عندما تكون هذه «الإضاءة» بي يدي القاريء صباح اليوم «الأحد»، أكون- بإذن الله- متحركاً من مطار القاهرة إلى حيث نزلي بأحد أحياء العاصمة المصرية استعداداً لمتابعة الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية بعد أن وضعت الجولة الأولى مصر كلها، وقوى الثورة التي أطاحت بالنظام القديم في مأزق ومنعطف حاد ومصيري لم تشهد له مثيلاً منذ سقوط مبارك وأعوانه، فقد انحصر السباق الرئاسي في الجولة الثانية، بحسب المراقبين والمصريين على وجه العموم بين خيارين «أحلاهما مر»، وهذا هو مبعث الجدل الحاد والتخوفات الجدية التي تنتظم مصر كلها، والتي اتخذت حتى الآن من وسائل الإعلام المشاهدة والمقروءة والمسموعة مسرحاً للتعبيرات الحادة والاتهامات المتبادلة والتفسيرات المتضاربة حول كل ما جرى وأسبابه ودوافعه وإعمال العقول وإجهاد البصائر من أجل مخرج آمن لمصر وثورة 25 يناير، يجنب البلاد الاضطراب وينقذ الثورة من الانتكاس والتراجع، وكل ما سنفعله في هذه «الإضاءة» هو محاولة قراءة متأملة للأرقام التي حصل عليها المرشحون الرئيسيون وما تنطوي عليه من معانٍ ومؤشرات للخريطة السياسية المصرية، والحلول التي يقترحها البعض لتجاوز المأزق والأزمة قبل موعد الجولة الثانية من الانتخابات، وهي في كل الأحوال ليست قراءة ذاتية ولا حلولاً نقترحها من جانبنا، إنما هي بالدرجة الأولى نقلاً أميناً لكيف تفكر النخب المصرية في هذه اللحظة ولانشغالاتها الوقتية والمستقبلية. في الجولة الأولى حل الدكتور محمد مرسي مرشح حزب العدالة والحرية وجماعة «الإخوان المسلمين» أولاً، حيث أحرز أكثر من خمسة ملايين ونصف مليون صوت ونسبة «9،24» من مجموع أصوات الناخبين المصريين، تلاه الفريق أحمد شفيق آخر رئيس وزراء في عهد الرئيس المخلوع بأكثر من خمسة ملايين وثلاثمائة ألف صوت وبنسبة «5.24»، تلاهما الأستاذ حمدين صباحي مرشح الثورة المستقل بأكثر من أربعة ملايين وستمائة ألف صوت وبنسبة تفوق ال «20%»، بينما حصل الدكتور عبد المنعم أبوالفتوح القيادي الإخواني السابق ومرشح بعض القوى الثورية والليبرالية الذي أعلنت بعض الجماعات السلفية تأييدها له، على أكثر من ثلاثة ملايين وتسعمائة صوت بنسبة تفوق «18%» من مجمل أصوات المقترعين، واحتل المركز الخامس- خلافاً للتوقعات والاستطلاعات الأستاذ عمرو موسى وزير الخارجية الأسبق وأمين عام الجامعة العربية السابق على أكثر من مليونين وثلاثمائة ألف صوت، بعد أن رشحته تلك التوقعات للمنافسة على المركز الأول وجولة الإعادة. تقدم د. مرسي والفريق شفيق شكّل في حد ذاته مفاجأة أذهلت المراقبين لأكثر من سبب: فمرسى قد دخل متأخراً إلى سباق الرئاسة من «كنبة الاحتياط» التي لجأت إليها جماعة الإخوان وحزبها بعد استبعاد مرشحها الرئيسي خيرت الشاطر من قبل اللجنة العليا للانتخابات، وكذلك دخل شفيق متأخراً أيضاً واستبعد مع الشاطر ولكنه استأنف وتم منحه حق الترشح قبل أيام قليلة من بدء الحملة الانتخابية، كلاهما دخلا متأخرين وحلا أولاً لحظة ظهور النتائج، وكلاهما عليهما ملاحظات سالبة تتصل بكريزماهما، فمرسي ينتمي لجماعة الإخوان ورئيس حزب الحرية والعدالة- ذراع الجماعة السياسي- التي رأى كثيرون أنها لحقت بالثورة متأخرة أولاً، وأنها أعطت وعوداً كثيرة لم تفِ بها، منها خوض الانتخابات النيابية بنسبة محدودة وعدم الترشيح للرئاسة ثانياً، بالإضافة إلى موقفها من اللجنة التأسيسية للدستور التي حلتها المحكمة الإدارية العليا لعدم أهليتها وعوار قوميتها وتنكرها- كما يقولون- وانحيازها لوجهة نظر التيارات الإسلامية، وكذلك ما يتردد من اتهامات بالتخاذل، بل والاستعداء على شباب الثورة أيام ما يصفونه ب«شهر العسل» بين «الإخوان» والمجلس الأعلى العسكري، مما شجع أجهزة الأمة والبلطجية على إراقة الدماء في أحداث مثل تلك التي حدثت في شارع محمد محمود ومجلس الشعب وما سبيرو، أما شفيق فأمره واضح يتهمه المراقبون وقوى الثورة أنه يمثل مشروعاً «كامل الدسم» لإعادة إنتاج النظام القديم الذي كان أحد أركانه. هذه هي المآخذ التي تتردد في شأن كل من مرسي وشفيق اللذين تأهلا لخوض الجولة الثانية من الانتخابات، والتي يرى المحللون السياسيون أن الاختيار فيها بين أي من الرجلين يشكل مأزقاً بالنسبة للثورة وأهدافها وشعاراتها وربما لاستقرار مصر كلها. فهم يخشون من مرسي وجماعته وحزبه أن يتم الاستحواذ على كل شيء وأن تنفتح شهيتهم بعد السيطرة على البرلمان والحكومة والرئاسة لإعمال مشروعهم الفكري وبرنامجهم السياسي الذي يرون استناداً إلى آيديولوجية الجماعة وممارساتها السياسية على مدى 80 عاماً، سيقود بالضرورة إلى «دولة دينية» ويستبعد خيار الدولة المدنية ويدخل البلاد في معارك سياسية محلية مع الأقباط والليبراليين والقوى المدنية وأنماط عيش المصريين المعتادة، وفي معارك إقليمية ودولية، مثلما يخشون في الوقت عينه من شفيق الذي سيعيد إنتاج الدولة القديمة وإحياء مؤسساتها الباطشة وإعطاء «العسكر» الذين حكموا مصر على مدى 60 عاماً مضت، دوراً رئيسياً في الحياة السياسية بما يعني أن الثورة المصرية «لا غزت ولا شافت الغزا» كما عبر واحد من عامة المصريين، بل ذهب البعض إلى درجة أنه إذا ما وصل شفيق للسلطة فإنهم «الإخوان» و«شباب» الثورة سيجدون أنفسهم إما ملاحقين أو مسجونين في اليوم التالي لاستلام السلطة! ملاحظات عديدة التقطتها من خلال الجدل والسجال الذي أفرزته نتائج الجولة الأولى، أولها تحميل القوى الموصوفة ب«ثورية والديمقراطية والمدنية» جماعة الإخوان وحزبهم مسؤولية صعود شفيق إلى جولة الإعادة، لتخويفهم الناس بشعارات توحي بعزمهم على إقامة دولة دينية، وإخلافهم لوعودهم ب«المشاركة لا المغالية» وخذلانهم شباب الثورة في مراحل ومواقف فاصلة، وأدائهم في مجلس الشعب بما في ذلك تأخرهم في إصدار قانون العزل السياسي وممارسة الحقوق الدستورية. ورأوا أن كل ذلك أخاف المقترعين الذين اندفعوا نحوهم وأيدوهم في انتخابات مجلس الشعب، فتراجعوا وصدوا عنهم عندما حانت انتخابات الرئاسة فجاء تصويتهم «عقابي» وعاكساً لكل هذه التخوفات والإحباطات. فالنتيجة التي حصل عليها مرسي «أكثر من خمسة ملايين ونصف مليون صوت بنسبة 9،24%»، هي نصف ما حصل عليه حزبه في انتخابات مجلس الشعب التي فاقت أ صواته فيها العشرة ملايين، وجُلَّ هؤلاء ذهب لتأييد حمدين صباحي، برغم من فقر حملته للمال ولتنظيم سياسي كبير يقف خلفه، وكذلك الحال مع د. أبوالفتوح الذي رفض الإخوان ترشيحه واستنكروا خوضه الانتخابات عندما كانوا يعدون الناس بأنهم لن يرشحوا من جماعتهم أو حزبهم من يخوض انتخابات الرئاسة، وإذا ما جمعنا ما حصل عليه المرشحان «صباحي وأبوالفتوح» باعتبارهما يمثلان التيار العام للثورة والتغيير، نجد أنهما حصلا على ما يقارب التسعة ملايين صوت، ما يعني أنهما لو وصلا إلى التوافق قبل الانتخابات كما كان مطروحاً عليهما في بعض المبادرات، لاكتسحا الانتخابات منذ الجولة الأولى، ولحسم الأمر «الذي كنتم فيه تستفتيان». قطعاً، لا عزاء للمصريين في «البكاء على اللبن المسكوب في الجولة الأولى» فلا يزال هناك أمل في استيعاب الدرس الذي تلقاه الجميع في تلك الجولة المحبطة، وهذا ما ذهب إليه العقلاء والحكماء من كل التيارات الوطنية والديمقراطية المخلصة لأهداف الثورة والراغبة في التغيير، ومن ذلك القول: بما أن تيار الثورة والتغيير والدولة المدنية قد ثبت من خلال نتيجة الجولة الأولى أنه يملك أغلبية حقيقية تفوق التسعة ملايين من المصوتين، غير الذين غيَّبهم اليأس والإحباط من المشاركة والذين يمثلون نصف من يحق لهم التصويت، فإن الحكمة تقتضي أن يعمل هذا التيار من خلال التفاوض والتضامن على وضع شروط وضمانات أساسية لتأييد أحد المرشحين المتنافسين في الجولة الثانية- الذي يرجح أغلبهم أن يكون مرسي وليس شفيق- وأن تتمثل هذه الشروط، في الاعتذار عن كل الممارسات السابقة محل النقد والاحتجاج، وأن يتم التوافق على مدنية الدولة وديمقراطية مستدامة والانحياز إلى شعارات الثورة دونما تردد، والاعتراف بالمواثيق والعهود الدولية التي تؤمن ذلك، والانحياز إلى برنامج تنمية يراعي أوضاع الفقر والبطالة التي يعيشها أغلب المصريين وتأسيس إدارة مشتركة في مؤسسة الرئاسة والحكومة، كأن يكون صباحي وأبوالفتوح نائبين للرئيس «بأصوات ناخبيهما» وتشكيل حكومة قومية تعكس هذه الشراكة السياسية، بحيث يصبح القرار السياسي والاقتصادي بما في ذلك تشكيل اللجنة التأسيسية للدستور، مُعبِّراً حقيقة «المشاركة لا المغالبة» فعلاً لا قولاً، وهو البرنامج الذي بدأ المصريون يتنادون عليه ويعقدون الاجتماعات من أجله، ليس من جانب مرشح الإخوان والإسلاميين فقط، ولكن حتى شفيق دعا موسى وصباحي وأبوالفتوح وعماد عبد النور رئيس حزب النور للتشاور حوله. نحن إذاً في انتظار حراك سياسي لا يقل خطراً وأهمية عن ما جرى في 25 يناير والثورة التي أطاحت بنظام مبارك. ومصر في كل الأحوال «مؤمنة بأهل الله» كما قال البرعي، وبشعبها الجبار «خير أجناد الأرض».. وما علينا إلا أن نتابع وننتظر لنرى!