كنت أنوي الكتابة هذا الأسبوع عن وثائق الفساد الدامغة التي قامت بنشرها جريدة (التيار) في جرأة ومهنية عالية تليق بالصحف الكبيرة ذات الرسالة الوطنية، والتي كشفت سوءة الحكومة حتى النخاع وأبطلت حجتها المصطنعة بأن من يتحدث عن الفساد عليه أن يقدم وثائقه، وكأن الحكومة مالكة كل وثائق الدولة لا شأن لها بالبحث عن الأدلة! وأكاد أجزم مسبقاً بأن نتيجة التحقيق الحكومي المتعجل خارج النيابة المتخصصة في هذه القضية سينتهي إلى تسوية سرية كريمة مع مرتكبي الجريمة النكراء. فهذا ما حدث من قبل في حالة أموال طريق الانقاذ الغربي وسقوط عمارة جامعة الرباط وما سيحدث في حالة الإدارة الإقليمية السابقة بدارفور لأن الأصل عند حكومة الإنقاذ في التعامل مع نهب المال العام الذي يطفح خبره للعلن وتفوح رائحته الكريهة فيحرج الدولة أمام قواعدها الأصولية المستكينة أن (خلوها مستورة!). وهذه المقدمة لا صلة لها بموضوع اليوم إلا أنها لزم أن تأتي في وقتها،إشارة لجهد صحفي مقدر جدير بالإشادة والتنويه. أما حديث اليوم فهو عن (جمعية الأخوة السودانية: الشمالية-الجنوبية) التي تم تسجيلها منتصف شهر يناير الجاري بمكتب الشيخ أحمد عبد الرحمن أمين عام مجلس الصداقة الشعبية العالمية، وقد تدافع لتأسيسها ثلة من السودانيين والسودانيات،منفعلين بعلاقة إنسانية واجتماعية واقتصادية بين الشعبين طويلة المدى، أصبحت على وشك الإنهيار بعد انفصال الجنوب في التاسع من يوليو الماضي وما أعقبه من اتهامات ومشاحنات بين حكومتي البلدين. ورحبت أمانة مجلس الصداقة الشعبية أيما ترحيب بالجمعية الوليدة، وسارعت بتسجيلها دون تعقيدات ووعدت بمنحها قطعة أرض في الحديقة الدولية إذا ما أثبتت جدارتها في بنائها، ومن هذا الموقع الصحفي ندعو أبناء الوطن الخيرين أن يسهموا قدر استطاعتهم في تشييد دار للجمعية تكون رمزاً حياً لأخوة الشعبين الشمالي والجنوبي. تهدف الجمعية إلى العمل على تنمية وتوطيد علاقات الأخوة والصداقة والتعاون وحسن التفاهم بين الشعب السوداني وشعب جمهورية جنوب السودان، والإسهام في تعزيز علاقات التعاون المشتركة في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفنية، والتعاون مع الهيئات والجمعيات النظيرة في المجالات الإنسانية والمؤازرة في حالات الكوارث ودعم مناطق التماس الحدودية. وتتبع الجمعية الوسائل المتعارفة في تحقيق أهدافها مثل: تنظيم المؤتمرات والندوات والمحاضرات، واعداد الدراسات ونشر المطبوعات، وإقامة المهرجانات والمعارض الثقافية والفنية والتجارية، والمشاركة في الأعياد والمناسبات الوطنية. وانتخبت الجمعية العمومية مكتباً تنفيذياً من 12 عضواً يترأسه الأستاذ محجوب محمد صالح رئيس تحرير جريدة «الأيام»، ودهشت عندما اجتمع المكتب التنفيذي بكامل عضويته دون أن يتخلف أحد في أول اجتماع دعي له، ودار الحديث حول مجالات العمل التي اتضح أنها كثيرة لا يحصيها العد. ستقوم الجمعية بتدشين نفسها للجمهور في حفل قريب وتعقد مؤتمراً صحفياً تذكر فيه المجالات التي ستعمل فيها وتحدد أولويات مناشطها. وستكون من أوائل تلك المناشط عقد ورشة لمديري وقيادات الجامعات في الشمال والجنوب للتفاكر حول التعاون المشترك في قضايا التعليم العالي والبحث العلمي وتبادل الزيارات بين الأساتذة والطلاب. وعضوية الجمعية مفتوحة لكل السودانيين التي لا يشترط فيها إلا ملء الإستمارة المعدة لذلك ودفع الاشتراك السنوي، وأقبل علينا الكثيرون من داخل السودان وخارجه. ويجوز للجمعية أن تحفظ نسبة 30% من العضوية للمواطنين من شعب جنوب السودان، وطلب مني فور الاتصال به الصديق المهندس فاروق جاتكوث – أقوى الانفصاليين مراساً وأفصحهم حجة- أن يكون من أوائل المسجلين بالجمعية مما يدل على عمق العشرة السودانية الطويلة في النفوس رغم الاستقطاب السياسي الحاد الذي شاب الفترة الانتقالية. وقبلنا طلبه ولكني قلت له ينبغي تأسيس جمعية نظيرة في الجنوب حتى نتعاون سويا على تحقيق الأهداف المرجوة، فوافق ووعد بأن يسعى في ذلك. وبالطبع فإن المناخ السياسي بين حكومتي البلدين سيؤثر كثيرا على جهود أية جماعة تعمل لتحسين وتطوير العلاقات بين الشعبين، وقد أحزننا كثيرا مسيرة المفاوضات المتعثرة بين وفدي الحكومتين في أديس أببا حول القضايا العالقة وعلى رأسها معالجة النفط الجنوبي وترحيله إلى ميناء التصدير، والتي قد تؤدي إلى قفل آبار البترول في الجنوب ومحاولة ترحيله مستقبلاً عن طريق كينيا رغم التكلفة الباهظة لذلك الخيار. فالعلاقات السالبة بين الحكومتين ستلقي بالضرورة بظلالها على بقية العلاقات الأخرى، وقد ظهر ذلك جلياً حين وصل الدكتور بيتر أدوك وزير التعليم العالي بالجنوب يوم الأربعاء الماضي (25/1) ليوقع مذكرة تفاهم مع وزارة التعليم العالي دون أن يخطر وزارة الخارجية السودانية بمجيئه أو برنامجه كما يقتضي البروتوكول الدبلوماسي بين بلدين مستقلين. ولم تقبل وزارة الخارجية بهذا التجاهل فوجّهت بألا تتم معه أية أعمال رسمية في هذه الزيارة ولكن لا بأس من التعامل معه بصفة شخصية أو اجتماعية، وسبق لدكتور أدوك أن اقترح استمرار وحدة التعليم العام والعالي لبضع سنوات بين الشمال والجنوب نسبة لتوحد نظام التعليم، ولكن اقتراحه الجيد هزم بالمشاكسات الجارية على قدم وساق بين الحكومتين الانفعاليتين. وزار بعض أعضاء المكتب التنفيذي لجمعية الأخوة السودانية الدكتور أدوك بالفندق الذي يقيم فيه وقدموا له الدعوة لحفل غداء يوم السبت سيحضره وزير الدولة بالتعليم العالي ب أحمد الطيب ووزير الدولة بالخارجية د منصور العجب وهو من المؤسسين لجمعية الأخوة والشيخ أحمد عبد الرحمن وعدد من مديري الجامعات بالخرطوم. وقبل الجميع دعوة الجمعية بل إن أدوك طلب أن يكون عضواً فيها. ولا شك أن النقاش سيدور في نفس قضايا التعليم العالي التي يرغب الوزير الجنوبي في التعاون فيها مع الشمال ولكنها لن تكون ذات طابع رسمي. وهذا ما يحدونا للأمل بأن الدبلوماسية الشعبية يمكن أن تلعب دوراً مفيداً في تحسين العلاقة بين البلدين حتى على المستوى الرسمي. وقد حظي الدكتور أدوك في هذه الأيام القليلة بزيارات ودعوات أخرى من أفراد ومؤسسات نسبة لعلاقته الجيدة مع عدد كبير من الشخصيات السودانية، وأظنه سيأتي مرة أخرى لإكمال مهمته الرسمية ولن يبحث عن بلد آخر يعوضه عن الخرطوم.