جبير بولاد علي خلفية ثورية و عسكرية أتت الحركة الشعبية الي مفاوضات نيفاشا و التي توجت بعد عناء من التفاوض و تحت رعاية دولية و أقليمية الي أتفاقية سلام في العام 2005م . ..كان القائد المفكر جون قرنق حاضرا بقوة ، تسبقه كاريزما باهرة ، يتبعها مشروع نقدي كبير و شامل لتشخيص أزمة السودان عبر مراحل تكونه التاريخية ، و أيضا يحمل في طياته أفق جديد للحل ، مما جذب نخبة مميزة و قاعدة كبيرة من السودانيين حوله . مشروع السودان الجديد لم يكن مفصل فقط للحركة الشعبية أو جغرافيا مسرحه الجنوب فقط ، بل كان محاولة للتخلص من أخطاء الماضي و التصالح مع الذات و الهوية بعد صراع طويل أدمي القلوب و الأنوف . ..كان مشروع السودان الجديد يمكن أن يمثل نقلة فكرية و موضوعية في الواقع السوداني الراكد و الخالي من المشاريع و المبادرات الفكرية العظيمة-بأستثناء مشروع الأستاذ محمود محمد طه- و التي تمثل للشعوب طوق نجاة من أزماتها و وحلها في مستنقع الورطات التاريخية ، المتأمل للجهد السياسي للكيانات السياسية السودانية ، يجد أن حمول تجاربه غلب عليها طابع التاكتيك و المناورات و العمل علي محاولة الكسب السريع بأقل تكلفة و الأهمال التام لعملية التغيير الأجتماعي و الثقافي ، و هذا الضرب من الممارسة و كلفتها جعل السودان يمضي طويلا في درب الآلام المضني و المرهق . ..في أحدي جولات هذا الطريق المتعرج ، قدمت الحركة الأسلامية – دون أتعاظ من التجربة – مشروعها الحضاري و الذي تنكب الدرب من أوله بالصعود الي سدة الحكم بإنقلاب عسكري علي فترة ديمقراطية كانت مشاركتها فيها عالية أذ تبؤات فيها المركز الثالث و في وقت كان العالم فيه يحاول الخروج تماما من حقبة الإنقلابات العسكرية علي حكومات منتخبة . أيضا المغالطة الكبيرة حول كيفية طرح مشروع زعمه أنه حضاري علي خلفية شمولية عسكرية عقائدية و حربية و من ثمة تطوير آليات القمع فيه وصولا لحرب قاسية أدمت أنفه و جعلته مرغما لتسوية سياسية –نيفاشا- مكنت الحركة الشعبية من المشاركة في الحكم و من ثمة التمهيد للإنفصال الكبير في حياة و تاريخ السودانيين ، حق مشروع للجنوب و نتيجة متوقعة للسالكين دروب الآلام . ..مازالت الشمولية الأنقاذية تتدثر بدثار الدين كآخر ورقة توت تحفظ بها عريها و فسادها المادي و الأخلاقي في واقع أستعصت فيه الحلول و تحولت فيه الأنتماءات الوطنية الي أنتماءات جهوية و شاع مناخ الكراهية و الكراهية المضادة للسلطة. تلك السلطة التي أستحلت في خضم صراعها مع الأخرين المختلفين معها الأغتصاب و القتل و التشريد، حتي مع أصحاب العقيدة المشتركة ، و كما ذهب الجنوب عبر أستفتاء صوت فيه المواطنين الجنوبيين بعدم رغبتهم في الوحدة في وطن طالما كرست أنظمته و قوانينه لأن يكونوا مواطنين من الدرجة الثانية يمكن أن تذهب أجزاء أخري و ظهر هذا جليا عبر ممارسات و أفعال و أقوال العهد الظلامي الأنقاذي و الذي حتي داخل منظومته لم يستنكف تقسيم المنتمين اليه حسب العرق و الجهة في توزيع المناصب و المكاسب السلطانية . كل هذا بطبيعة الحال معلوم و مفهوم لدي كل الناس و لكننا فقط نمارس إعادةالقراءة للتذكير لعل الذكري تعيد رتق الذاكرة المثقوبة . ..ذهب الجنوب ينشد نشيده الوطني الجديد ، رافعا علمه أيذانا بولادة أمة جديدة . و ذهب المفكر و المؤسس د.جون قرنق بعيد أتفاقية السلام بفترة وجيزة ، و حاول الورثة الأستفادة القصوي من كارزيمتيه و حضوره الطاغي في قلوب الجماهير الجنوبية مختلفة القبائل و الأعراق و علقت صوره في كل مكان من أرض دولة الجنوب الجديدة و غرست صورة البطل للأبد في جغرافية كانت تغيب عنها صورة البطل الأسطوري او مختلف عليها كما هو واقع الحال في الشمال السوداني أذ ما زالت شخصياته الوطنية محل جدل و نقاش طويل . السؤال الذي يضج بقوة في هذه الأونة العصيبة التي تمر بها دولة الجنوب هو أين يتموضع قرنق الأن المشروع و الرؤية ؟؟ اين ملامح السودان الجديد الفكرة و النبض الخافق و أين هو القبس منه في تجليات واقع الجنوب الأن ؟؟ علي أقل تقدير أذا لم ينجح في سودان كبير قديم ، أين صورته المصغرة في سودان جنوبي جديد ؟؟ لماذا أختزل هذا المشروع الفكري الذي ظل مفكره يحارب من أجله لعقود خلت و أن لم تخلو من المرارات و التضحيات في صورة تحولت لأيقونة في الأماكن الرسمية و السفارات في الخارج و مكاتب الحكومة و كذا النقود المتأرجحة القيمة ؟؟ . هل يوم دفن جون قرنق قبرت معه أفكاره و أحلامه و ضل الورثة الطريق ؟ طريق المساواة الأجتماعية و العدل في فرص الحياة و العمل و التعليم و ….الخ ! و صعود الهامش المغيب زمنا و دولة المواطنة التي يجب ان نفاخر بها . ..حقيقة الناظر اليوم للورثة الذين خلفوا قرنق لا يدري البتة هل هناك ثمة آثار متبقية من حلم و مشروع قرنق أذ ما يزال الجنوب الدولة الجديدة تدار بنفس عقلية الأقليم السابقة ، بل أشتدت فيها أوطار القبلية الناشذة و حمي وطيس الصراع الفوقي و الذي يوما ما سيسفر عن وجه كالح لا يسر رفيق أو صديق ، كنا نفهم بعض المباغضة بين نيليين و أستوائيين لظروف تاريخية ظننا ان العمل الجاد و الصادق سوف يعالجها من سقمها و ظننا و لا أظن أن كل ظننا آثم علي أستواء و محكومية مشروع قرنق السودان الجديد أن النموذج الذي سوف يضربه كفيل بأن يضع عتبات للمضي قدما في نبذ القبلية و هدم جدر الهوامش و هزيمة ضبابية المركز و لكن و آه من ما يأتي خلف لكن هذه ، يبدو أن الطريق طويل و الزاد تبعثر ما بين الأحلام الصاعدة لأرستقراطية جنوبية جديدة و توازنات قبلية أخري يضيع فيه كل الحلم و تصبح أيقونة البطل لعنة تحملها الأجيال . علي خلفية مشهد تعس غارق في الأحباطات تتحول فيه الدولة لسوق كبير بضاعته الفساد و شح الخدمات الضرورية في أبسط صورها الماء و الكهرباء ، يعانق هذا المشهد مشاهد أخري بين أطفال فاقدي الأسر و برجوازية تعيش في نسق منفصل عن الواقع لأنها أستطاعت أن تخلق واقع جديد ، مظهره زاهٍ الأن و لكن عواقبه وخيمة و لعل هذا بالضبط ما بدأ في سني التسعينات في الخرطوم المختطفة ليعم وطن كامل مختطف و معطون في مستنقع من الفساد و سوء النية وأنحطاط ممارسة السلطة و التعاطي مع الشعب كعدو لدود .. ليس لدي الأنقاذ عدو سوا شعبها الذي مارست عليه شتي صنوف البغي و العدوان و الأذلال . الذي يحدث في ميلاد الدولة الوليدة و ثوارها القدامي من بعد جلوس أمراءها في الكراسي لكأني به يعيد دورة التاريخ في صورة جديدة قد تكون الأسواء مقارنة مع ضياع الفرص التي حدثت في دولة الشمال منذ الأستقلال و حتي يومن الحالك هذا . …تمضي السنوات بالناس ، و تتسرب منهم الأحلام و قادتهم لا يجدون في كل تراث قرنق الفكري و النضالي غير نموذج المؤتمر الوطني في الخرطوم للتقليد ..لك أن تتخيل قاريء العزيز ،فلكأنما تحول المقهور الي التماهي في شخصية القاهر التاريخية و تمثل أدواره و العمل بأدواته و المحصلة دولة فاشلة أخري تتخلق في فضاء العدم و تتقاسم ضرب المُثل في الفساد مع شقيقاتها الشرقي أفريقيات . جمهوريات بعدت فيها الشقة بين قادتها و شعوبهم للدرجة التي نسي فيها الناس وجوه قادتهم الذين قادوهم عبر أنهر من الدم و التضحيات لسدة الحكم و القيادة . ..هذه المظاهر السالبة لا تشيء بتمخض فعل أيجابي في مستقبل الأيام القادمة ، و عليه يجب علي قادة الجنوب الأن و قبل فوات الأوان تصحيح بوصلة هذه المسيرة و العمل علي الأستفادة من تاريخ ضياع الفرص في دولة الشمال بدلاً من تتبع نفس الخطي و السير في الطريق الذي لا يفضي ألا الي أزمات عميقة جدا في المستقبل يصعب اصلاحها و تكون عبء علي الأجيال القادمة . و جزء من مشاكلنا في بنية الوعي السياسي و الثقافي للنخب في عامة السودان هو ربط دورة التاريخ بانفسهم فقط ، أي يتعاملون مع التاريخ كدورة تبدأ معهم و تنتهي بموتهم دون أعتبار لحق الأجيال القادمة ..لكل الأمم في العالم و في تواريخهم آباء مؤسسين ألا عندنا فدوما ما كان الآباء هدامين و يورثون أحفادهم تبعات خطاهم العرجاء مما يضطر هولاء الأحفاد للبحث عن طرق جديدة للخلاص تكون عادة محفوفة بالجماجم و الحريق و التشريد و وضع الأوطان يتيمة في أجندة القوي الدولية و الأقليمية ذوات المصالح المختلفة . نحن أذ نكتب هذا الكلام اليوم بدافع من المحبة أولا و أخيرا و من ثمة أيضا بدافع من رج هذه الذاكرة رجا لطيفا منذ الأن قبل أن تضطرها الأيام لرجة عظمي ، تظلها سحائب حالكة تستحيل معها الرؤية و يخذلها الزمن الذي حينها يكون قد هرول بعيدا . .. لكي لا تمضي جوبا في سكة المجهول التي ولجتها الخرطوم ، فعليها صياغة و بناء جيشها القومي علي أسس جديدة تراعي التنوع القبلي و التعددي و بذر بذرة الولاء للوطن بدلا عن القبيلة و هذا مشوار ليس بالسباحة الناعمة علي شواطيء رملية ، بل هو عمل جاد تتعب في أثره الأجساد و الأذهان و لكنه ليس مستحيلا اذا صدقت النوايا و عاد للقيادة أيمانها بمشروعها الفكري ، أيضا العمل علي تغيير واقع الناس اليومي و المعيشي و الخدماتي لأن هذا يمثل درس مادي محسوس لا يخطؤه المواطنين ، و كذلك ضرب الأمثال بالنماذج الحقيقية من زمرة القيادة في المعاش و الأحتكاك بالناس lead by your example . مثل هذه الأشياء هي التي يجب أن تكون هاجس القادة و السياسيين و المثقفيين الجنوبيين ، اذا ما عاد الأستناد دوما علي أرجاع الأخفاقات للمؤتمر الوطني مجدية ، نعم هو سبب جذري لخلاصة كل الأخطاء الماضوية و الأنية في السودان و ما زال ، و لكن طالما أنت أصبحت دولة و ميراثها مشروع دفع ثمنها كثير من الرجال و النساء و حتي الأطفال ، فيجب أن يكون النتاج مختلفا . .. و أكرر ، المرء يكتب ما يكتب الأن لحدبه علي تصحيح بوصلة التجربة ، أذ ما زال هناك متسع للتصحيح في البدايات ، لأبد من تغيير حياة الناس كأولوية و النهوض بآمالهم و طموحاتهم ، لأن الأحباط سلاح قتّال قبل الأسلحة الأخري ، و هذا السلاح يقابله في معركة اليوم زرع الأمل في قلوب و عقول الناس و تجنيب جوبا من تقديم ذات النموذج الفاشل تاريخيا للخرطوم ، يجب عدم أعادة التاريخ في نسخة قد تكون هي الأسواء ، لأن التاريخ ما عاد يحتمل و شعوبه مثل هذا السير في درب الآلام .