بسم الله الرحمن الرحيم.. كم من الدمع نذرف عليك قبل أن نُبكَى، يا وطن. يا بلدي يا حبوب، يا ابو جلابية وتوب. يا سمح يا زين؟ هناك على الشارع العريض في أركويتالخرطوم، هناك البيت الفاتح مشرع، والزول الباشر وضابح وفايح ندو ومادد يدو، كلامه مصفى وحلّو، السموه (حاردلو). قال لي ذات مرة وقد كتبت بعنوان (دلوٌ بارد مع الحاردلو) مناقشة للدكتور عدلان الحاردلو في بعض أحاديثه: لأول مرة انتبه للسخونة في لقبي. وكان حار الشعر، حار الدماء (كما نقول للشخص مجيد اللقاء حسن التبادل والحوار)، ولكنه كان هادئ السمت يصلك بإنسانياته ويأخذك ببساطته وتواضعه وبشاشته. بالأمس صباحا قالوا أشرع السفن إلى الضفة الأخرى، الضفة التي تمنيناها حتى تعلقنا ب(الرِّهاب)، يا رب ارزقنا الشوق إليك لنقر في مستقرك واجعل إقامته وإقامتنا فيه مع النبي والأصحاب. سيد أحمد الحاردلو شامي، من مواليد عام 1940 بقرية ناوا بالولاية الشمالية، السفير، والسفير فوق العادة، والشاعر، والشاعر فوق العادة، والإنسان، والإنسان فوق العادة، الذي كتب شعرا كثيرا منه: غدا نلتقي، وسوف نلتقي يا حاردلو في الجنان آمين، وكتب: أنتم الناس أيها اليمانيون، فثارت غيرة بعض اليمانيين من اشتهاره بمصطلح (سوماني) الجامع بين السودان واليمان. وكتب قصصا أكثر ما اشتهر منها (ملعون أبوكي بلد). في مصطلحنا نتحدث عن (اللفِحْ)، واللفاحون يأخذون جانب الكلام ويطيرون به بدون روية ولا فهم. (لفحوا) حديثك ذاك.. لفحه بعض السودانيين وفهموا أنك ضقت ببلادك فسببت أباها، فصار كل مغبون منهم يجد في عنوان مجموعتك القصصية ضالته فيدبج به مقالا أو قصيدة وكله يُنسب إليك، معقولة بس! على حد غناء فناننا المجيد محمود عبد العزيز؟ أنت يا صاحب (يا بلدي يا حبوب)، و(طبل العز ضرب)، و(تقول لِى شنو وتقولى لِى منو ، أنحنَا السَّاسْ ونَحنا الرَّاسْ ونحن الدّنيا جبناهَا وبَنيناها.. بِويت ..فى بِويتْ وأسْعل جدى ترهاقَا وخلى الفَاقة .. والقَاقا)، أمعقول أن تقول تلك المقولة؟ ظللت أتساءل حتى وقعت على المجموعة القصصية أهديتني إياها ضمن أعمالك الكاملة، ودهشت حينما قرأت قصة العم (سلمان) الذي غاب ابنه (عثمان) في الخرطوم فحضر من قريته النائية باحثا عنه في المدينة التي لا يأبه فيها أحد بآخر، ويباع فيها الطعام الذي يبذلونه في قريتهم للضيف بكل مودة وسخاء، والتي تخبط فيها بدون أن يمد إليه أحد يد العون فقفل راجعا لقريته وهو يسبها (ملعون أبوكي بلد). والقصة رمزية للفظ وحشية المدنية ونزعها لإنسانيات الريف وفجعها لأهله، ولا تمت بصلة للبلد الكبير الذي طالما تغنيت به وله.. قلت لك ذات مرة يا أستاذ هذا غبن كبير وظلم خطير كيف يتهمون من هو مثلك باذخ الوطنية بمثل ذلك السقوط الوطني؟ وأظنك ضربت عنهم صفحا وطويت لهم كشحا، ولكن كم ظلموك وظلموه يا حاردلو اللفاحون! أما السيد صالح الدحان ، اليمني الغاضب من استخدامك مصطلح (السوماني) الذي يعتبره ملك يمينه، فإن تفسيراته لقصة (ملعون أبوكي بلد) تدعو للرثاء. ونحن يا حاردلو لا نرثيك. نحن نرثي زمانا من الألق والروعة. ونرثي أوقاتا من السماحة والرطب الروحي يقضيها معك الزائرون، ومن الثورة وصيحات الحق يعيشها معك القارئون، وهذه الأخيرة لن تذوي وإن كان لوحها اختتم رفعت أقلامها وجفت الصحف. كم جلست قرب هرمك وجلى أن تتشتت تلك المعاني التي تنثرها بدون أن تقبع في رفوف الذاكرة بشكل مرتب. وحينما قصدتها اليوم وجدتها تناثرت كأوراق المعاني في مهب ريح الذهول. تتحدث عن (ناوا) موطنك في الشمالية، وعن مجمع البحرين الذين التقى فيه النبي موسى بالخضر، وتلك الأنهار التي تجري من تحت الفرعون، وعن ملامح شعب باذخ شامخ لا يجارى، وعن نتنياهو سوداني الأصل وأسرته تلبس الجلاليب وتتجول –لا تزال- في شعاب أرضنا، وعن انطباعات الذين عايشوا السودانيين من الأجانب وأسرهم هذا الشعب إسارا من الحب حملوه حتى رمقهم الأخير. صوتك الخفيض كان يجعل أذني تتمنيان أن تتقمصا أذني فرس أو أرنب تتجهان للصوت تمتصانه إليها، حضورك الشفيف كان يجعلني اندغم في المعاني اللطيفة التي تنثرها. أنت يا حاردلو ممن يصدقون مقولة العقاد: الشعر من نفس الرحمن مقتبس والشاعر الحق بين الناس رحمن. رحلت ولما يبزغ فجر الوطن، رحلت والناس تبحث له عن كفن، رحلت وأنت تخاطب أم درمان قائلا: كيف بالله يا امدرمان يخونك زولا ايا كان يجيكي بشيش وزي سراق ويفجر فيكي نار احقاد ويسوي سماك ديكا رماد ما انت القبة والامجاد وانت البدري والاحفاد وانت علم وانت فهم وانت للمساكين زاد تسلمي .. تسلمي.. يا امدرمان جوكي عشان يهاجر النيل جوكي جوكي عشان يموت وياك كل جميل جوكي عشان يموت فيك العديل والزين سلمت .. سلمت .. يا امدرمان اللهم ارحم عبدك سيد احمد الحاردلو، اللهم إنا نشهد بإحسانه وخيريته فاكتبه في الصالحين، اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده واطرح البركة في ذريته الصغرى، وفي الكبرى التي تمتد لتشمل عيال هذا البلد الممكون. آمين. وليبق ما بيننا.