لقد اتضح من نتائج جولة الانتخابات الرئاسية المصرية الأولى التي تأهل لجولتها الثانية كل من مرشح الإخوان المسلمين محمد مرسي والجنرال أحمد شفيق المحسوب على فلول الحزب الوطني المحلول بأن الحراك السياسي الجاري في “أم الدنيا” لم يتعد في حقيقة الأمر الصراع التاريخي المتكرر في كل انتخابات إفريقية، وهو صراع المتنافسين على الغرائز الدنيا للجماهير، والذي تحسمه في الغالب القدرة المادية على استقطاب البطون الخاوية، فهو لا يرقى بأي حال من الأحوال لصراع رؤى وبرامج، فالأمية مخيم ظلامها على العقول والجوع مطبق بأنيابه على البطون وانتخابات “المحروسة” لم تشفع لها الحضارة الممتدة، ولا التاريخ الذي فاق السبعة آلف ربيع، فلم تشذ عن القاعدة، ولم تخل بالمعادلة الإفريقية المقدسة وإلا لانتحت النتيجة منحى آخر وأتت بواحد على الأقل من صناع الثورة، وممثلي شرعيتها الذين صنعوا هذا الإعجاز ومنحوا الشعب الحرية، والديمقراطية، ومهروا ذلك بدمائهم الزكية، ولكن هيهات فقد مضت على نفس النسق المتعارف عليه وجاءت بواحد من بقايا النظام البائد، وآخر من الملتحقين بقطار الثورة القافزين فوق موجتها من تيار الإخوان المسلمين بينما التاريخ يمد لسانه لقائمة شهداء الثورة ويستخف بطلائعها التي حملت عبء تفجيرها، وقدمت التضحيات قربانًا على محرابها بميدان التحرير ومذكرًا إياهم بفداحة الخسارة ومدى الخذلان. وكعادة بلدان القارة السمراء التي يتدنى فيها الوعي، وتشيع فيها الأمية بأنواعها أتت الغلبة لمصلحة التيارات التي توظف الأدوات غير السياسية في السباق الانتخابي تلك البعيدة عن منطق البرامج والأفكار والتي تستغل حاجات البسطاء من الشعب بصورة لا أخلاقية فتشتري أصواتهم بثمن بخس دون أن تجد حرج أو تعارض بين ممارساتها القميئة وما تطرحه من شعارات براقة بل ولا تغلب حيلة في إيجاد المسوغات التي تستند عليها وتشرعن سوء وقبح أفعالها . فنتيجة الجولة الانتخابية الأولى كشفت بوضوح الخلل الذي حدث في ترتيب الأولويات والخطأ الشنيع الذي وقعت فيه القوى الثورية وبقية الأحزاب حين لم تتمسك بضرورة تكوين سلطة مدنية انتقالية كمحطة مهمة وضرورية لأخذ الأنفاس والاستعداد لخوض غمار الانتخابات بعد أن تأخذ الوقت اللازم لشحذ إمكاناتها وحشد جماهيرها وإعادة إنتاج برامجها بعد طول انقطاع وفقا لمتطلبات المرحلة الجديدة، وعلى العكس من ذلك خضع الجميع لطرح تيارات الإسلام السياسي، ووقع تحت الابتزاز الذي مارسته وكان الغرض منه قطف ثمار الثورة باعتبار أنها –التيارات الدينية- الأكثر استعدادًا وتنظيمًا للفوز بنصيب الأسد وضعف بقية التيارات على الساحة المصرية كان يشير ويؤكد هذه الحقيقة وبالرغم من ذلك لم تستشعر غالبية القوى الثورية الخطر، ولم تفطن للخدعة، وأهملت التمسك بضرورة تشكيل سلطة مدنية انتقالية تكون من مهامها إعادة الجيش إلى سكناته وصياغة الدستور أولا ومن ثم الإشراف على الانتخابات البرلمانية والرئاسية فلو فعلت ذلك لاختلفت الصورة تمامًا، ولما وجدت نفسها اليوم تتخبط في ظل هذا الوضع المختل الذي لا يبشر بالخير. أيضا كشفت الجولة الانتخابية الأولي عن ضعف الاستعداد الفطري للتعامل مع اللعبة الديمقراطية مما سيضع مستقبل الدولة المصرية برمته في كف عفريت بغض النظر عن الفائز بالجولة الانتخابية الثانية، ففوز أي من المرشحين سيقود المجتمع والبلاد إلى مفترق خطير، ففي حال فوز الجنرال شفيق ستستفز القوى الثورية والتيارات الدينية معا وسيقودها ذلك في الغالب لرفض النتيجة واندلاع أعمال شغب لإحساسها بالظلم، وهي ترى فلول النظام الذي قبر بالأمس تعود من جديد من الشباك بعد أن تم طردها من الباب وهو إحساس مرير يصعب التحكم فيه أو السيطرة عليه. أما إذا فاز مرشح الإخوان محمد مرسي فستظل النار متقدة تحت الرماد في انتظار مصادقة الرئيس “الإخواني” المنتخب على منظومة التشريعات والقوانين التي سيضعها البرلمان ذو الغالبية السلفية والتي من المتوقع أن تأتي متعارضة مع تطلعات وآمال القوى الثورية، تضيق هامش الحراك الثوري وتعمل في مجملها على كبح الحريات العامة مما سيقود لتأزم الوضع في الشارع المصري خلال شهور ليس أكثر وانفجاره في شكل صدامات دامية بين شباب التيارات الدينية السلفية وشباب الثورة من التيارات الأخرى الحانقين من عملية السطو التي مورست على ثورتهم وتدخل مصر بذلك نفقا مظلما يصعب الخروج منه بلا أضرار جسيمة أقلها تجدد الدعوات لقيام دولة “قبطية” مستقلة. هذا الوضع الغريب الذي سيجد الشارع المصري نفسه فيه، ساهمت في خلقه جماعة الإخوان المسلمين ومن لف لفها من التيارات السلفية التي انساقت وراء جشعها للسلطة المطلقة وما فتئت تحاول “التكويش” على كافة مفاصل الدولة متجاهلة تجربة الثورة التونسية الناضجة التي استطاعت بحنكة رجالاتها تفادي هذا المأزق التاريخي، فبالرغم من التشابه الظاهر في نتائج الثورتين من حيث أن الثمار الناضجة لكلاهما قد وقعت في “حجر” التيارات الإسلامية وتخطت القوى الثورية الأخرى إلا أن فارق الوعي الجماهيري ووجود رجال مخلصين ومستنيرين على رأس التيار الإسلامي الأكثر حضورًا وتأثيرًا على الساحة التونسية (حركة النهضة) أمثال راشد الغنوشي قد ساعد كثيرا في تخطي المنزلق وعدل ميزان الحراك الثوري والسير به قدما للأمام ضمن قواعد اللعبة الديمقراطية التي تتطلب كثيرًا من الوعي والإدراك بأصول “فن الممكن” وتحتاج لمرونة فائقة وخبرة سياسية عالية وإخلاص لا محدود للقيم والمبادئ الثورية تصون وتقدم مصلحة الوطن على كافة المصالح الفردية والحزبية وهو ما حدث في تونس. ويبدو من تجاهل حركة الإخوان المسلمين المصرية للتجربة التونسية المشرقة أنها قد آثرت السير على خطى ربيبتها السودانية رغم علمها بما جرّته تلك التجربة العرجاء على السودان وأهله من بلاء وشقاء ودمار وخراب بعد عقدين من الحكم الجائر والفاشل (فالطيور حقا على أشكالها تقع) ولن يكون أمام المواطن المصري الذي قدم التضحيات ووضع آمال عظيمة على الثورة وعملية التغيير إلا أن يشد شعر رأسه ويندب حظه وهو يصيح على طريقة الممثل “نجم” في إحدي المسرحيات (شفيق يارااااااااجل!!). تيسير حسن إدريس 27/05/2012م