قد لا نبالغ إذا قلنا إن السؤال المطروح عنواناً للمقال أصبح اليوم السؤال الأكثر تردّداً على ألسنة التونسيين بعد ثلاثة أشهر على انتخابات حرّة وشفّافة انتهت بفوز الإسلاميين وتكوين حكومة يشغلون فيها المناصب السيادية. كان الإسلاميون حصدوا في تلك الانتخابات أصوات حوالى مليون ونصف مليون من الناخبين، على عدد من الناخبين فاق ثلاثة ملايين ونصف مليون، وعلى حوالى سبعة ملايين ونصف مليون ممن يحقّ لهم الاقتراع لكنّ نصفهم لم يمارس هذا الحقّ في 24 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي. وقد كانت دوافع التصويت لحركة النهضة الإسلامية مختلفة، تتراوح من اعتقاد بعض البسطاء بأن من يصوّت لها يدخل الجنّة إلى تقدير بعض كبار رجال الأعمال أن أفضل سبيل لحماية ثرواتهم الطائلة هو الهرولة نحو «النهضة» وإسدال اللحى والمساهمة في بناء المساجد. لكنّ هناك بالتأكيد جانباً مهماً من المصوّتين لحركة «النهضة» كانت دوافعهم سياسية عقلانية، إذ اعتبروا أن انهيار الحزب الحاكم سابقاً ترك فراغاً خطيراً يهدّد استقرار البلد، وأن «النهضة» هي وحدها القادرة على ملء هذا الفراغ لأنها حركة جماهيرية ومنظمة تنظيماً جيداً وحاضرة في البلاد منذ أربعة عقود، على رغم ما نالها من قمع في فترات كثيرة. هؤلاء هم أناس لا يهتمون في الغالب بالتدقيق في المرجعيات والخلفيات الأيديولوجية للحركة بمقدار ما تهمهم قدرتها على توفير الحماية لشعب لم يتعوّد على الهزات العنيفة والصدامات المستمرة. وقد أبدت حركة «النهضة» منذ سقوط النظام السابق حتى الانتخابات التأسيسية، قدرة تنظيمية لافتة واستطاعت في ظرف وجيز أن ترصّ صفوفها بعد سنوات طويلة من القمع وتصبح الفاعل الأول في الساحة السياسية، ما أعطى الانطباع لدى جزء من الناخبين بأنها الأقدر على ضبط الأوضاع المنفلتة. هذا الانطباع هو الذي يتراجع اليوم، فحركة «النهضة» تبدو الآن متردّدة وتائهة في التسيير الفعلي للبلاد ومواجهة الحاجات الملحّة للمواطنين واتخاذ القرارات الواضحة في المسائل العاجلة. وغابت اليوم الوعود السخية التي قطعتها في برنامجها الانتخابي وأصبح وضع مسؤوليها حرجاً. فإذا تحدثوا بخطاب الواقعية بدوا متحدثين بلغة تذكّر بالحكومات السابقة، أما المزايدة على السلطة فلم تعد ممكنة بعدما أصبحوا هم السلطة، وكذلك التفنّن في بلاغة القول والتنميق الذي أصبح غير مجدٍ أمام الحاجة الى القرار الواضح والحسم السريع. المهم في هذا كله أن براعة الإسلاميين في تسيير الحكومة لا تبدو موازية لبراعتهم في تسيير حملة انتخابية، فهم لا يقدّمون غير الوصفات التي كانت تطبقها الحكومة الانتقالية السابقة، وهي وصفات إصلاحية لا ثورية، تطلب وقتاً وصبراً قبل أن تتبين نتائجها، وقد لا تتبين. وكما يقول المثل العربي القديم: «من حفر جبّاً لأخيه وقع فيه». فالحزب الحاكم اليوم، أي «النهضة»، يواجه المعضلة ذاتها التي عرفتها الحكومة الانتقالية سابقاً برئاسة السيد الباجي قائد السبسي. كان الأخير بدأ عهده بالمطالبة باستعادة هيبة الدولة والالتزام بهدنة اجتماعية وتمكين الحكومة من الهدوء لمواجهة القضايا العاجلة وتنظيم الانتخابات في أفضل الظروف، لكن حركة «النهضة» وحليفها «المؤتمر من أجل الجمهورية» كانا من أكثر المناوئين لحكومته، المشاغبين عليها والمعارضين لخطّها الإصلاحي. واليوم يعيد مسؤولو «النهضة» و «المؤتمر» الخطابات ذاتها التي كانت ترد على لسان الحكومة: الدعوة إلى التريث والصبر والواقعية والهدنة واحترام المؤسسات وهلم جرّا، فيواجهون بالردّ ذاته: اعتصامات واحتجاجات وقطع طرق وتعدٍّ على المرافق العامة… إلخ. كان يمكن سلوك طريق أخرى أكثر حكمة تتمثل في الحفاظ على الوزراء التقنيين من الحكومة الانتقالية السابقة بينما يكلّف بالمناصب السيادية، مثل رئاسة الحكومة ووزارة العدل ووزارة الداخلية، مسؤولون من القوى الفائزة في الانتخابات. بذلك تتحقّق القطيعة سياسياً مع الماضي من دون تعطيل مصالح البلد، لا سيما أن الحكومة الحالية موقتة لن تتجاوز مدتها سنة، والغاية الأساسية من الانتخابات كانت كتابة الدستور الجديد. لكنّ «النهضة» أصرّت على غير ذلك ووضعت نفسها في موقف حرج لا تحسد عليه. وعلى أعداء حركة «النهضة» ألا يبتهجوا كثيراً بهذا الوضع، لأن تواصل تدنّي الأحوال المعيشية والأمنية للناس يمكن أن يسفر عن اضطرابات لا يمكن أحداً أن يتحكّم بها مستقبلاً، بما في ذلك الجيش الذي ظلّ حتى الآن الملاذ الأخير للجميع عند اشتداد الأزمات. ثم إن «النهضة» قد تعوّض تراجع قاعدتها الانتخابية بتصلّب قاعدتها الأيديولوجية والتنظيمية، فيتسع توظيفها للّغة الدينية لتحويل الأنظار من القضايا السياسية والاجتماعية العالقة إلى قضايا مجرّدة، مثل تحرير القدس وإقامة الخلافة. وبمقدار ما تتراجع العقلانية السياسية وتتضخم الشعبويّة، تبتعد الثورة التونسية عن أهدافها الأصلية وتتجه بالبلاد نحو المجهول. نقلاً عن الحياة