بقلم : جابر عصفور :- الشاعر الشاعر لا الشاعر الشعرور, الشاعر الظاهرة الذي يغدو الشعر بعده مختلفا عن ماقبله, الشاعر الذي يترك بصماته علي زمنه كأن زمنه هو قوته الدافعة, وطاقته الإبداعية تتولد عن هذا الزمن وفي مواجهته, هذا الشاعر لايأتي بسهولة, وليس قابلا للتكرار أو النسخ أو المحاكاة والتقليد في التاريخ الإبداعي لمجتمعه. هذا الشاعر عراف ماوراء الأحداث. ويرهص بالعهد الآتي. رافض دائما لكل ماهو قبيح أو ظالم, عدو للقسوة والتسلط والتخلف, حالم أبدا بالمستقبل الذي يخرج من وهاد الضرورة, عفيا كنسمة الفجر, عادلا كضوء الشمس التي تطرح إشعاعها علي الجميع بلا تمييز, ولايتردد هذا الشاعر في الانتماء للقيم الثلاث التي ينطوي عليها كأنها علامة وجود وسر حضور. أعني قيم الحق والخير والجمال, وانحياز الشاعر لهذه القيم يجعله مقاتلا شرسا في الدفاع عنها, جسورا في مهاجمة من يريدون التعتيم عليها, او تقليص حضورها الخلاق في الحياة, وصفات الرفض كصفات التمرد والثورة علي كل ماينتقص من الحضور البهي للإنسان. أو كل ماينال من كرامته أو يهدر إنسانيته وحريته. هذا الحضور الخلاق للشاعر الذي أتحدث عنه كان يتجسد في أمل دنقل(1940 1983) الذي تركنا في الحادي والعشرين من مايو منذ ربع قرن. ومع ذلك لايزال حيا بيننا, نتذكر كلماته التي لانزال نحفظها في قلوبنا, ونجعلها أسحلتنا التي نواجه بها القبح والفساد والظلم والانكسار, والتعصب الذي استشري في حياتنا. ومن الذي ينسي قوله في يونيو1968: عيد بأية حال عدت ياعيد بما مضي أم لأرض فيك تهويد نامت نواطير مصر عن عساكرها وحاربت بدلا منها الأناشيد ناديت: يانيل هل تجري دما لكي تفيض ويصحو الأهل إن نودوا أو ينسي سؤاله عن أطفاله المساكين الذين كان يخشي أن يصبحوا في زماننا شحاذين, يستجدون المرابين, ويبيعون الرياحين لأصحاب الملايين, وينسلون في الليل جائعين, عارين, يلتقطون فتات السائحين الغازين, لاثمن لهم في زمن انقلب ضدهم وآبائهم, فأصبح الإنسان أرخص وأهون مافيه. إنه أمل الذي رأي الوطن في زمنه الأرض التي ماوعد الله بها من خرجوا من صلبها, وانغرسوا في ترابها, وانطرحوا في حبها, ولم يعودوا يدخلونها آمنين.لقد تحولت الأرض, وازدادت تنكرا لأبنائها, وأصبحت أكثر خوفا من حراسها أو نهابها, تري الموت عدلا وميزانه البندقية, أبناؤها صلبوا في الميادين أو السجون, خصوصا بعد أن أصبح العدل ملكا لمن يملك الثمن, أو من جلس فوق عرش الجماجم بالطيلسان الكفن. أما العقل الذي كان ابن آدم يرتجيه هاديا وحاكما فقد أصبح مغتربا يتسول, يقذفه صبية بالحجارة, ويوقفه الجند عند الحدود, وتسحب منه الحكومات جنسية الوطني.. وتدرجه في قوائم من يكرهون الوطن, فسقط العقل في دورة النفي والتحقير حتي يجن. ولم يعد أمامه سوي ترديد صلاة إذعان لأبيه الذي في المباحث, ذلك الذي تفرد وحده باليسر. أما اليمين ففي الخسر. واليسار في العسر, إلا الذين يماشون, يحشون بالصحف المشتراة العيون, يوشون ياقات قمصانهم برباط السكوت. ولم يكن أمل دنقل من هؤلاء الصامتين, فقد أعلن عن حضوره الشعري المتمرد, في مطلع الستينيات, بكلمات سبارتاكوس الأخيرة, تلك التي كتبها في أعقاب أحد الانتخابات التي تجاوزت نتيجتها التسعين في المائة كالعادة, ولذلك كانت كلماته, من وراء قناع سبارتاكوس, تبدأ بالمجد لمن قال: لا, في وجه من قالوا: نعم, وتوصي الذين يسيرون خانعين بألا يحلموا بعالم سعيد, فخلف كل قيصر يموت قيصر جديد وأحزان لاتنتهي, وكرامة تضيع. وحتي هذا القيصر الجديد لم يتركه أمل دون أن يناوشه بأقنعة الشعر التي تنزع عن سطوته براثنها القمعية. ولن ننسي ماقرأناه علي لسان أبي نواس: لاتسألني إن كان القرآن مخلوقا أو أزلي بل سلني إن كان السلطان لصا أو نصف نبي هذا هو أمل دنقل الذي مر ربع قرن علي وفاته في الحادي والعشرين من مايو الماضي, وهو الشاعر الذي لايزال حيا بيننا في الزمان الذي لم يشهده, ولكنه كان يراه في رؤاه, حين كان يتطلع ببصيرته إلي المستقبل, فيري الموت يهب من الصحف الملقاة, والجوع ينتشر مقابل الخبز الذي اختفي, والماء الذي تلوث, والدجاج الذي تسمم, والذمم التي خربت, وضحايا الفساد الذين لايزالون يموتون بلا ثمن, فتحولت رؤياه إلي كابوس, أرهص به كي يحذرنا, نحن أبناء العهد الآتي بعده, نحن الذين حذرنا من زماننا, مستخدما كلمات القديس يوحنا في العهد الجديد التي تقول:مملكتي ليست من هذا العالم. لو كانت مملكتي من هذا العالم لكان خدامي يجاهدون لكي لا أسلم إلي اليهود. وهي كلمات تؤدي الدلالة الأساسية التي تؤديها قصيدة تصالح التي تحولت إلي إحدي معلقات عصرنا, خصوصا في إلحاحها علي العدل الذي لايعرفه اليهود ولاحلفاؤهم من اليمين المتطرف الذي لايزال مختطفا أمريكا, في سياق رؤيا أمل الذي أرهص بما فعله الإسرائيليون ولايزالون يفعلونه من مجازر, مؤكدا وصيته التي تقول لكل واحد في زماننا العربي الجريح: لا تصالح فالصلح معاهدة بين ندين في شرف القلب لاتنتقص.