بقلم خالد محمد عثمان… انساب القط السواكني من بين يديه بعد مداعبات كادت تسلمه للنوم الذي لم يستطع اليه سبيلاً منذ اللحظات الأولي التي خرج فيها من تلك المتاهة… كان يؤكد لنفسه انه لن يتهاوي فهو علي كل حال و بصفة إستثنائية يعرف قدر نفسه و مقدار مقاومته لكل الأساليب التي تهبط من قمة الإرهاب الي قاعدة الإغراء… و لكن حاجته لمداعبة قطه السواكني بعد تلك الغيبة الطويلة، كانت أكثر من حاجته لمداعبة أي حيوانٍ آخر مماثل حتي لو كان ناطقاً… نزل من حافة السريرالذي لم ينعم بدفئه منذ فترة طويلة… دفعته رغبة خفية في الخروج من الغرفةالضيقة الي الفناء مثل قطه الذي انفلت الي الخارج… كانت دفقات من إشتياق قد صاحبته طويلاً في تلك الممرات الجبلية و رقدت معه في حجرة ضيقة جداً علمته أبجديات الفوارق… كانت أضيق بكثير من غرفته التي عاد اليها بعد غيبة طويلة، تنعدم فيها النوافذ غير فتحة صغيرة بين الجدار و الأرضية تسمح بخروج البول و الغائط… لم تكن تلك الفتحة معمولة أصلاً لذلك الغرض. ذلك ما أدركه للوهلة الأولي، عندما ضايقته الحاجة بشكل حاد، فأخذ يبحث عن وسيلة لأداء تلك المهمة، التي أعتاد القيام بها كل صباح و مسواكه في فمه، أو سَفَّة من “العماري” الجيد بين شفته السفلي و أسنانه… كان يعتقد دائماً ان هناك علاقة لا يدرك كنهها بين المسواك او السَفَّة و تلك المهمة، لذلك كان يؤديها بطريقة طقوسية و ارتياح بالغ. أما عندما تمّ وضعه مع عدد من رفاقه في حجرات ضيقة جداً، معتمة، رطبة و متشابهة، فقد كان يخيل اليه انه لن يستطيع اداء تلك المهمة بدون طقوسها المعتادة من المسهلات و ما شابه ذلك، حتي فاجأته بعد يومين من نزوله في تلك الغرفة الضيقة جداً…و بدأ يستجيب لنداء الحاجة الملحّة بالبحث عن وسيلة، حتي إهتدي لتلك الفتحة بين الجدار و الأرضية… و جعل يتفحص الآثار حولها… كانت مجرد آثار قديمة، إهتدي من خلالها الي ان أيدٍ كثيرة قد عمِلت في تلك المنطقة من الجدار حتي ثقبتها الي الخارج… و أطلت علي شفتيه إبتسامة صفراء، عندما أدرك العلاقة الجوهرية بين الحاجة و الإختراع… دفعته موجات الشوق المتلاحقة الي الخارج… لعل قطّه السواكني الذي إنساب من بين يديه للتو، و خرج من باب الغرفة الموارب برشاقة، كان يدعوه لحركة مماثلة… و صدق حدسه عندما وجد القطّ في الفناء ، يرمق النجيمات البعيدة بإبتهاجٍ جعل ضوءاً فضياً يتوهج في عينيه… و لم يستطع “أدروب” للوهلة الأولي التمييز – إذا ما كان ذلك الضوء الفضي منبعثاً من القمر أم من عيني قطّه السواكني – الا انه لم يُخْفِ الإبتهاج الذي تسلل من القطّ اليه… بعد شهور طويلة من المراوحة بين الممرات الجبلية و الحجرة الضيقة جداً، حيث ذلك هو كل عالمه، ظنّ “أدروب” انه سيفقد قدرته علي الإبتهاج… لم يكن يدرك سبباً وجيهاً لهذه المراوحة الإجبارية، فهو علي حدّ علمه، لم يخرج عن النص المنهجي، الذي كُلف بأدائه، منذ ان كان معلماً، و لثلاث سنوات… و لم يفعل شيئاً مثل هذا عندما تخرج في السنة الرابعة من كلية القانون… أما إذا كانت الجامعة هي السبب، فان “أدروب” لم يفعل شيئاً سوي الشعر… و كان يسأل نفسه ببساطة: “هل في الشعر عقاب؟”… أخذ يمارس عشقه القديم في الفناء، و للحظة و علي الرمال المتوهجة باللذّة، تحت سهام القمر الغرامية، شاهد عاشقاً آخر للقمر… كان “أبو الدردوق” في مسيرته “السيزيفية” يدحرج قطعةً من العذرة… للحظة و أمام الإكتشاف أحتقر نفسه… لم يفعل شيئاً غير الشعر! أدرك ان أتفه حشرة في الأرض تفعل شيئاً مفيداً و مفيداً جداً… “لم تفعل شيئاً غير الشعر!” “و هل في الشعر عقاب؟” بدأ مقدار نفسه شيئاً مختلفاً هذه المرّة… “آهٍ من هذه الصور”… هو بالتأكيد غير قدر نفسه الذي أعتقد لوهلة انه يدركه بين الممرات الجبلية و حجرته الضيقة جداً… كان أمام ذاته مجرداً حتي من ورقة التوت… كان لشهور طويلة داخل السجن، لكنه شعر ان السجن قد تسلل ليصبح داخله هذه المرّة..تملّكه إحترام كبير لهذه الحشرة التي لا تعرف المستحيل فاضطجع علي الرمال و هو يتمني ان تعبر الحشرة بما تحمله من غائط علي جسده، حتي يتخلص قليلاً من عذابٍ حلّ محل الإبتهاج… لكن الحشرة سارت بمحاذاة جسده الممد و تجاوزته… شعر بفيض من المهانة… و عظمت هذه المهانة او ربما الإهانة في نفسه عندما طافت بخياله صورة “حُميد” نزيل الحجرة المجاورة التي تشبه حجرته الضيقة جداً… بدأ و كأنه يقف أمامه بجسده النحيل الطويل… و جاء صوته اليه منبعثاً من مكان سحيق في أعماقه… عندما كانوا يؤخذون صباحاً الي الممرات الجبلية، ليمهدوا الطريق الطويل لشركات عديدة إنبثقت فجأة… كانوا يقولون و هم يتناولون البن المرًَ بدلاً عن حليب الأمسيات القديمة، “كالنبت الشيطاني”، تختلف في اسمائها الأولي و تجتمع تحت كلمة أخيرة “الإسلابية”… يرون اسماءها علي الشاحنات و الشاهقات، حتي علي لافتات مضروبة في هجير الشمس علي أراضٍ عارية تماماً، ليس بينها و بين الشمس سوي نشوة من عرق التعب الطويل… و لا يعودون الا في المساء الي حجراتهم الضيقة جداً، و العارية تماماً و الرطبة الي حدّ بعيد… كان يقول دائماً عندما يبتعد الحراس المدججون بالإسلحة السريعة الطلقات و يسنح لهم الحديث و هم يكسرون الحجارة: - هذا تدريب مجاني علي القوة و إحتمال الألم. ثم يضحك ضحكة ساخرة, و يكسر حجراً و يضيف: - متي يتعلم رفاقنا في الخارج كسر روح المسالة؟ سؤال “حُميد” الذي مضت عليه عدة ليال، و إحتقار الحشرة الذي لم تمض عليه سوي ثوان جعله يتناول حفنة من الرمال و يلقمها فمه و يصك عليها أسنانه لدرجة الألم… صور كثيرة انداحت أمامه، لم يكن من السهل نسيانها… الا انه اكتشف و ببساطة انه قد تناساها طويلاً… و جعله الألم الذي انداح مع الصور يبلع بعض الرمال مع ريقه المعذب… - “أدروب”… جاء النداء من أعماق سحيقة… ذهب والده في إحدي ليالي الصيف الرطب بعد ان ارتدي قميصه و سرواله، اللذين بهتا لدرجة لم يكن من الممكن معها تمييزهما عن التراب، و “صديريه” الأزرق، ووضع “مخلاته” التي يحرص علي وضع البن و أدواته فيها أكثر من حرصه أي طعام، و علقها علي عصاته التي كان يهش بها غنم “الفريق”، و يضرب بها حصي الأرض الحجرية المفتتة، ووضعها علي كتفه… ذهب ليبحث عن دواء في المدن البعيدة… - “أدروب”… تجمّعت أمامه صور مختلفة تماماً… وردة ذابلة و سواكنية يسحّ منها الدهن، يفوح منها البن، مملوءة الساقين بشهقات الفرح القديم، كلما جاء من الميناء ممتلئاً ب “نفناف” البذرة، منهوكاً في الأمسيات التي لم تعد لها ذكري… “أدروب” وحده ربما كان يحمل بعضاً من تلك الملامح… داخل حجرته الضيقة جداً بدأ في إستعادة التفاصيل… كان قد نسي لفترة طويلة ذلك الدفء… لملمته بين نهديها ووركيها… استسلم لهدهدة حبٍ مجهول المدي بين هضابها العامرة و لون يشبه تراب البحر الأحمر الرطب… ثم غاب و لم ينبثق الا عندما فاجأته الركلات الأولي… - كيف تنعش الركلات الذاكرة؟ سأل “حُميد” فأجابه: لانها تخشي الرد بأسلوب مماثل! ثم زمّ حاجبيه و فاجأه بما ظنه لغزاً: لقد استسلمنا للشعر بما فيه الكفاية! - “أدروب” … جاء النداء ضعيفاً، منبعثاً من أغوار سحيقة لامرأة أكل منها المرض كثيراً، حتي غدت مثل “البرش” الذي ترقد عليه… كانت أمه تعاني من الألم الذي أشتد عليها بعد غياب والده الطويل… و عندما وصل إليها كانت تحاول ان تقول بصوتها الواهن: - “أدروب”.. أبوك.. يا “أدروب”… قبل ان ترحل لذلك العالم المضئ الذي كانت تعتقد فيه بيقين راسخ… و بدأ العالم الماثل أمامه أكثر ظلمة… كان كباره يقولون في الليالي القمرية أثناء تجمعهم في دوائر بهية ان سواكنهم و قبل أكثر من مائة عام كانت أجمل و أرحم بكثير و كثير جداُ… لفظ باقي الرمال من فمه… “حُميد” كان يسأله: - هل نستطيع ان ننهال عليهم بهذه المعاول؟ بدأ و كأنه يسأل نفسه، أما هو فقد قال: - لا نجوم هنا و لا قمر! أعتقد لوهلة انه بلا إرادة و بلا جريمة أيضاً… أدخلوه علي المحقق الأول… كان يميل الي البدانة حتي بدت كرشه واضحة و يضع نظارات سوداء علي عينيه… عادوا في اليوم الثاني و أدخلوه علي المحقق الثاني… كان يميل الي البدانة حتي بدت كرشه واضحة و يضع نظارات سوداء علي عينيه… عادوا في اليوم الثالث و أدخلوه علي المحقق الثالث… كان يميل الي البدانة حتي بدت كرشه واضحة و يضع نظارات سوداء علي عينيه… عادوا في اليوم ال … و أدخلوه … و هكذا حتي المحقق السادس… كانت الإجابات واحدة كما الأسئلة، كما الكروش، كما النظارات السوداء، كما المحققين جملة و تفصيلا… و لم يشك في ذلك لحظة واحدة… الا ان آخر نسخة من المحققين صرخ في وجهه: - الشعر التحريضي في كل ارجاء الجامعة لمن، يابن ال….. و أعقبت ذلك لكمة قوية جعلته يترنح… و غامت الدنيا في عينيه عندما تدلي من السقف كمروحة و بدت المروحة التي شدّ عليها من رجليه تدور… و فقد وعيه للمرة الثانية من جراء ركلات عنيفة إستهدفت خصيتيه… و مرّة ثالثة من جراء أعقاب سجائر كثيرة متوهجة خلّفت حروقاً دائرية لا تحصي علي جسده و ضربات متتالية علي جسده المنهك… و لم يدر كم من الوقت مرّ عليه عندما أفاق ووجد نفسه مرمياً علي أرض طينية رطبة و قذرة، في حجرة ضيقة للحد البعيد، تتصاعد منها رائحة البول… و كان أول ما شعر به هو انه قد تبوّل علي ملابسه… و أخذ يتحسس نفسه ليتأكد فعلاً من انه هو و ليس شخصاً آخر… أغمض عينيه… حاول التفكير في أشياء أخري… لم يتذكر من قال له ان هذا الأسلوب يجعله قادراً علي امتصاص الألم… حاول ان يتذكّره من بين قراءاته العديدة… لم يفلح و لم يدرك ان جسده قد اتخذ بصورة تلقائية وضع “اليوجا” و بدأ في الاستغراق حتي رفعته الركلات من جديد و ألقته علي جانبه… لفظ باقي الرمل من فمه… “حُميد” كان يسأله: - هل نستطيع ان ننهال عليهم بهذه المعاول؟ - كيف تنعش الركلات الذاكرة؟ - يجب ان نفكر في رد مماثل! - شئ من دستور حمورابي! - هل تعاهدني علي ان نفعل ذلك إذا خرجنا أحياء؟ و بدأ و كأنه يسأل نفسه… أما هو فقد قال في ذلك الوقت: لا نجوم هنا و لاقمر… أعتقد لوهلة انه بلا إرادة و بلا جريمة أيضاً… أدخلوه علي المحقق الأول… كان يميل الي البدانة حتي بدت كرشه واضحة و يضع نظارات سوداء علي عينيه… عادوا في اليوم الثاني و أدخلوه علي المحقق الثاني… كان يميل الي البدانة حتي بدت كرشه واضحة و يضع نظارات سوداء علي عينيه… عادوا في اليوم الثالث و أدخلوه علي المحقق الثالث… كان يميل الي البدانة حتي بدت كرشه واضحة و يضع نظارات سوداء علي عينيه… عادوا في اليوم ال … و أدخلوه علي… و هكذا حتي المحقق السادس… في اليوم السابع قال لهم: ان الله ارتاح في هذا اليوم… كانت الإجابات واحدة كما الأسئلة، كما الكروش، كما النظارات السوداء، كما المحققين… و لم يشك في ذلك لحظة واحدة، الا ان آخر نسخة من المحققين صرخ في وجهه: - الشعر التحريضي في كل ارجاء الجامعة لمن، يابن ال….. و أعقبت ذلك لكمة قوية جعلته يترنح… و غامت الدنيا في عينيه عندما تدلي من السقف كمروحة و بدت المروحة التي شدّ عليها من رجليه تدور… و فقد وعيه للمرة الثانية من جراء ركلات عنيفة إستهدفت خصيتيه… و مرّة ثالثة من جراء أعقاب سجائر كثيرة متوهجة خلّفت حروقاً دائرية لا تحصي علي جسده و ضربات متتالية علي جسده المنهك… و لم يدر كم من الوقت مرّ عليه عندما أفاق ووجد نفسه مرمياً علي أرض طينية رطبة و قذرة، في حجرة ضيقة للحد البعيد، تتصاعد منها رائحة البول… و كان أول ما شعر به هو انه قد تبوّل علي ملابسه… و أخذ يتحسس نفسه ليتأكد فعلاً من انه هو و ليس شخصاً سواه… اتكأ “حُميد” علي حجر… رمقه بنظرة ثاقبة و هو يرفع المعول… “فطومه” همس…ابتسم “أدروب”… لم تكن له ثمة “فطومه”… كان فقط ذلك اللون الترابي الرطب علي سواحل القلزم… بدأ “حُميد” في إستعادة أواصره و كأنها أواصر قديمة “ساحت” في أزمان بعيدة و لم يبق منها غير عطر من الرؤي الغريبة… “لماذا لا يطلعني علي هذا السر كاملاً؟”… سأل “أدروب” نفسه… همس “حُميد” مرّة أخري “لن تتزوجي أبداً ذلك المتمرد الصعلوك” … كان بينهما ذلك الإعجاب المتبادل، دخلا الي “الكافتريا” يداً بيد… ثمة ازدحام و دخان شواء و أكياس قمامة “يفتش” داخلها أطفال يرتدون قمصان متسخة ممزقة، بدأت صدورهم النحيفة من خلالها غبراء، يحّوم حولها الذباب… هم “حُميد” بتناول ال “ساندوتش” الذي طلبه و هو يرمق طفلاً مرّ أمامه رافعاً يده و قد بدأت عليها آثار الهزال… انقبض صدره فلفظ باقي الرمال من فمه… “حُميد” كان يسأله… كانوا يعدون خلف القطار… يتعثرون… يتسابقون خلف الفتات اللاهث و هو يتساقط من نوافذ القطار معجوناً بقشر البيض… يزدردونه مع الفتات و هم يحلمون بقطار آخر… “دستور حمورابي… هل تعاهدني علي ان نفعل ذلك؟”… كان بينهما ذلك الاعجاب المتبادل بين الشمال و الشرق… الا ان شمالهما و شرقهما كانا شيئين مختلفين، جديدين، متألقين بطموح آخر يمتد حتي آخر النقاط الغربية و الجنوبية… لفظ باقي الرمال من فمه… “حُميد” كان يسأله “هل نستطيع ان ننهال عليهم بهذه المعاول؟”… عندما رفع نفسه و هو يحمل معه ذرات من الرمال علي إمتداد ظهره، شعر لأول مرّة بالإختلاف… في الأعالي كانت النجوم تحتفي بالقمر… أما هو فقد تحّول احتفاؤه الأول الي عذاب… و شعر بحاجته الي بكاء طويل… و تلفت حوله ليشكر “أبو الدردوق” و قطّه السواكني علي هذه اللحظة التي أتاحاها له ليتطهر بعذابه… الا ان “أبو الدردوق” لم يكن هناك… اما قطّه السواكني فقد كان يمارس الحب مع رفيقة – يبدو انه أختارها في غيابه – منتشياً بسهام القمر الفضيّة الغرامية، خلف شجرة الأراك، و مختلجاً بطريقةٍ فذّة، جعلت “أدروب” يتوهج في عذابه.