شاهد بالفيديو.. الفنانة شهد أزهري تعود لإشعال مواقع التواصل الاجتماعي بنيولوك جديد وتقدم وصلة رقص مثيرة خلال حفل خاص بالسعودية على أنغام (دقستي ليه يا بليدة)    شاهد بالصورة والفيديو.. فنانة سودانية تحيي حفل غنائي ساهر ب(البجامة) وتعرض نفسها لسخرية الجمهور: (النوعية دي ثقتهم في نفسهم عالية جداً.. ياربي يكونوا هم الصاح ونحنا الغلط؟)    شاهد بالصور والفيديو.. حسناء سودانية تسخر من الشباب الذين يتعاطون "التمباك" وأصحاب "الكيف" يردون عليها بسخرية أقوى بقطع صورتها وهي تحاول تقليدهم في طريقة وضع "السفة"    شاهد بالصورة والفيديو.. (فضحتونا مع المصريين).. رجل سوداني يتعرض لسخرية واسعة داخل مواقع التواصل الاجتماعي بعد ظهوره داخل ركشة "توك توك" بمصر وهو يقلد نباح الكلاب    نانسي فكرت في المكسب المادي وإختارت تحقق أرباحها ولا يهمها الشعب السوداني    قائد السلام    واصل تحضيراته في الطائف..منتخبنا يؤدي حصة تدريبية مسائية ويرتاح اليوم    عيساوي: البيضة والحجر    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    ماذا قال دكتور جبريل إبراهيم عن مشاركته في مؤتمر مجموعة بنك التنمية الإسلامي بالرياض؟    دعم القوات المسلحة عبر المقاومة الشعبية وزيادة معسكرات تدريب المستنفرين.. البرهان يلتقى والى سنار المكلف    انجاز حققته السباحة السودانية فى البطولة الافريقية للكبار فى انغولا – صور    والي الخرطوم يصدر أمر طواريء رقم (2) بتكوين الخلية الامنية    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة حديثة تعلن بها تفويضها للجيش في إدارة شؤون البلاد: (سوف أسخر كل طاقتي وإمكانياتي وكل ما أملك في خدمة القوات المسلحة)    في اليوم العالمي لكلمات المرور.. 5 نصائح لحماية بيانات شركتك    الأمن يُداهم أوكار تجار المخدرات في العصافرة بالإسكندرية    جبريل: ملاعبنا تحولت إلى مقابر ومعتقلات    موعد مباراة الهلال والنصر في نهائي كأس الملك !    مسؤول أميركي يدعو بكين وموسكو لسيطرة البشر على السلاح النووي    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الخميس    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الخميس    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الخميس    ستغادر للمغرب من جدة والقاهرة وبورتسودان الخميس والجمع    السوداني هاني مختار يصل لمائة مساهمة تهديفية    الغرب "يضغط" على الإمارات واحتمال فرض عقوبات عليها    وزارة الخارجية تنعي السفير عثمان درار    العقاد والمسيح والحب    شاهد بالفيديو.. حسناء السوشيال ميديا السودانية "لوشي" تغني أغنية الفنان محمد حماقي و "اللوايشة" يتغزلون فيها ويشبهونها بالممثلة المصرية ياسمين عبد العزيز    محمد وداعة يكتب: الروس .. فى السودان    مؤسس باينانس.. الملياردير «سي زي» يدخل التاريخ من بوابة السجن الأمريكي    «الذكاء الاصطناعي» بصياغة أمريكية إماراتية!    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    السودان..اعتقال"آدم إسحق"    فينيسيوس يقود ريال مدريد لتعادل ثمين أمام البايرن    تعويضاً لرجل سبّته امرأة.. 2000 درهم    الحراك الطلابي الأمريكي    أنشيلوتي: لا للانتقام.. وهذا رأيي في توخيل    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حنين للضوء! .. ضيف على الرزنامة .. بقلم: طلال عفيفي *
نشر في حريات يوم 27 - 11 - 2010


الإثنين
أطالع في الصحف المصرية خبراًً يكاد يتكرر بشكل يومي، مفاده إطلاق النار على متسلل “أفريقي” حاول عبور الحدود إلى إسرائيل! والمتسلل الأفريقي هنا هو إسم الدلع لما يعرف باللاجيء “السوداني”، وهو صنف من البشر ضاقت به الدنيا، وضاق بها، ذرعاً، فانقصف عمره، غيلة، على السلك الشائك الفاصل بين مصر وإسرائيل إثر محاولة بائسة للهروب من جحيم إلى جحيم!
والمعلوم أن اللاجئين السودانيين في كل أنحاء العالم بعيشون ظروفاً صعبة، والخيارات أمامهم أحلاها مُر، خصوصاً بعد أن رفعت أسماؤهم من جداول العون إثر الإتفاقيات الورقية التي تمت، بين عامي 2005م 2006م، بين الأطراف المتنازعة على السلطة بالبلاد!
ومنذ وقت مبكر انتبه المبدع السوداني الكبير حسين شريف لمشكلة اللاجئين والنازحين، فصارت الشغل الشاغل لكتاباته وكلامه وشعره وأعماله البصرية، تشكيلاً وسينما. عمل حسين على معالجة هذه الندبة الإنسانية بالتوثيق في شريط فيديو بعنوان “من مفكرة الهجرة Diary in Exile” استنطق فيه مجموعة من السودانيين اللاجئين بالقاهرة خلال فترة التسعينيات الأولى، وهذا فيه كلام يطول، لكن الطريف أن أحد المتحدثين قال: “جمعونا 23 معتقلاً من مختلف الأعمار في زنزانة مساحتها 6 أمتار مربعة لنمارس فيها حياة كاملة! والسودان معروف بحرارة الجو والطقس فكانت أول مشكلة واجهتنا هي التأقلم، لدرجة أن أحد الشيوخ- وهذا منظر مؤثر لن أنساه- إكتشف ثقباً في الباب فكان يضع أنفه ويسحب الهواء، وأخذنا نتعاقب نحن ال 23 معتقل لجر الهواء من خارج الزنزانة! وحين طلبنا أن نصلي، قالوا لنا إن الله غير موجود في هذا المكان، علماً بأن الله تعالى موجود في كل مكان”!
إنتهت الإفادة ..
المتحدث كان محمد محمد خير الملحق الإعلامي، الآن، بالعاصمة القطرية الدوحة!
و .. لا تعليق!
الثلاثاء
من ضمن مزايا المرحوم حسن إسحق صفر (1912م 1966م) أنه كان يوثق ويحتفظ بكل أوراقه، فوجدتها بعد أكثر من أربعين عاماً على وفاته على حالها، مرتبة أنيقة كما هي. مذكرات في أظرف ورقية، خطابات في حقائب جلدية صغيرة، فواتير، ملاحظات على الكتب وصور فيها أفنديات وخواجات باسمين!
حكاية عجيبة هي حكاية النوبيين التي اطلعت عليها من خلال مذكرات جدي ذاك، القادم من قرية أبريم.
ضمن الأوراق المثيرة للتأمل والفضول كانت ثمة رسالة إلى الرئيس المصري الأسبق محمد نجيب توضح له، بعد التحية والتقدير و”التأييد لثورة يوليو المباركة”، مطالب النوب التي انحصرت في التعويضات عن الأراضي التي خسروها، بعد أن غمرتها المياه الناتجة عن إنشاء خزان أسوان في 1902م، والذي تمت تعليته مرتين في 1912م و1934م.
في ذلك الحين لم يدر بخاطر حسن افندي إسحق أن سداً عالياً من الخرسانة والأسمنت سيشق، بعد سنوات، جوف الوادي، ويغمره ببحيرة يسمونها بحيرة ناصر، ليغمر ما بقي من أرض شحيحة التصقوا بها لقرون بمحاذاة النهر، يزرعون فيها زرعهم، ويفرحون أفراحهم، ويدفنون موتاهم.
والمثير في الأمر أن أهل النوبة ما زالوا، إلى يومنا هذا، يبحثون، بلا طائل، عن تعويضاتهم، ويجاهدون، بلا جدوى، لأجل إعادتهم ولو إلى قرى جديدة على مقربة من بلادهم القديمة! والأضل أنه حتى تهجيرهم تم بطريقة فيها الكثير من عدم المراعاة لتكوينهم النفسي والاجتماعي. وقامت حكومة السودان، بقيادة الجنرال إبراهيم عبود آنذاك، بإيداعهم منطقة غليظة الطبع لا تشبه بيئتهم التي اعتادوها، ولا فيها بصيص من حياتهم في حلفا .. فعافروا، وجابدوا، وكابدوا، سنين عددا، أثار ذلك الرحيل المر الذي حرق أكبادهم، فمات الكثيرون منهم بحسرتهم، وأسكت أنفاسهم وجع البعاد.
أحاول التفكير في العسف والجور اللذين حاقا بأبناء النوبة. لا يوجد شعب في الدنيا تم انتزاعه من أرضه، وترحيله بعيداً عنها، أربع مرات، خلال أقل من سبعين سنة. والتهجير، لو علمت الحكومات الظالمة، تجريف للثقافة، وطمس للهوية، وتدمير للذاكرة الجمعية، بتدمير الأثار، والمقابر، وكل ملامح الحياة .. أسأل نفسي عن السلاسة المخزية التي تم بها هذا التواطوء الإقليمي، والصمت الدولي، فتملأني حيرة لا راد لها!
قبل عامين أو يزيد قليلاً أصدرت مجموعة دال كتاباً يضم صوراً نادرة وعزيزة قام بالتقاطها عالم اللسانيات الإنجليزي هيرمان بيل، إبان إقامته في منطقة حلفا قبل أن تختفي تحت المياه لإنجاز بحث مرتبط بأسماء القرى النوبية. إسم الكتاب كان “الفردوس المفقود”. الصور التي ضمها، برغم جمال ما فيها من وجوه الناس الأليفة الطيبة، وألوان البيوت الأليفة، إلا أنها تكاد تصرخ بالقدر من الفداحة التي ألمت بالمكان، وهول الغياب الكبير الذي سببته المياه .. النهر الذي لطالما أحبه النوبيون وجاوروه تحول إلى .. نقمة!
اليوم أجد بعض السلوى بين أوراق جدي المحفوظة، وأغاني أحمد منيب وفكري الكاشف وسيد جابر، أغاني توجع القلب، وتفطر الفؤاد، لكنها تحملك على ما يشبه الحلم، حيث تحس بنفسك وكأنك عشت هناك ذات نهار بعيد مضمخ بنقر الدفوف يأتي بشئ من عطر جدتي فاطمة التي تحتل وجداني، والتي ما زلت أذكر نظراتها الصابرة، فلكأنها لا تنتظر من كل التاريخ سوى يوم واحد تعود فيه للبلد! كانت كلما فرغت من أعمال المنزل والطبخ مشت بخفة في جرجارها الأسود، وجلست على كنبة كانت موجودة على مقربة من باب البيت، أظنها كانت تعتقد أن قطاراً ما سيأتي ليعيدها إلى مكانها في قرية “الجنينة والشباك”! ومنذ تلك الأيام في طفولتي البعيدة لم أعد أستغرب حين أسمع الفلسطينيين يتحدثون، بلا كلل ولا ملل، عن حلم العودة .. رحمها الله.
الأربعاء
حين أفتش، لا أجد في نفسي أثراً لأنثى مثل ذلك الأثر الآسر الذي تركته في دواخلي سعاد حسني؛ أثر خلاب، شجي، يوقظه صوتها البهيج، وابتسامتها الفاتنة، وبحر صفائها الذي لا حدود له. لم أحبها كما يحب الناس نجوم السينما، بل كان حباً ملك علي شغاف قلبي. كنت وأنا، بعدُ، طالب يافع، في شرخ الصبا الباكر، بمصر، خلال النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي، ومع أكيد علمي بأنها غير موجودة بالبلاد أصلاً، أتصل برقم تلفون منزلها، لا أذكر كيف تحصلت عليه، وأعاود الإتصال، المرة بعد المرة، فقط كي أسمع صوتها على (الآنصر مشين)، وكان ذلك يكفيني، بل يورثني رضا نادراً، وفرحاً طفولياً أذكر حلاوته إلى هذه اللحظة. كنت أملأ بصورها الجدران، وأتابع أفلامها بولهٍ، وحين سقطت من ذلك العلو الشاهق بلندن وماتت، إنكسر في قلبي شيء كبير.
كانت فنانة بكل ما في الكلمة من معاني. ظلت تلمع على مدى ثلاثين سنة، وتخطف، ببريقها الأخاذ، الأفئدة. ولا أظن أن هناك من حلت محلها منذ اكتشفها الراحل عبد الرحمن الخميسي أواخر الخمسينيات. فسعاد حسني إلى جانب موهبتها الكبيرة تستطيع أن تتحرك بخفة شديدة بين تيارات التعبير المختلفة، إنها التلميذة النجيبة لصلاح أبو سيف وصلاح جاهين، ومن بين عوالمهم الثرية خرجت بأعمال تمتاز بقوة الشخصيات الفريدة التي تقدمها، وخصوصية الأدوار المركبة التي تؤديها، مثل “القاهرة 30″، و”شروق وغروب”، ثم تعال وتفرج عليها ولهانة في فيلم “الحريف”، أو جميلة الجميلات في “خلي بالك من زوزو”، أو “أميرة حبي أنا”؛ تفرج على الأداء السلس الخارج من الروح بطيابة ومفهومية .. واستمتع!
كبرت في تلك الأيام، وكبرت سعاد في دواخلي، وزاد تعلقي بها حتى بعد أن غادرت الحياة. ثم عدت للسودان بعد ذلك بسنوات. وتوالت على البلاد متواليات النحس والخيبة والفقر والقهر المبين، حيث تراجع كل شيء، وتضافرت عوامل الظلم، من كل حدب وصوب، حتى بعد كل تلك الآمال العراض التي هدهدتنا وهدهدناها إثر إتفاقية السلام، وعودة الزعيم الراحل جون قرنق دي مابيور. حاولت مقاومة أحاسيس الكآبة والخذلان والقنوط الممض الذي أصابني ضمن ما أصاب سائر الناس من أبناء وبنات شعبنا، لكن بلا جدوى حقيقية، فكان أن أفضى بي كل ذلك إلى التفكير في مغادرة البلد، بقضها وقضيضها، وتركها للأعراب الذين تشدقوا بقولهم “آمنا”، وهمو، بعد، لم يحسُن ولا حتى “إسلامهم”!
بالصدفة البحتة اتصل بي، وقتها، بعض أصدقائي من مصر، وعلى رأسهم إيهاب عبد الحميد وعلي بدرخان. سألوني لو كان بإمكاني الحضور للقاهرة، ومشاركتهم في تأسيس وإدارة مركز ثقافي يعرض الكتب، ويقيم المعارض، ويشجع المصنوعات اليدوية، وينظم ورش لتعليم الأطفال وتدريبهم على الفنون. طبعاً كانت “نعم” هي الإجابة الفورية، غير المترددة ولو لكسر من الثانية، وسافرت، خلال أيام قلائل، منضماً إليهم في هذا الجهد الفنان.
كان المخرج علي بدرخان قد تبرع بفيلته لهذا الغرض الحميم. فبدأنا في إعادة تقسيم المكان، وجلب الكتب من المعارض، وعمل الإعلانات، وتنسيق الورش. وكان من نصيبي غرفة داخل الفيلا اتخذت منها مكتبي الذي أدير منه شؤون المركز.
إستطاع هذا المركز الوليد أن يكون محطة وريفة من محطات الثقافة المصرية. لكن العجيب أن الفيلا التي أقمناه فيها هي التي كانت تسكنها سعاد حسني مع زوجها علي بدرخان، وأن مكتبي كان، بالضبط، داخل غرفتها .. فتأمل أساطير الواقع!
الخميس
في تشيلي كان الولد الصغير معجباً بالحياة وبالعالم الكبير من حوله. كان للمدينة الصغيرة ذلك السحر الذي تتحسسه الطفولة بعناية ورفق. بصره كان يمتد إلى السماء المنخفضة، فيلمح النجوم العجيبة والشهب، فكبر في قلبه شغف بالفلك. بعد سنوات تم بناء مرصد فلكي ضخم في صحراء بلاده، يحسب تحركات النجوم، ويعد أنفاسها.
يبدأ الفيلم الوثائقي “حنين للضوء” من داخل المرصد الفلكي. تدور الكاميرا حول التلسكوب المهول، تتحسس التروس النحاسية اللامعة، والزجاج الصقيل، بدربة عاشق حصيف. تنفتح على الشاشة مجموعة من الإفادات التي يدلي بها، عن حياة الكواكب ومكوناتها وأعمارها الموغلة في القدم، علماء اتخذوا من الصحراء مقراً يراقبون منه السماء، ويرصدون تاريخ الحياة الكونية عبر العصور الممتدة.
يحتاج ضوء النجوم لملايين السنوات كي يبلغ مآقبنا، فتبصره! سنوات طويلة يعبر فيها رحلته ليصلنا مشهد القبة السماوية التي حين نراها تكون في الحقيقة غير موجودة بهذا الحال! والحقيقة أننا، إذ نبصر السماء وإلتماعاتها، فإنما نبصر الماضي!
عبر شريط الفيلم تتداعى معلومات مكثفة حول المجرة، لكن سرعان ما يرجع بك الراوي/ المخرج إلى حياة الطفولة، وملمس الحياة في المدينة القديمة، في تقطيعات سريعة مبهرة، مازجاً بين عالم الطفولة الحالم وكلام العلماء الصارم، مستعيناً بمشاهد شديدة الجمال لأشجار وريفة، ومقاعد ملونة، وملاءات مطرزة!
حين زار المخرج بارتريكو غوزمان البالغ من العمر 71 عاماً المرصد الفلكي في صحراء أتاكاما في أمريكا الجنوبية، لدراسة تصوير فيلمه حول المرصد والأفلاك، كانت هناك، في نفس الصحراء، مجموعة نساء يجُبن المكان، ويحفرن الأرض شبراً شبراً، بحثاً عن رفات ذويهن وأقاربهن الذين قتلوا إثر التعذيب البشع الذي أخضعوا له أثناء حكم طاغية سانتياغو المتوحش أوغستو بينوشيه، ودفنوا في مقابر جماعية مجهولة! الموتى كانوا طلبة وسياسيين ديمقراطيين بالأساس!
البحث والحنين للماضي/الحاضر كان هو العنصر المشترك الذي جمع بين العلماء الباحثين في السماء والنساء المكلومات اللائي ينقبن جوف الأرض بحثاً عن أشلاء من كانوا، يوماً، أبناءً وأباءً وعشاقاً! وفي تلك الصحراء الممتدة كانت الأعين شاخصة في اتجاهين: السماء، حيث البداية البكرة، والأرض حيث النهاية المفجعة!
لقد استطاع المخرج بارتريكو غوزمان، وببراعة مدهشة، إيجاد علاقة بين حنينه لمدينته القديمة وطفولته الشغوفة بالفلك، رابطاً ذلك بالعلوم الإنسانية، ومبحث الحزن الإنساني الفاجع والعميق الذي يربط بين أهالي ضحايا التعذيب في تشيلي.
الفيلم تم إنتاجه في أكتوبر من هذا العام 2010م، ومدته تسعون دقيقة، وتتخلله، رغم طابعه الوثائقي، مساحات من التأويل، والتناول الدرامي، خصوصاً في المشاهد التمهيدية. ولقد قام المخرج بارتريكو، قبل سنوات، بإنجاز فيلم آخر عن الرئيس التشيلي المنتخب سلفادور الليندي الذي عصفت بحكمه الديمقراطي، عام 1973م، مجموعة من الدبابات، وأرتال من الجنود، بقيادة بينوشيه، الأمر الذي يؤكد بوضوح أنه مخرج صاحب مشروع متكامل، ويعرف تماماً ما يريده من السينما.
“حنين للضوء” محاولة شديدة الحساسية لربط ظواهر العالم في خيط موحد يصلح نسيجاً للحكي، وهو فيلم مليء بالدقة والعواطف والشجن، يحمل صرخة عن آلاف الأهالي الذين يحنون للوقوف على مقابر أبنائهم المفقودة.
الجمعة
في الفترة الأخيرة صدر عن دار ميريت بالقاهرة مجموعة من الأعمال لكتاب وكاتبات من السودان، فقد أخرجت هذه الدار إلى النور ديوان “أنثى المزامير” للشاعرة إشراقة مصطفى، ورواية للكاتب خالد عويس بعنوان “كياح”، وأخرى لحمور زياده بعنوان “الكونج”.
دار ميريت للنشر دار مصرية مستقلة تعنى بطباعة الكتب وإكتشاف الأدباء الجدد، ويعتبر صاحبها كاتب القصة محمد هاشم أحد أهم الكشافين في المشهد الأدبي العربي المعاصر، كما تتميز كتب الدار بجانب طزاجتها وتنوعها بأغلفة شديدة التميز والجمال. ومن أشهر مصممي أغلفة الدار الفنان أحمد اللباد، إبن الأستاذ محيي الدين اللباد رحمه الله، والذي ورث عن والده طزاجة الأفكار وقوة التنفيذ. ومن ملامح الدار أيضاً أنها ليست مجرد مؤسسة للنشر والتوزيع بل يمتد دورها لأكثر من هذا، فمقر الدار بشارع قصر النيل العتيد ملتقى يومي للمبدعين المصريين من مختلف الأجيال. ففي صالونها يتخذ مجلسنا العامر وضعه كل مساء، هناك تعرفت على أحمد فؤاد نجم، والمخرج مجدي أحمد علي، وعم سعيد، وفكري الكاشف، وعم خيري شلبي، وجمع من أصحاب القلوب الحية، والنفوس الطيبة التي صاحبتني لسنوات طويلة في عمري وإلى الآن، فكان منابي أن ازداد ولعي بالحياة، ولمست من تفاصيل الدنيا الكثير من الأشياء النادرة.
تبدأ الجلسة بالتماسي، والتحايا، ومد حبال الكلام بهدوء، ثم تضيق الجلسة، رويداً رويداً، لتكون، على منتصف الليل، وكأنها حلم .. حالة ناعمة من الأنس، وترديد جماعي لأغاني نحفظها جميعاً، وضحك وكركرة، وكلام مفهوم حول الشعر، والسياسة، واللي بالي بالك، ودائماً مايدخل علينا ضيف جديد من ليبيا أو العراق أو مصر نفسها، فنغدق عليه من الترحاب، والمودة، والأنفاس العَمرانة، إلى أن يطيب له المقام، ويستريح في مجلسه، فما يلبث أن يكون كأنه صديق طفولة قديم غيبه عنك الترحال والسفر.
لا تقتصر قعدات ميريت على الفرفشه، فمن وسطها خرجت مبادرات مهمة في الواقع السياسي والثقافي المصري، مثل “حركة كفاية”، و”أدباء من أجل التغيير”، وما إلى ذلك. ولمحمد هاشم دور إنساني كبير في جمع شمل هذا الخليط من البشر المتميزين، الذين ما أن يدخل الواحد منهم عتبة الدار، إلا ويلفه انسجام فريد فيه من الإلفة ما لا يوصف، وما يجمع الناس على أرضية من الرحابة، والسهولة، وحب الحياة، واحترام الآخرين.
تخرج من ميريت على أوائل الفجر ومزاجك رائق، وضميرك منبسط. تنزل إلى الشارع النائم فتغمرك أصوات الأذان. تركب مع عم مسعود صاحب التاكسي الذي ينتظر دائماً، وأنت تستمع إلى الشيخ مصطفى اسماعيل بتسجيل الإذاعة منبعثاً من الراديوهات الصغيرة على خلفية الباعة الذين يفتحون أفواه الرزق بحنان مبكر. تملأك سورة مريم بهدوء حنون، فتنام في الكنبة، وعلى وجهك إبتسامة خفيفة.
السبت
(أسرار الصندوق الأسود) كتاب عجيب غريب، ووجه العجب والغرابة فيه أنه يخلف لديك أشتاتاً متنافرة من الانطباعات والأحاسيس! تدخل بين صفحاته فتجد نفسك أمام مقتطفات من سير ذاتية غامضة، وتحقيقات غميسة، مثلما تجد نفسك وجهاً لوجه أمام أناس رسموا جزءاً كبيراً من لوحة السبعينيات والثمانينيات من القرن المنصرم، عز إشتعال الحرب الباردة والحروب المتاخمة لها: وديع حداد، كارلوس، أنيس النقاش وجورج حبش. ينطلق مؤلف الكتاب غسان شربل خلف حكايات الكفاح المسلح التي وسمت نضال الماركسيين والقوميين العرب، آنذاك، من أجل القضية الفلسطينية. البدايات، تنظيم الخلايا، تقسيم المجالات، التمويل، تكوين كتائب الفدائيين، العمليات المسلحة، خطف الطائرات، الخلافات .. ثم إنهيار الإتحاد السوفيتي والكتلة الشرقية، وتضعضع أوضاع هذه التكوينات الثورية، وانكشاف ظهرها، إلى أن تصل إلى تلك النهاية الدرامية حين سقط هؤلاء الناس، واحداً تلو الآخر في براثن الموت، أو الإغتيال، أو السجن، وفي الغالب إثر صفقات دولية مريبة ساهم فيها أهلنا بضراوة وكأن شيئاً لم يكن!
حين قرأت الكتاب وجدت نفسي أمام لغز وجداني لم أستطع حله .. مجموعات ترفع صوتها المسلح ضد الإمبريالية العالمية والاحتلال والصلف الدولي، وبالمقابل مجموعات من البشر، أغلبهم من المدنيين، راحوا ضحايا لهذا المنهج! ووجدتني منذهلاً لا أعرف الفرق اليقين بين الإرهاب والنضال المسلح! ربما يكون من الأسهل التعامل مع الأمر على أنه دراما حقيقية، نستخلص منها العبر دون الحُكم على هذا الجانب أو ذاك.
لكنني، في الوقت نفسه، شديد الإنجذاب للتأمل في أحوال هؤلاء الناس الذين رغبوا في تغيير العالم بالقوة المادية، والعقيدة الصادقة، غير أن المطاف انتهى بهم منسيين في معتقلات العالم دون أن يستدعي التاريخ شهادتهم!
ولكم حزنت، وإن كنت استمتعت بالحبكة والتنفيذ الفني، إثر مشاهدتي لفيلم (كارلوس) .. جلست لخمس ساعات متوالية أشاهد الفيلم الذي عُرض أثناء فعاليات مهرجان ميونيخ في دورته الأخيرة. كانت مغامرة أن تغرق في ظلام القاعة وضوء الشاشة لأكثر من 300 دقيقة لتشاهد رؤية وتأويل المخرج أوليفر أساياس لحياة هذا الشاب الفنزويلي الذي انضم لقوات وديع حداد (أبو هاني)، ليصير بعدها رقماً في الكفاح المسلح من أجل تحرير فلسطين ووقف المد الأمريكي في المنطقة.
الفيلم برغم صقالته وحسن تدبيره للعناصر السينمائية من سيناريو وتصوير وإخراج ومونتاج، إلا انه لم يكن بحثاُ فالحاً في سيرة كارلوس، وافتقد الكثير من المصداقية حيث أظهره كمجرد متمرد، وزير نساء، وخمرجي يعب الخمر عباً آناء الليل وأطراف النهار! الأكيد عندي أن شخصاً مثل إيليتش رامبريز (كارلوس) كانت حياته مرهونة بقضية ما، وهذا الرهان يوجب سيرة مختلفة عن كل هذا الاستهتار المعروض بالفيلم! لكن المخرج نفسه أكد لي، في لقاء جمعني به على هامش المهرجان، أنه لم يقصد تحقيق فيلم وثائقي، وأنه اكتفى بشخصية كارلوس كنواة لفيلم درامي طويل .. فلا بأس!
الأحد
عندما كنت طفلاً، كان عمي يمسكني من شحمة أذني ويقول لي:
“لما ولدوك فتحنا ليك شحمة أضانك دي ودخلنا فيها زرارة”!
طبعاً تعرفون المزاح الثقيل الماسخ الذي يمزحه الكبار مع الصغار، وإن بحسن نية! المهم أنني ظللت، ولسنوات بعد ذلك، كلما أقف أمام المرآه أتحسس شحمة أذني محاولاً تلمس الزرارة، ثم ما لبثت أن انقطعت، بمرور الزمن، وبحكم الملل، عن هذه العادة المريبة، ضمن أشياء أخرى كثيرة.
لكن، قبل سنوات قلائل، كنت أقود عربتي مبرطعاً في ليل الخرطوم المسكين، ويبدو أنني دخلت عكس الإتجاه المسموح به، فإذا بعسكري يخرج لي من ظلام ذلك الليل الدامس، يوقفني، ويطلب أوراقي. فناولته رخصة القيادة. قرأ إسمي بتمهل، وبصوت عال، وهو يضغط على الحروف، حرفاً حرفا، ثم نظر في عيوني ملياً، وفجأة سألني:
“وين الجنسية”؟!
فاستغربت كون الأمر لا يستدعي جنسية والعياذ بالله. لكنه لم يمهلني كي أتشدق باستغرابي طويلاً، إذ عاد يقاطعني سائلاً، هذه المرة، بسلطوية ذات لون وطعم ورائحة:
“جنسك شنو يا زول”؟!
رددت على الفور:
“سوداني ..”!
فنظر إليَّ بمكر، ومدَّ يده عبر شباك السيارة، وأمسكني، لدهشتي، من شحمة أذني قائلاً:
“في سوداني أضانو عاملة كده”؟!
ومن يومها صرت، كلما تعرفت على شخص، أنظر إلى أذنيه، وألمس شحمة أذني بهدوء، لأتأكد من أن الزرارة في محلها!
* قاص ومصوِّر وصحفي وكاتب سيناريو ومخرج سينمائي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.