(1) قد يبدو أن تزامن قرار البرلمان الفرنسي بتجريم إنكار إبادة الأرمن وقرار الاتحاد الأوروبي وقف واردات النفط الإيراني مع تشديد العقوبات على البنك المركزي الإيراني، ثم وعيد الرئيس الأمريكي باراك أوباما لإيران، قد تبدو كأنها مصادفة. ولكن المتأمل بصورة أعمق يرى أن هناك خيطاً يربط بين هذه التطورات، وهو مصلحة إسرائيل والضغوط الإسرائيلية. (2) مجازر الأرمن لم تقع الأسبوع الماضي، وقد أوشك أن يمر عليها قرن من الزمان. ومن تولوا كبرها ذهبوا واندثروا مع التاريخ، وقد تولى ناشطو (أو إرهابيو) الأرمن اغتيال معظم القيادات التركية المتهمة بالضلوع في تلك المجازر. وقد ‘أبيدت'، أو بادت، الامبراطورية العثمانية التي تولت كبرها. فلماذا فجأة يستيقظ الضمير الفرنسي (حتى لا نقول محاولات ستر العار الفرنسي المتمثل في التعاون مع مذابح النازية ثم التستر على كبار مجرميها حقباً من الزمن) ويقرر أن الوقت حان لتحويل الإيمان بالمذابح في مقام أكبر من الإيمان بالله، لأن من ينكر وجود الله لا يعاقب في فرنسا؟ (3) يعزو البعض هذا الانقلاب إلى مساعي ساركوزي اليائسة لكسب أصوات الأرمن في فرنسا، وهي حجة ضعيفة، لأن في فرنسا خمسة ملايين مسلم مقابل ثلاثمئة ألف أرمني. ومخاطر أن تصوت أعداد كبيرة من المسلمين ضد ساركوزي بسبب هذه الخطوة أكبر بكثير من أي فوائد قد يجنيها من أصوات الأرمن. (4) جزء من الإجابة هو أن إسرائيل كانت حقبة من الدهر تدافع عن ‘أصدقائها' الأتراك، لأن الكماليين، الذين اختاروا التحالف مع إسرائيل ودعمها بكل قوة، كانوا هم أنفسهم المسؤولين إلي حد ما عن تلك المذابح، وعن تطهير عرقي في حق اليونانيين، ولهم أعمال دون ذلك. وعليه وجدنا مثلاً المستشرق الكبير برنارد لويس، وهو ذو ميول صهيونية فاضحة، يقف في أكثر من موقف في مقام المنافح عن تركيا و'المتفهم' لدوافعها في استهداف الأرمن. أما الآن، وبعد أن قلب أردوغان ظهر المجن لإسرائيل، فإن الطاولة انقلبت، وقرر البعض أن يستخدم عصا إبادة الأرمن لضرب تركيا المتمردة. (5) الضغوط على إيران هي بدورها ثمرة لتحريض لا يتوقف – ولا يخفى- من إسرائيل ضد إيران. وترى الحكومة الإسرائيلية الحالية بقيادة غلاة متطرفي اليمين أن في استهداف إيران ما يعين على صرف الانتباه عن جرائم إسرائيل وتعنتها، وشراء الوقت من أجل بناء المستوطنات وتهويد القدس و'إنهاء' القضية الفلسطينية على طريقتها. (6) ربما يكون نتنياهو وليبرمان على حق، لأن العرب يسلمون دائماً بالأمر الواقع، ويقبلون اليوم ما رفضوه بالأمس، وفي الغد ما يرفضونه اليوم. فقد رفض العرب من قبل قرار التقسيم، ثم رفضوا وجود إسرائيل على حدود 1948. ثم هم اليوم يسلمون بإجماعهم وفي قممهم المتكررة، بأن لإسرائيل كامل الحق في كل ما اغتصب من أراضٍ قبل عام 1948، وعفا العرب عما سلف. فما الذي يمنع نتنياهو من توقع أن يقبلوا غداً بالمستوطنات وفقدان القدس والجولان وتوطين الفسلطينيين، حتى من بقي منهم على أرضها؟ (7) من جهة أخرى فإن إسرائيل يبدو أنها تطارد السراب فيما يتعلق بتركيا وإيران. فقد كانت هناك أيام كانت فيها لإسرائيل سفارات مدللة في كل من طهران وأنقرة، وكانت إيران تزود إسرائيل بالنفط وتتعاون معها سراً في كل المجالات، بينما كان التعاون التركي-الإسرائيلي علني معروف. فإذا كان كل من البلدين تحول إلى عدو تراه إسرائيل اليوم مهدداً لوجودها، أليس في هذا دليلاً على أن إسرائيل تحرث في البحر؟ (8) من المهم بالنسبة لكل من إيران وتركيا تفويت الفرصة، وعدم السقوط في فخ الاستدراج والاستفزازات. فإيران تؤكد باستمرار أنها لا تريد انتاج أسلحة نووية، ولكنها حالياً تدفع ثمن انتاج هذه الأسلحة. وليس هناك أي ضير في أن تقبل الحلول الوسط التي طرحت من قبل، مثل تخصيب اليورانيوم في الخارج، لتجنب عقوبات ستدمر اقتصادها مقابل مكاسب تتضاءل قيمتها كثيرا أمام الخراب الماثل. (9) بالنسبة لتركيا، وخاصة تركيا أردوغان، فإن تجنب الانزلاق إلى مواجهات لا داعي لها أيسر وأكثر إلحاحاً. فمعارك جماعة الاتحاد والترقي والكماليين ليست هي معارك الجيل الحاضر، ولا معارك حزب العدالة والتنمية. فقد كان لذلك الجيل السابق رؤيته ومشاكله، وجرائمه أيضاً. فهل سيدافع أردوغان عن جمال باشا وجرائمه ضد العرب؟ أم هل سيدافع الحزب عن تجاوزات القومية التركية المتشددة ضد الأكراد، أو العلمانية المتطرفة ضد غالبية أهل تركيا؟ (10) على الشعوب والقيادات أن تختار معاركها، ولا تكون مثل الثور يهجم باتجاه كل خرقة حمراء، ويسمح للأعداء باستدراجه إلى حيث يريدون. فليس من مصلحة إيران اليوم خوض المعركة النووية، كما ليس من مصلحة تركيا خوض معركة إبادة الأرمن، فتلك أمة قد خلت، لها ما كسبت ولكم ما كسبتم. الأولوية الآن هي لتفويت المعركة على إسرائيل وحلفائها، والتوجه إلى المعارك الحقيقية، وعلى رأسها قضية تهويد القدس التي قد تكتمل بينما يحتدم النقاش حول من قتل الأرمن، وما إذا كانت إيران تريد قنبلة تؤكد أنها لا تريدها ولن تستخدمها على كل علىحال، ولكنها تدفع فاتورتها مضاعفة. فأي عقلانية في هذا؟