الدعم السريع يعلن السيطرة على النهود    وزير التربية والتعليم بالشمالية يقدم التهنئة للطالبة اسراء اول الشهادة السودانية بمنطقة تنقاسي    سقطت مدينة النهود .. استباحتها مليشيات وعصابات التمرد    عقار: بعض العاملين مع الوزراء في بورتسودان اشتروا شقق في القاهرة وتركيا    عقوبة في نواكشوط… وصفعات في الداخل!    الهلال يواجه اسنيم في لقاء مؤجل    تكوين روابط محبي ومشجعي هلال كوستي بالخارج    عثمان ميرغني يكتب: هل رئيس الوزراء "كوز"؟    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    سلسلة تقارير .. جامعة ابن سينا .. حينما يتحول التعليم إلى سلعة للسمسرة    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    من رئاسة المحلية.. الناطق الرسمي باسم قوات الدعم السريع يعلن تحرير النهود (فيديو)    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    إعلان نتيجة الشهادة السودانية الدفعة المؤجلة 2023 بنسبة نجاح عامة 69%    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    ترامب: بوتين تخلى عن حلمه ويريد السلام    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    ارتفاع التضخم في السودان    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التعددية الحدودية “التخومية” في السودان
نشر في حريات يوم 29 - 11 - 2010


للدكتور علي المزروعي)
ترجمة الطالب : حاتم المقداد :
لعل هناك شيء من المفهوم الشائع عن السودان كونه يشكل جسراً مهماً، يتأتى هذا الفهم من منظور أن السودان يمثل أحد الجسور في أفريقيا، أفريقيا الزنجية من جهة وأفريقيا العربية من جهة أخرى.
لكن في الواقع يمكن توظيف واقع السودان وتطبيقه على النموذج الأفريقي حيث بالمستطاع إجراء مقارنات هامة، إذ يمكن لشخص ما أن يرى السودان (كجسر) يربط ما بين أفريقيا الناطقة بالعربية، وأفريقيا الناطقة بالإنجليزية، بين المسيحية والمسلمة، أيضاً بين إفريقيا المستقبلية ذات التجانس الجماعي والأخرى ذات الشق الإثني العميق، وأخيراً بين غرب أفريقيا كوحدة ثقافية وشرقها.
على الرغم من ذلك فإنه يجوز إستخدام كلمة (جسر) في حالة تطبيقها على العلاقات الخارجية الأفريقية العربية، لكن من الخطأ الإعتقاد بأن السودان يلعب دوراً توحيدياً بين أفريقيا السوداء مع شمالها غير الأسود حيث نجد أن العرب في الشمال الذين يرغبون في التوحد لا يلجأون الى الخرطوم كونها الطريق المؤدي الى ذلك التوحد، ولا حتى الأفارقة الزنج حينما يودون وضع حدود لتأثيرات الثقافة العربية لا يأتون للحكومة السودانية لأخذ المشورة والإنتفاع من مكاتبها، إن فهم السودان (كجسر) فهم مُدَّعى للغاية، إذ أنه لا يجسر الفجوة بين أفريقيا السوداء وإفريقيا العربية، ولا يلعب كذلك دوراً في الربط بين هذين القطاعين.
عليه جاء تفضيل إستخدام مصطلح “تخمية / حدودية” ولعل فهمنا للمصطلح لا يتأتى كما أتى به “بارك” وبقية علماء الإجتماع اللاحقين، إن المعنى الإجتماعي يشير الى وضع الأغلبية والإنحراف الإجتماعي، الرجل “التخمي / الحدودي” هو ذلك الرجل الذي يحوم في الحدود الفاصلة بين من هم في الداخل ومن هم في الخارج، حيث يجري إمتصاص سلوكه وشكواه بواسطة المجتمع المهيمن.
لعل فهم الكاتب (للتخمية/ التخومية) إرتبط بعلاقة مشتركة مع فهم الإجتماعيين للمصطلح، مع التأكيد على عدم تضمين الإنحراف فيما يتعلق بحالة السودان، أو عدم قبول السودان بواسطة العرب أو الأفارقة، إن إستخدام (تخمي) يشير الى موضع وسطي بين قطاعين هامين في أفريقيا. وقد تعطي أحياناً هذه الوضعية السودان (هوية مزدوجة) كدولة أفريقية من منظور عرقي، وعربية من منظور ثقافي، لكن بصورة عامة فإن مفهوم (تخمية) يشير الى الحالة التي تموضع فيها السودان على ذلك الحد الفاصل بين عالمين أفريقيين بارزين، بحيث تتعلق السمات المشتركة الأفريقية والعربية على تلك (التخوم).
العرب كأفرو – آسيويين :-
ترتبط حدود السودان بين العرب والأفارقة بحدود العرب انفسهم مابين افريقيا وآسيا فالعرب يتحدون التصنيف القاري ويتوزعون على جانبي ما يفصل إفريقيا عن آسيا.
في ايامه محدودة الأفق وضيقة التفكير وقبل انفصال مصر وسوريا اكد في مرة من المرات الرئيس النيجيري ( اولو ) مصرحاً : (إن الجمهورية العربية المتحدة المخلوق المدلل لعبد الناصر والتي لها قدم في افريقيا وأخرى في الشرق الاوسط، ماهي إلا النقيض التام لمجتمع افريقي عملي) ولعل هذا النمط من التفكير يرتبط بالعاطفة الشيء الذي جعل نكروما يؤكد على ( لا يوجد اي حدث في التاريخ يمكنه النجاح في تحويل بوصة واحدة من تراب افريقيا إلى امتداد قارة اخرى)، إذ كان (نيكروما) يعتقد انها نفس الأفكار المؤيدة للدمج العنصري والتي كان تدعيها وتطالب بها فرنسا حول الجزائر، أو البرتغال حول أنغولا وموزنبيق بإعتبارهما أجزاء منها، لكن هناك سؤال مهم:
هل يمكن اعتبار أن منطقة شمال إفريقيا تمثل إمتداداً غربياً لشبه الجزيرة العربية ؟ :
الإجابة على هذا السؤال يمكن ان تعتمد على نسبة العلم العربي في افريقيا الآن، وعلى نسبة العدد المتبقي خارجها، ففي أيام الفتوحات العربية في القرن السابع عشر بالفعل كان هناك إمتداد لشبه الجزيرة العربية إلى الهلال الخصيب وأفريقيا، لكن ألم يتغير الآن توازن الأكثرية بين القطاعات المختلفة ؟! الا يساوي هذا الشيء نفس التغيير في العلاقة التي حدثت بين بريطانيا والولايات المتحدة؟! في الوقت الراهن نجد أن المملكة الأم قد حُجب نورها (كإمبراطورية لا تغيب عنها الشمس) والآن باتت بريطانيا مهددة في أن تصبح إمتداداً للولايات المتحدة بدلاً عن العكس .
هل توجد علاقة تشابه جزئي أو تناظر، وهل يحفظ كل ذلك في اطار العلاقة بين افريقيا العربية وبقية العالم العربي ؟
بالتأكيد يحفظ ذلك في ما بين شبة الجزيرة العربية من جهة وافريقيا العربية والهلال الخصيب متحدين من جهة اخرى. إن دول شبه الجزيرة العربية الأصلية خاصة السعودية التي كان منبتها غزوات وإجتياحات القرن السابع هي الآن محجوبة عن التأثير العربي المتبادل، وربما وجد ذلك بين العراق وسوريا.
لكن في سياق حصر افريقيا يتوجب علينا وضع شبة الجزيرة العربية والهلال الخصيب سوياً وتمييزهما عن افريقيا العربية على الجانب الآخر من البحر الأحمر، عند قيامنا بذلك نجد ان توازن الأكثرية ينحاز الى جانب افريقيا كما اورد بطرس غالي في كتابه المشهور سنة 1963 ( من الواجب عدم نسيان ان 60% من المجتمع العربي و 72% من الأرض العربية في افريقيا ) .
بكلمات اخرى اصبح من السهل إعتبار بقية العالم العربي بمثابة امتداداً لأفريقيا العربية بدلاً عن العكس، لكن اياً كان توازن الاكثرية تبقى القضية الأساسية هي ان العرب كعرق يصعب تصنيفهم كأسيويين او افارقة عبر مصطلحات حصرية وفي الواقع حتى الوحدة الأفريقية نفسها اصبحت متناقضة لأنها تتضمن العرب، فالوحدة الأفريقية كانت في وقت ما محصورة قارياً ( العضوية محصورة على البلدان الأفريقية فقط ) وفي نفس الوقت كانت تمثل الرابط بين جنوب الصحراء والدول ذات القومية الأسيوية، ان (تخومية) العرب كأشخاص لا هم اسيويون تماماً ولا هم أفريقيون تماماً كانت حاسمة في إعطاء حركة الوحدة الأفريقية صفة التناقض كونها مركزية إفريقية في النوايا وإفريقية – آسيوية في بعض نتائجها.
من خلال مشاهداته قام توم موبويا بوضع إصبعه على التناقض التالي :
(من خلال خبرتي في مؤتمرات الوحدة الأفريقية وعبر مشاهدتي لإهتماماتهم بقضايا الوحدة الأفريقية فإنني قد توصلت للإعتقاد بأن الغالبية العظمى من عرب شمال افريقيا ينظرون لأنفسهم كأفارقة ومن جانبنا فإن هناك تزايد في الإعتراف وتقبل العرب كأفارقة لكن في حالة حدوث عداوة بين افريقيا واسيا فمن المؤكد سيكون هناك إنعكاس لهذا الصراع بين عرب شمال افريقيا والأفارقة جنوب الصحراء )
السودانيون (كعرب – أفارقة) :
إذا كان العرب يشكلون الرابط الأكثر أهمية بين إفريقيا وآسيا، فإن السودانيون يشكلون أهم نقطة إتصال بين عرب إفريقيا وإفريقيا الزنجية، أولاً هناك الظاهرة الأكثر إمتثالاً والتي تتمثل في التمازج العرقي والتزاوج القبلي في الأجزاء الشمالية للسودان مقترنة بحقيقة أن هناك نسبة كبيرة من عرب السودان هم في الحقيقة زنوج مستعربين بدلاً عن ساميين عرقاً كون أن العروبة بالنسبة لعدد كبير منهم هي إكتساب ثقافي بدلاً عن الوراثة.
عليه فإن السودانيون أكثرمن أي مجموعة عربية أخرى هم من أعطوا العرب بعد زنجي حاسم، إن التمايز والإختلاف بين العرب وإفريقيا الزنجية ليس ثنائي التفرع بل له تعقيد السلسلة المتصلة، وهذا كان سبباً جعل منظمة الإتحاد الإفريقي متعددة الصبغات، بدلاً عن كونها تعطي تقسيماً واضحاً بين إفريقيا السوداء وما تسمى بإفريقيا البيضاء في الشمال.
كما جاء من قبل أن العرب يتحدون التعميمات القارية، بذلك يمكننا القول أنهم يتحدون التصنيفات الصبغية المباشرة، إذ أنهم يتفاوتون في اللون عن عرب سوريا البيض، وعرب حضرموت السمر، كذلك عن عرب السودان السود، وحتى في أفريقيا فإن هناك تدرج في اللون من الأبيض الى الأسود لكن لا يمكن توزيع كل لون على منطقة محددة، عليه فإن طابع السواد في العروبة يأتى من السودان الذي قدم حقيقة أن سواد العروبة يتضمن بعداً زنجياً، ولعل مثل تلك الحقائق تؤثر على الزنوج الأمريكيين في رحلاتهم الى أفريقيا.
في أمريكا يمكن إجراء تقسيم بين الرجل الأبيض والزنجي بصورة أكثر تشديداً ووضوحاً، إذ من المستحيل التفكير في أمريكي (أنجلو سوكساني) ذو بعد وأصول زنجية، حيث كانت المجموعة المسيطرة هناك أكثر إصراراً على نقاوتها، لكن نجد في أفريقيا الإتصال بين العرب والأفارقة أكثر سلاسة، وقد ساعد السودان بصفة خاصة في هذا الأمر، عليه فإن (دوبيوس) الأمريكي الزنجي العظيم الأب الروحي المؤسس للوحدة الأفريقية أورد مشاهدته التالية : (إن أي شخص زار السودان يعلم بأن غالبية العرب الذين قابلهم داكنو البشرة، وأحياناً سود، ولهم ملامح زنجية، وشعر رأس زنجي التركيبة، عليه فإن مصطلح – عرب- يكون مضللاً في إفريقيا لأنهم قريبين جداً ومتماثلين مع الزنوج، مما يحد من وضع خطوط حدودية فاصلة بينهما)
لكن التمازج العرقي والتبادل الثقافي في الشمال ليس العامل الوحيد الذي يجعل السودان نقطة الإتصال الوحيدة بين العروبة والزنجية، فهناك التقسيم بين شمال البلاد وجنوبها الشيء الذي خلَّف شقاً لم يتعرب ولو ثقافياً.
بالتأكيد إن السودان ليس معرباً تماماً كما يدعي ويفضل أحياناً بعض شماليي السودان، فوفقاً لإحصاءات 1955 – 1965م تم تقدير أن من بين الثلاثة عشر مليون نسمة (40% عرب، 30% جنوبيون، 13% من الغرب، 12% بجا ونوبة، 3% نوبيون) والبقية أجانب ومشتتون، وعند تطبيق معيار اللغة وجد أن (52% يتحدثون العربية، 48% يتحدثون لغات أخرى) وبمرور السنوات على ذلك الإحصاء تكون قد حدث تغيرات كثيرة، وبالرغم من أن السودان غير عربي تماماً إلا أن مايهمنا هو بُعد الإدراك لدى الذين يمتلكون التأثير، فالشماليون والجنوبيون عرف عنهم الغلو في المبالغة في وصف الإختلاف بينهما، ففي كلمة (أقري جادين) رئيس حزب سانو أمام مؤتمر الدائرة المستديره جاء (يتفرع السودان بصورة حادة الى منطقتين بارزتين من ناحية المساحة الجغرافية والأنظمة الثقافية والمجموعة العرقية، في شمال السودان عرب هجين توحدهم لغة وثقافة مشتركة، وينظرون بتطلع الى العالم العربي لأجل الإلهام الثقافي والسياسي، على صعيد آخر ينتمي سكان جنوب السودان الى مجموعات عرقية من شرق أفريقيا، إنهم لا يختلفون عن العرق العربي الهجين من حيث المنشأ، أو الأنظمة السياسية ولا في أي نتيجة يمكن تصورها، لكن لا يوجد مشترك بين الإقليمين المختلفين من حيث المعتقدات أو المصالح، بل لا توجد ثمة مؤشرات محلية للوحدة، وفوق ذلك فشل السودان في تكوين مجتمع موحد) وهي صيغة تتسم بالغلو فيما يتعلق بالإختلافات بين شمال السودان وجنوبه، لكن حينما نناقش السودان من زاوية (تخومية) فإن هذه المغالاة في حد ذاتها لها إستخدامات وذلك لأنها تؤكد على أنه في بلد واحد وفي نفس هذا البلد توجد مساحة واحدة زنجية تماماً، ومساحة أخرى عربية تماماً. إن تطويق هاتين الهويتين العرقيتين في داخل كينونة أو وجود إقليمي أو محلي واحد هو ذات نفسه تقريب لمفهوم تخومية العرب الأفارقة للسودان، وإذا ماقمنا بالنظر الى السودان كإزدواجية أو كثنائي التفرع على غرار النظرة التي يدعيها (أقري جادين)، أو نظرنا اليه كسلسلة عرقية متصلة، أو كمزيج عرقي متبادل، أياً كان، فإن البلد تظهر للعيان كنموذج لحالة هوية ثنائية عربية أفريقية.
الحدودية والتخمية العقائدية (الدينية) :
حينما نشير الى إختلاف ثقافي بين شمال السودان وجنوبه فإن الإختلاف يتضمن بعداً دينياً حتمياً، إذ لا يوجد بلد إفريقي آخر إقترب من تعريف الخلاف بين المسيحية والإسلامية مثلما فعل السودان. بالتأكيد إن الحرب الأهلية في نيجيريا يتم تفسيرها أو تأويلها أحياناً الى مصطلحات وتعابير دينية مُستحدثة، بمصطلحات النشطاء المسيحيين (الأيبو) الذين يعانون من غضب مسلمي الشمال المتعمقين والمحافظين، والذين سبق وأن ذلوا وإهينوا من قبل، إن السذاجة في تفسير وتأويل الحرب الأهلية النيجيرية بهذه التعابير والمصطلحات يمكن كشفها وعرضها بسهولة شديدة لدرجة أن قلة من كُتاَّب الأعمدة الصحفية يمكنهم الإصرار على تلك الحرب، إن الأغلبية من الجنود الفيدراليين غير مسلميين، وبالتأكيد أيضاً رئيس الحكومة الفيدرالية، في الوقت الحالي ينحاز الإقليم الغربي لنيجيريا الى جانب الحكومة الفيدرالية وهذا الإقليم على نحو قاطع مسيحي في تركيبته وبنيته السلطوية ومن حيث القوة.
لكن السذاجة في تفسير مشكلة السودان بمصطلحات وتعابير دينية ليست من السهولة كشفها، فمعظم الإعلام السلبي الذي لاقاه السودان من عدة بلدان إرتكز على الجزئية التي تفترض أن المقاومة والمعارضة الجنوبية أثيرت كرد فعل للإضطهاد الديني، الأرقام التي توضح الطوائف الدينية المختلفة في الجنوب تكشف عدم صحة كون الجنوبي مسيحي في الأساس، ففي العام 1955م تم تقرير أن هناك( 12000 – 23000 جنوبيين مسلمين، 16500 – 17500 مسلمين شماليين مقيمين في ثلاث ولايات جنوبية، 25000 – 30000 بروتوستانت، 180000 – 200000 كاثوليك) ربما تكبُّر وعجرفة الإعلام المسيحي وحدها يمكنها وصف في حالة وجود 10/1 مسيحي فقط من السكان يمكن وصف أولئك العشر كونهم مسيحيون بالأساس.
ما أعطى سياسة الحكومة مظهر المُضطهِد الديني هو طرد المبشرين والإجراءات المجازة بأن تكون المدارس التبشيرية في حالة تحكم بواسطة وزارة التربية والتعليم وهو مبدأ قامت بتبنيه بأشكال مختلفة حكومات أفريقية أخرى منها حكومة يوغندا، وأيضاً فيما يتعلق بقضية طرد المبشرين فقد كانت تحدث في عدة بلدان وأماكن عدة في أفريقيا. عليه من الواجب التفريق بين (التسامح الديني) بمعنى (السماح للمواطنين) بممارسة معتقداتهم الشخصية، و(التسامح الديني) بمعنى (السماح للمبشرين) من الخارج بأن ينشروا تلك العقيدة، بمقياس إستثنائي (ثلثي المبشرين في السودان كانوا إيطاليين والبقية خليط أوروبي من البروتستانتية المهيمنة).
صحيح أن ثمة مهددات في المشاعر المعبر عنها من قبل الشماليين تشير أحياناً الى أن التقسيم بين جزئي البلاد يكفي، ولا حوجة لقيام مجتمع مسيحي بداخل المجتمع الإسلامي القائم، وهذا التفكير ليس مجرداً من المعنى إذا تم تقييمه من وجهة نظر المطالبة بدمج أو إجراء تكامل قومي، النقاش هنا يمكن أن يكون على شاكلة إذا توجب تغيير الطرق والتقاليد الإفريقية للجنوبيين فمن الأفضل إجراء تغير في إتجاه التجانس مع الشمال، هذا يعني تعريب وأسلمة بدلاً من (طلينة) وتعابير دينية، وعليه يصبح من المنطقي القول بأن السياسة الحكومية ملزمة بتقليص الفروق والإختلافات بين الشمال والجنوب ذلك يقضي بتدريس التلاميذ المسلمين في المدارس الجنوبية.
أحياناً يفترض المعلقين الغربيين أنه بينما تكون خسارة المبشرين المسيحيين وسط القرويين الأفارقة البسطاء لعبة نزيهة، فإن جعل خسارة المبشرين المسلمين يقترب أحياناً من مفهوم الإضطهاد الديني، ومنه فإن الفكرة القديمة المعنية بجعل ولايات السودان الجنوبية حكراً على على المسيحيين أصبحت مهددة كما وضعها جيمس كولمان في إشارة الى نزعة غالبة في الموقف الغربي : (إن إفريقيا الإستوائية تحمل ميلاً وإنجذاباً نحو المبشر المسيحي، إن الوثنية هي هدفه، ومن بين كافة المجموعات البشرية عرف الأفارقة كونهم الأكثر وثنية)
تلك السياسات فرضت أبعاداً إحتكارية في الولايات الجنوبية من السودان، إذ تم صد الإسلام بصورة متعمدة لدرجة الحد من تشجيع التسمية بالأسماء الإسلامية والزي الإسلامي.
كان التجار في إفريقيا يمثلون أكبر أدوات التكامل القومي ولعل إنتشار بعض اللغات الإفريقية المهمة والسمات الأخرى مردها للتجار أيضاً، في السودان تم إتخاذ موقفاً قاطعاً كما عبر عنه “السيد نيوبولد حاكم كردفان 1932- 1938م”، ببساطة فظة حينما قال : (إننا لا نريد إدخال التجار العرب الشماليين)، وبالنظر الى تلك الرغبة، ومن أجل تجسير الهوة بين الشمال والجنوب عند خروج الحكم البريطاني فقد سعى الشمال لإحتكار التعليم الذي تمتعت به الإرساليات في الجنوب لفترة طويلة، إن تصميم نيوبولد أكدته الحروب التي إندلعت عشية الإستقلال حيث سعى المتمردون الجنوبيون لفصل الإقليم ككل، حيث لم فُقدت أي طريقة لضمان الإستقلال الذاتي وتقرير المصير.
صحيح ان الشماليين في حماسهم المفرط انجرفوا نحو التكامل والإندماج، وهناك عدة ارساليات تبشيرية ابلغت بأنهم منعوا من علاج المرضى بالرغم من عدم وجود وحدات صحية بديلة للسكان المعنيين، وهناك أيضاً تقارير غريبة حول مبشريين مسيحيين توقع انهم درسوا علوم الإسلام بعد ذلك القمع العسكري التام الذي دام لعقد من الزمان الذي كان أحيانا قاسي وغير اخلاقي، إن عملية تكامل الجنوب بالشمال لم يحدث بها اي تقدم في العقد الأول بعد الإستقلال، حتى انه يمكن وصفها كحالة (خطوتين للأمام ، خطوة للخلف) .
بينما يتم تصنيف السودان ويوغندا سوياً في هذه القضية ككينونة تاريخية واحدة، فإن هناك نوعاً من (السلاسل المتصلة) يُظهر نفسه، ففي يوغندا لعب الدين دوراً في تعقيد القضايا السياسية لعدة أجيال. إذ تنافس البروتستانت والكاثوليك والمسلمين فيما بينهم من اجل الحصول على تأثير أكبر في شؤون الدولة والأمة، لقد أفترض ان الإسلام في وقت ما في الفترة السابقة مثَّل إحدى القوى موحِّدة بيوغندا، قوى وحَّدت الكاثوليك والبرتستانت في وضع سياسي ومكانة واحدة، كما تنافست منذ عهد قريب حكومة عربية والمبشريين المسيحيين للتحكم في جنوب السودان، كذلك فعله المستوطنون العرب والمهاجرون الأوروبيون ودخلوا في صراع من اجل السيادة في يوغندا في نهايات القرن المنصرم .
وفي حديث لمسؤول بشركة ( بريطانيا- شرق الهند ) في 1888 م حينما كان تأثير العرب مهيمناً على يوغندا جاء : ( هذه الأحداث تضع التساؤل الأعظم الآن : من الآن فصاعدا هل ستنتصر القوى العربية أم الأوروبية في أفريقيا الوسطى ؟) ربما جاء ذلك في الفترة التي كانت فيها درجة التفاهم والصداقة بين البروتستانت والكاثوليك في أقصى حالاتها، حينما أتى لوغارد تمكَّن من حشد الجيوش المسيحية من الطائفتين، ووضع حداً للتهديد الإسلامي وقوة الحزب الإسلامي، لكن بفعلته تلك قام (لوغارد) بإذابة وتفكيك آخر رابط بين الكاثوليك والبروتستانت.
بمختلف الأشكال كان التقسيم بين البروتستانت والكاثوليك يصر ويثابر إلى الإستقلالية، وبالطبع فإن بعض الأحزاب السياسية في يوغندا من المفترض تم تنظيمها على اساس الولاء الطائفي، عليه فإن (الحزب الديمقراطي) تحالف مع الكاثوليك لجذب التأييد الواسع للناخبين الكاثوليك، والحزب في بداياته أيضا كان يدعمه بعض قادة الكنيسة الكاثوليكية. على الصعيد الآخر كان (المؤتمر الشعبي اليوغندي) إلى حد ما متحالف مع البروتستانت، لكن هذا التحالف كان اقل سهولة في إمكانية إثباته بالمقارنة بتحالف الديمقراطيين والكاثوليك، وحدثت زيادة في الوضع بنشوء (كاباكايد) وهو حزب ثالث وأساس إنتسابه ليس طائفياً بل إقليمياً، وهو وحده المكرِّس للحفاظ على الهوية الإستقلالية الذاتية الأبية لإقليم بيوغندا، وبداخل هذا الإقليم نفسه كان البروتستانت هم النخبة الطائفية المتحكمة في المؤسسة والكاثوليك أقل إمتيازاً، لكن سياسياً فإن البيوغنديين كانوا وطنيين وقوميين أكثر من كونهم بروتستانت أو كاثوليك في إلتزامهم المتطرف.
في الميدان السياسي كان المسلمون أقل أهمية بكثير بالرغم من أن تأثيرهم كان يعزز أو يعطي دفعة أحياناً من أجل إكتساب الدعم لقطاع مسيحي على الآخر أو لحزب سياسي على الآخر.
في شكل من أشكال المبالغة سبق وأن سميت يوغندا بإيرلندا أفريقيا نسبة لإنقسامها مابين الكاثوليك والبروتستانت الغيورين على السواء، لكن في الواقع فإن البعد الديني أقل ظهوراً بكثير وأقل تعمقاً إذا ماقورن بإيرلندا، ومع ذلك فإنه يمكننا الحديث عن يوغندا كونها في جزئية دولة ذات إختلافات تعصبية بين طائفة مسيحية وأخرى في حقل الإجتماع السياسي.
أيضاً إذا نظرنا الآن الى شمال السودان نجد في الملعب سياسة تعصبية، والإختلاف في هذه الحالة بين طوائف إسلامية بدلاً عن مسيحية، حيث كان لتلك التقسيمات أثراً واضحاً منذ الإسنقلال، وحتى القادة السياسيين الذين رفضوا تدخل الدين في السياسية وجدوا من الناحية النفعية إستخدام النقيض، لذلك إقترنوا بأحد (الأسياد) من أجل إكتساب التأييد الشعبي، وعندما نشأت الجبهة الإستقلالية تمت مساندتها من قبل السيد عبد الرحمن المهدي زعيم الأنصار، بذلك دعمت أطروحات حزب الأمة، أما خصومهم فكانوا في الجبهة الوطنية ذات الدعم من زعيم طائفة الختمية الميرغني الذي كان يفضل عدم النأي عن التصريح الجماهيري في موضوع السياسة على الرغم من رأيه الداعم للوحدة مع مصر.
المعنى مما سبق أن السياسة في السودان خاصة بعد الإستقلال كانت تمثل تنافساً طائفياً بين كتلتين إسلاميتين، وهي ذات السياسة في يوغندا في الفترة ماقبل وبعد الإستقلال بين الطائفتين المسيحيتين، مابين شمال السودان ويوغندا وجدت ثلاثة أقاليم جنوبية تشكل الى حدٍ ما خط المواجهة بين الحكومة الإسلامية والإرساليات التبشيرية، والى الشمال منها وجدت سياسة الإسلاميين في مواجهة الإسلاميين (الإسلاميين بعضهم ضد بعض) وفي الجنوب بإتجاه يوغندا وجدت سياسة المسيحيين في مواجهة المسيحيين (المسيحيين بعضهم ضد بعض)، ولعل تلك الأقليم الجنوبية الثلاث رمزت الى المواجهة الأكثر درامية بين السلطة الإسلامية المحلية والمسيحية المغتربة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.