطي الواقع قسطاً كبيراً من أحترامك، وأن تنزل فلسفتك ك من السماء إلى الأرض. فنحن في أشد الحاجة إلى رجل مثلك قد عرف عند الناس بالاخلاص وحب الحق والشجاعة في الجهر به. ( محاولات في النقد ) الطبعة 1958م