الأمر لا يتعلق بالإسلاميين أو الشيوعيين أو غيرهم    شاهد بالفيديو.. فنانة سودانية تنفجر غضباً من تحسس النساء لرأسها أثناء إحيائها حفل غنائي: (دي باروكة دا ما شعري)    وزير الإعلام يلتقي وزير الثقافة والإعلام والسياحة السوداني    طلب للحزب الشيوعي على طاولة رئيس اللجنة الأمنية بأمدرمان    الخلافات تشتعل بين مدرب الهلال ومساعده عقب خسارة "سيكافا".. الروماني يتهم خالد بخيت بتسريب ما يجري في المعسكر للإعلام ويصرح: (إما أنا أو بخيت)    تعاون مصري سوداني في مجال الكهرباء    شاهد بالصورة والفيديو.. بأزياء مثيرة.. تيكتوكر سودانية تخرج وترد على سخرية بعض الفتيات: (أنا ما بتاجر بأعضائي عشان أكل وأشرب وتستاهلن الشتات عبرة وعظة)    ترامب : بوتين خذلني.. وسننهي حرب غزة    الكويت ترحب ب "الرباعية" حول السودان    البرهان: لن نضع السلاح حتى نفك حصار الفاشر وزالنجي وبابنوسة    شاهد بالصورة والفيديو.. حصلت على أموال طائلة من النقطة.. الفنانة فهيمة عبد الله تغني و"صراف آلي" من المال تحتها على الأرض وساخرون: (مغارز لطليقها)    شاهد بالفيديو.. شيخ الأمين: (في دعامي بدلعو؟ لهذا السبب استقبلت الدعامة.. أملك منزل في لندن ورغم ذلك فضلت البقاء في أصعب أوقات الحرب.. كنت تحت حراسة الاستخبارات وخرجت من السودان بطائرة عسكرية)    نادي دبيرة جنوب يعزز صفوفه إستعداداً لدوري حلفا    يوفنتوس يجبر دورتموند على التعادل    أول دولة تهدد بالانسحاب من كأس العالم 2026 في حال مشاركة إسرائيل    900 دولار في الساعة... الوظيفة التي قلبت موازين الرواتب حول العالم!    "نهاية مأساوية" لطفل خسر أموال والده في لعبة على الإنترنت    د.ابراهيم الصديق على يكتب: معارك كردفان..    رئيس اتحاد بربر يشيد بلجنة التسجيلات ويتفقد الاستاد    عثمان ميرغني يكتب: المفردات «الملتبسة» في السودان    إحباط محاولة تهريب وقود ومواد تموينية إلى مناطق سيطرة الدعم السريع    محمد صلاح يكتب التاريخ ب"6 دقائق" ويسجل سابقة لفرق إنجلترا    شاهد بالصورة والفيديو.. خلال حفل خاص حضره جمهور غفير من الشباب.. فتاة سودانية تدخل في وصلة رقص مثيرة بمؤخرتها وتغمر الفنانة بأموال النقطة وساخرون: (شكلها مشت للدكتور المصري)    السعودية وباكستان توقعان اتفاقية دفاع مشترك    المالية تؤكد دعم توطين العلاج داخل البلاد    غادر المستشفى بعد أن تعافي رئيس الوزراء من وعكة صحية في الرياض    تحالف خطير.. كييف تُسَلِّح الدعم السريع وتسير نحو الاعتراف بتأسيس!    دوري الأبطال.. مبابي يقود ريال مدريد لفوز صعب على مارسيليا    شاهد بالفيديو.. نجم السوشيال ميديا ود القضارف يسخر من الشاب السوداني الذي زعم أنه المهدي المنتظر: (اسمك يدل على أنك بتاع مرور والمهدي ما نازح في مصر وما عامل "آي لاينر" زيك)    الجزيرة: ضبط أدوية مهربة وغير مسجلة بالمناقل    ماذا لو اندفع الغزيون نحو سيناء؟.. مصر تكشف سيناريوهات التعامل    ريال مدريد يواجه مرسيليا في بداية مشواره بدوري أبطال أوروبا    ماذا تريد حكومة الأمل من السعودية؟    الشرطة تضع حداً لعصابة النشل والخطف بصينية جسر الحلفايا    شاهد بالصور.. زواج فتاة "سودانية" من شاب "بنغالي" يشعل مواقع التواصل وإحدى المتابعات تكشف تفاصيل هامة عن العريس: (اخصائي مهن طبية ويملك جنسية إحدى الدول الأوروبية والعروس سليلة أعرق الأسر)    إنت ليه بتشرب سجاير؟! والله يا عمو بدخن مجاملة لأصحابي ديل!    وزير الداخلية يترأس إجتماع لجنة ضبط الأمن وفرض هيبة الدولة ولاية الخرطوم    في أزمنة الحرب.. "زولو" فنان يلتزم بالغناء للسلام والمحبة    إيد على إيد تجدع من النيل    حسين خوجلي يكتب: الأمة العربية بين وزن الفارس ووزن الفأر..!    ضياء الدين بلال يكتب: (معليش.. اكتشاف متأخر)!    في الجزيرة نزرع أسفنا    من هم قادة حماس الذين استهدفتهم إسرائيل في الدوحة؟    مباحث شرطة القضارف تسترد مصوغات ذهبية مسروقة تقدر قيمتها ب (69) مليون جنيه    في عملية نوعية.. مقتل قائد الأمن العسكري و 6 ضباط آخرين وعشرات الجنود    الخرطوم: سعر جنوني لجالون الوقود    السجن المؤبّد لمتهم تعاون مع الميليشيا في تجاريًا    وصية النبي عند خسوف القمر.. اتبع سنة سيدنا المصطفى    عثمان ميرغني يكتب: "اللعب مع الكبار"..    جنازة الخوف    حكاية من جامع الحارة    حسين خوجلي يكتب: حكاية من جامع الحارة    تخصيص مستشفى الأطفال أمدرمان كمركز عزل لعلاج حمى الضنك    مشكلة التساهل مع عمليات النهب المسلح في الخرطوم "نهب وليس 9 طويلة"    وسط حراسة مشددة.. التحقيق مع الإعلامية سارة خليفة بتهمة غسيل الأموال    نفسية وعصبية.. تعرف على أبرز أسباب صرير الأسنان عند النوم    بعد خطوة مثيرة لمركز طبي.."زلفو" يصدر بيانًا تحذيريًا لمرضى الكلى    الصحة: وفاة 3 أطفال بمستشفى البان جديد بعد تلقيهم جرعة تطعيم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



على خلفية انقلاب «25» مايو: «اللهم كما أمتهم اقطع عنا سنتهم»!!
نشر في حريات يوم 24 - 05 - 2012


أم سلمة الصادق المهدي…
قالها الحسن البصري حين مات الحجاج..
عزاء واجب..
لو كانت النساء كمن فقدنا لفضلت النساء على الرجال.
فقدنا ليلة الثلاثاء الموافق 22/5، سيدة جسدت حكمة وقوة شكيمة المرأة السودانية التي تنجز عملها دون تجاوز للتقاليد، وقد نجحت الفقيدة في رفد المجتمع برجال ونساء فاعلين وفاعلات تصديقا لقول الشاعر: فطرة أدبك وطبع انتباهك ودون تعلم مثبوت نباهك. للحاجة ثريا الأمين المقبول أرملة السيد محمد أحمد البرير الرحمة والمغفرة ولأبنائها وبناتها: معاوية والواثق والأمين ومعتز وخالد ومنى وسهام والعباسة وهند، ولأخوان الراحلة وأخواتها ولجميع أهلها ومعارفها.. حسن العزاء والسلوان و «إنا لله وإنا إليه راجعون».
يوافق يوم غد الجمعة 25 مايو 2012م مرور الذكرى الثالثة والأربعين على انقلاب مايو 1969م، الانقلاب الذي أطلق عليه القائمون به افتئاتا على الخلق والحق اسم «ثورة مايو» وهو محض انقلاب على الشرعية مهما ادعى من هم خلفه، غير ذلك من شعارات جوفاء كانت من ضمن ما أكلته مايو في مسيرتها الحارقة التي تحكمت في مصائر البلاد والعباد لأكثر من عقد ونصف من الزمان، ثم خرج الشعب عليها وقال كلمته فيها في أبريل 1985م، وذلك مصير كل طاغية.. ومثل هذا التزييف للتاريخ وإهماله وتسمية الأشياء بغير أسمائها سمت للأسف متبع في السودان، بالرغم من عواقبه الوخيمة، مما يجعلنا ننادي المرة تلو المرة بوجوب إعادة النظر في ذلك النهج المعوج. ونداؤنا ذاك لا يقتصر طبعا على وجوب اصلاح الاعوجاج فقط، فهذا هم الهندسة، لكننا ننادي بالنهج الصحيح وعدم الإهمال خاصة للفترة منذ الاستقلال حتى اليوم مثلما ورد في تعليق لبروفيسور حسن أحمد إبراهيم، رئيس شعبة التاريخ بكلية الآداب بجامعة الخرطوم، وعميد كلية التربية الأسبق في مقدمته لكتاب اللواء محمود قلندر الموسوم «سنوات النميري: توثيق وتحليل لأحداث ووقائع حكم 25 مايو في السودان».
وفحوى ما ننادي به عمل مطلوب بالحاح لكي نقرأ أحداث التاريخ كما هي ثم نفيد من دروسها للحاضر وللمستقبل، تجنباً لرذائلها واتباعاً لفضائلها، وهذا هو الطريق الصحيح واللبنة الأولى لبناء أمة.
فلو كتب تاريخ مايو بتوثيق لم يطله شك ثم أنزل على حاضرنا وقرأناه بما يستحق من تؤدة وأناة لرأينا شر مايو المستطير باديا، ولربما وقانا ربنا من شرور يونيو ومما نحن فيه اليوم من معيشة ضنكة وحال يغني عن السؤال. فيونيو 89م كانت تكراراً بليداً لمايو 69م دلّ على عدم استفادة من عبر التاريخ ودروسه، وإن كانا على طرفي نقيض في بدايتيهما: هذا بشعارات اليمين وذاك بشعارات اليسار، وذكرنا البدايات لأن مايو في نصفها الأخير انتهت لذات شعارات أهل يونيو «الإسلاموية» ودينهم الذي يفرق .
ووجوه الشبه بين مايو ويونيو دعت الإمام الصادق في كتابه «الديمقراطية راجحة وعائدة» الى أن يشبههما بالوجهين لعملة واحدة، مفسراً ذلك التشابه بإعجاب خفي من قيادة الجبهة الإسلامية بالحزب الشيوعي لدرجة بلغت تقليده في محاسنه وأخطائه، فخلف الانقلابين: شعارات لأحزاب عقائدية. وفي الانقلابين لعب السيد أحمد سليمان دورا مهماً: مرة بشعارات اليسار وأخرى بشعارات اليمين.
وقوف عقائديين خلف مايو ويونيو والى حد ما تسليم القيادة السياسية الحكم لعبود كانت فرضية بحث قدمه د. حسن الحاج علي أحمد جامعة الخرطوم بعنوان: «الانقلابات العسكرية في السودان: الأسباب والدوافع». وسننفق بعضاً من يومنا في مناقشة ذلك البحث لما نراه من محاولات حثيثة «تمثلت لنا في مثل هذا البحث» تريد مغادرة منصة التطبيق الشمولي للتنظير وايجاد الحجة الأخلاقية للانقلابات مسنودة بالبحوث الأكاديمية.
وفرضية ذلك البحث الرئيسة هي أن تدخل العسكريين في السلطة في السودان ما هو إلا امتداد للعملية السياسية بوسائل الإكراه. أي أن الانقلاب العسكري خطط ودبّر له مدنيون بالاشتراك مع عسكريين موالين سياسياً، أو جاء بدعوة من مدنيين، وبذلك يكون الانقلاب جزءاً من العملية السياسية. وخلص الباحث بعد عروض نظرية إلى أن الدافع الرئيس للانقلاب في السودان ليس هو السمات التنظيمية للقوات المسلحة أو المظالم الشخصية للضباط، فهذه تشكّل فقط حافزاً مهيئاً للانقلاب. ولكن الدافع هو السمات الهيكلية للحكومة «شرعيتها والحريات المتاحة وقوة المجتمع المدني..الخ». ولكننا نبدي تشككا وعدم ارتياح لمثل هذه التفسيرات التي تبسط لنا الباطل في صور تمهد للتطبيع مع واقعه وتروج لمفاهيم تدعو إلى «أن المهارات العسكرية المطلوبة في الضابط مرتبطة بالمهارات السياسية ولا تناقضها، كما تفترض المهنية التقليدية». ونقول بإزاء ذلك إن الانقلاب بطبيعته المتعجلة هدام ولا يمكنه أن يكون جزءاً من العملية السياسية البناءة التي تنضج تجربتها بالتطور المتئد، كما أن التجارب على مرمى بصرنا في السودان تؤكد أن دخول الجيش في مجال الحكم يعني درجة متدنية من المهنية للجيش بلغة درجة الصفر، مثالها ما حدث أخيراً في هجليج. ونرى أن حجة فرضية ذلك البحث واهية: أولاً لأن الانقلابات الفاشلة والناجحة منذ الاستقلال فاق عددها العد والحصر. وقد ذكر السيد محجوب برير في كتابه «مواقف في درب الزمن» أن الانقلابات من أحلام صغار ضباط القوات المسلحة اليومية التي تداعب خيالاتهم منذ وقت مبكر، فلا يمكن والحالة كذلك إغفال ذلك الكم الهائل من الانقلابات في بحث عنوانه «الانقلابات العسكرية في السودان: الأسباب والدوافع» والتركيز فقط على الناجح منها لإقامة فرضيات لا تتأرجح الأرض من تحتها. ومن أسباب الضعف التي نراها تعتري البحث المذكور ذكره أخباراً «مقطوعة من الرأس» مثل قوله المرسل بلا دليل بأن حزب الأمة كان منهمكاً في الإعداد وسط الجيش لانقلاب في الخمسينيات، وقد أدهشني أن ناشطاً بقامة د. كمال الجزولي في حوار له مع «أ» ضياء الدين بلال ذكر كلاماً مشابهاً «إن اول حزب حسم قضية السلطة وفق الانقلاب العسكرى هو حزب الأمة»! «سودانايل/ الخميس 27 نوفمبر 2008م موسوعة التوثيق الشامل». وهو قول يغالط الحقائق المرصودة التي تؤكد أن الحزبين اللذين اهتما بتأسيس خلايا في الجيش في السودان، هما: الاسلاميون والشيوعيون، كما يخالف المنطق الذي يفيد بأن حزب الأمة بجماهيره الغفيرة لا حاجة به للانقلاب على الشرعية، لأن مصلحته تتحقق بالديمقراطية والانتخابات النيابية. كما أنه قول يتجاهل موقف حزب الأمة المعلن في ذلك الصدد، فكما سبق أن ذكرنا مرارا وتكرارا فإن الحزب بأغلبية كاسحة 13 من 15 «أكثر من 86%» على رأسها رئيسه السيد الصديق المهدي قد أدان الانقلاب وسيلة للحكم، وأعلن أن الديمقراطية يمكن اصلاحها بمزيد من الديمقراطية، ولكن البحث يلوي عنق الحقيقة لكي يثبت فرضية: «أن الانقلابات جزء من العملية السياسية». وفي مسيرته القاصدة تلك اعتمد في هذه الجزئية مثلما اعتمد في فرضيته الأساسية على الانقلابات الناجحة فقط وأهمل الأخرى، كذلك في سبيل دمغه لحزب الأمة اتخذ الباحث الجزء اليسير الاستثنائي وأهمل الكل الغالب، مع ان المنطق يقول ان الاستثناء يثبت ولا ينفي القاعدة.
كما تجاهل البحث أساسيات أخرى: فرغم الشبه في الشكل بين مايو ويونيو من حيث رفع شعارات الايديلوجية والسيد أحمد سليمان وقف من خلف كواليس مايو ويونيو، لكن ذلك يجب ألا يصرفنا عن النظر في التفاصيل: صحيح ان الحزب الشيوعي قد ارتبط بمايو بصورة معقدة، وهي معقدة لأن مايو رفعت شعارات الحزب الشيوعي، وشارك فيها شيوعيون بموافقة حزبهم، وخرجت مواكب الشيوعيين تؤيد مايو، وأخذ يمدحها فنانوه وشعراؤه، لكن الحزب الشيوعي بوصفه مؤسسة لم يحسم أمره من انقلاب مايو بصورة واضحة، وظل يقدم رجلاً ويؤخر أخرى لدرجة أفقدته الفاعلية وحملته الأوزار دون أن يكون كامل الشراكة والإرادة، ولا شك أن الحزب الشيوعي هو الملوم على ذلك التقصير في حسم الأمور، ولكن حصيلة الأمر أن مؤسسات الحزب لم تتبن الانقلاب مثلما ذكر «د. محمد سعيد القدال في مقاله الموسوم تداعيات تاريخية: الحزب الشيوعي وانقلاب 25 مايو، السوداني 29/7/2007م، حيث ذكر أن البيان الصادر عن سكرتارية اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في اجتماع مساء يوم الانقلاب، رأى أن ما وقع صباح 25 مايو انقلاب عسكري وليس عملاً شعبياً مسلحاً قامت به قوى الجبهة الوطنية الديمقراطية عن طريق قسمها المسلح. والشيوعيون يبدون الندم على تورطهم في مايو حتى اليوم، بينما نجد صورة جد مختلفة عند استعراضنا لأغوار علاقة الجبهة الاسلامية بانقلاب يونيو 89م، فقد ذكر المحبوب عبد السلام ود. علي الحاج وآخرون أن الانقلاب أيدته أغلبية مجلس شورى الحركة الاسلامية وعددهم «60» ولم يعترض عليه الا ثلاثة تمت تسميتهم باسمائهم، ولم تكن معارضتهم مبدئية. وأهل يونيو حتى اليوم والى الغد يفخرون بانقلابهم، بل يعدونه من ثورات الربيع العربي المبكر!!
والحال الذي أوصلتنا له مايو عند غروب شمسها واللعنة التي رمت بها الحزب الذي ارتبط اسمه بها في عهدها الأول حتى كتب أ. عبد العزيز الصاوي في الحوار المتمدن انقلاب 25 مايو السوداني كان عقاب التاريخ لليسار «العدد:2690/27/6/2009»، تلك النتائج الكارثية على البلد وعلى الحزب الشيوعي كانت كافية وكفيلة بردع أي حزب آخر من السير في ذات الدرب: اختصار الطريق للسلطة عن طريق الانقلاب لو قُرئ التاريخ بالعناية اللازمة.
ومايو هي الشمولية الثانية في تاريح السودان الحديث، ولكنها الانقلاب الأول كما ذكر «أ» عبد العزيز حسين الصاوي «في المرجع المذكور» ومايو عند الصاوي هي الانقلاب الثاني فقط بالمقياس الزماني، لأن انقلاب عبود قبلها كان عبارة عن تسليم من القيادة السياسية العليا بالبلاد وتسلم من قيادة الجيش العليا. لذلك لم يسفر عن انقلاب عبود أدنى خض لتراتيبية الجيش، ولكن ذلك لا يعني طبعاً أن خللاً لم يصب المؤسسة العسكرية بعد نوفمبر. فمجرد تورط الجيش في الحكم يعني التخلي عن المهنية وطعنة نجلاء في صدر عقيدة الجيش الأساسية في حكم ديمقراطي من أساسياته وجوب خضوع الجيش للقرار المدني والتزام الثكنات. ومع أن حكم عبود كان الأكثر رحمة بالخدمة المدنية وبالمؤسسة العسكرية والأقل فسادا وافسادا مقارنة بما رزئنا به بعده من انقلابات في مايو وفي يونيو، لكن مع تلك الميزة المحدودة فقد عانت البلاد من: حل الأحزاب السياسية وتعطيل تطورها الطبيعي، وتعطيل الصحف وتكميم الأفواه وحجر الحريات، وكل مظاهر حكم قامع منفرد بالرأي ومقصٍ للآخرين.
أما مايو الانقلاب الذي كان خلفه تحالف اليسار من شيوعيين وناصريين من الضباط برتب دنيا، فقد كان الأول من حيث العبث بتراتبية الجيش وترسيخ خروج المؤسسة العسكرية على تقاليد الجيش المنضبط. وقد كانت كلفته فادحة وقاصمة لظهر البلد، فقد أضاع: على السودان اقتصاداً مجدياً، دلائله: «الايرادات فائضة عن المصروفات فوائض مشروعات القطاع العام 25%40% من ايرادات الحكومة، للسودان رصيد بالعملة الصعبة، الجنيه السوداني يساوي 3.87 دولار، كفاءة معقولة للقطاعين الخاص والعام، اقتصاد معتمد على ذاته مستغنٍ عن المعونة الخارجية والاغاثة». وأورثتنا مايو النقيض من ذلك مثلما هو متوقع: «مصروفات زادت عن الايرادات، عائد سلبي للقطاع العام، عجز الميزانية الداخلية، والتمويل معتمد على المعونات والقروض، تدني الانتاج وعجز ميزان المدفوعات، تدهور قيمة الجنيه، تفشي الفساد تخريب المؤسسة العسكرية، تدهور التعليم والخدمة المدنية، فقد السودان دوره المركزي المعترف به، وفقد عدم انحيازه متأرجحاً بين العمالة للشرق حتى الثمالة وتارة للغرب لدرجة التورط في ترحيل الفلاشا.. الخ الموبقات».
وفي سياق ما ننادي به من وجوب القراءة النقدية الصحيحة للتاريخ، أتت سلسلة مقالات راشدة بعنوان: سنوات النميري: الصياغة القلندرية للتاريخ للأستاذ مصطفى البطل «رد الله غربته للوطن وللكتابة الشيقة الثرة..»، فقد قرأ البطل كتاب قلندر السابق الذكر بوعي ثاقب وعقل حاضر، وقدم لنا خلاصة ناقدة وذكية تدحض الأركان التي قام عليها ذلك الكتاب وسواه من أراجيف الشموليين المروجين لشرعية الانقلابات على خلفية فساد الحياة السياسية في الديمقراطية سواء الثانية أو الثالثة، «لكن قلندر يتناول في كتابه سنوات ما قبل نميري أي الديمقراطية الثانية»، فاستهجن البطل ذلك المنحى «الذي أراد أن يبسط أمام القارئ الواقع السياسي والعسكري الذي تضافرت عناصره لتشكل خلفية انقلاب الخامس والعشرين من مايو 1969م، وذلك بطبيعة الحال من وجهة نظر المؤلف، الذي يعتقد اعتقاداً جازماً بأن أحوال البلاد السياسية من حيث «الانشطارات والانقسامات» كانت من السوء والتردي بحيث كان الانقلاب مخرجاً طبيعياً من الحال الذي آل اليه أمر السودان». ولأن الحق يعلو ولا يعلى عليه، فقد أثبت البطل أن ذلك حديث لا يقف على رجلين بقوله عن تلك الأحوال: «هي في تقديرنا لا تعدو ان تكون في جوهرها بعضاً من مقتضيات التنمية السياسية الطبيعية في دولة نامية مثل السودان، لم تكن قد عرفت من الديمقراطية في عمرها منذ جلاء المستعمر غير سنين قلائل وأشهر معدودات» ويستمر شارحا «وفي عالم اليوم فإن أحداً لا يرى في انشطار حزب الليكود وخروج حزب كاديما من أحشائه معرّة تنتقص من التجربة الديمقراطية الإسرائيلية. كما أن أحداً من الذين عاصروا تقلبات الأحزاب السياسية في الهند، أرقى ديمقراطيات العالم الثالث، أو أولئك الذين شهدوا انشطارات الأحزاب السياسية في إيطاليا وقصر عمر حكوماتها في سبعينيات وثمانينيات القرن المنصرم، التي أضحت مضرب المثل في زمانها، لا يجد سبباً للحكم بالإعدام على ديمقراطيات إسرائيل أو الهند أو إيطاليا أو غيرها». وقد استحسنت الضربة «بالقاضية» التي سجلها البطل في معرض نقده للشطحات القلندرية بقوله: «ومما يدهشني كثيراً أن قطاعاً غالباً من الذين يتناولون بالرصد والتقويم مراحل التطور الدستوري والسياسي للسودان المعاصر، لا سيما من العسكريين، يميلون الى إهالة كثير من التراب على تجارب الحياة الديمقراطية الحزبية ووصمها بكل صنوف العلل والموبقات، وفي مقدمتها التشرذم وضعف الفاعلية. ولكن أحداً من هؤلاء لا يحدثنا عن أسباب كثرة انشغال ضباط الجيش بأمور الحكم والسياسة خلال ذات الحقبة التاريخية. ولا يفسر لنا الرقم المهول للتنظيمات العسكرية التي ابتغت السيطرة على الحكم عن طريق الانقلاب خلال الفترة المنبسطة منذ استقلال السودان وحتى يوم الناس هذا. كما أن أحداً من هؤلاء لا يتطوع فيبين لنا الأسباب الكامنة وراء كثرة التشرذمات بين المغامرين من ضباط الجيش داخل التنظيمات الانقلابية التي وصلت الى حد تسديد فوهات البنادق والدبابات في مواجهة بعضهم البعض، وذلك فضلاً عن العدد الكبير من الضباط وضباط الصف من المشاركين في هذه الانقلابات الذين تم إعدامهم رمياً بالرصاص أو سجنهم أو طردهم من خدمة القوات المسلحة عبر السنوات».
ونحن انطلاقاً من مثل هذه المقالات النابهة والمقولات الراشدة ننادي بوجوب التحول من منصة الدفاع عن الديمقراطية إلى منصة تسليط الأنظار والأضواء لكشف فداحة أثمان الانقلابات وتدخلات العسكر في الحكم التي ندفعها من جسم الوطن ومن دماء أبنائه، مما نجد دلائله مبذولة أماما ناظرينا من نتائج كارثية أوصلتنا اليوم لسودان مبتور الأوصال ننكر جغرافيته وديمغرافيته، فليس أقل من قراءة متأنية للتاريخ لحماية المستقبل إن كان في الكأس باقٍ!
وسلمتم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.