البرهان يلتقي وفد البني عامر    وزارة العدل تحتسب المحامي العام الأسبق لجمهورية السودان السودان    ريمونتادا باريس تلقي برشلونة خارج دوري الأبطال    دبابيس ودالشريف    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    شاهد بالفيديو.. غرق مطار دبي    قوة مختصة من مكافحة المخدرات نهر النيل تداهم أحد أوكار تجارة المخدرات بمنطقة كنور وتلقي القبض على ثلاثة متهمين    ماذا حدث بالضبط؟ قبل سنة    حمدوك يشكر الرئيس الفرنسي على دعمه المتواصل لتطلعات الشعب السوداني    قمة الريال والسيتي بين طعنة رودريجو والدرس القاسي    رونالدو ينتظر عقوبة سلوكه المشين    ولايات أميركية تتحرك لحماية الأطفال على الإنترنت    وزير الخارجية السعودي: المنطقة لا تحتمل مزيداً من الصراعات    جيوش الاحتلالات وقاسم الانهيار الأخلاقي المشترك    قطر.. متقاعد يفقد 800 ألف ريال لفتحه رابطاً وهمياً    مصر.. ارتفاع حجم الاستثمارات الأجنبية إلى 10 مليارات دولار خلال 2023    خبير نظم معلومات: 35% من الحسابات الإلكترونية بالشرق الأوسط «وهمية ومزيفة»    مواطنو جنوب امدرمان يعانون من توقف خدمات الاتصال    تفاصيل إصابة زيزو وفتوح في ليلة فوز الزمالك على الأهلي    محمد وداعة يكتب: حرب الجنجويد .. ضد الدولة السودانية (2)    شركة تتهم 3 موظفين سابقين بسرقة عملائها    اجتماع للتربية فى كسلا يناقش بدء الدراسة بالولاية    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    ضبط الخشب المسروق من شركة الخطيب    رسالة من إسرائيل لدول المنطقة.. مضمونها "خطر الحرب"    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الثلاثاء    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    قصة مانيس وحمدوك وما ادراك ما مانيس وتاريخ مانيس    تنسيقية كيانات شرق السودان تضع طلبا في بريد الحكومة    رفع من نسق تحضيراته..المنتخب الوطني يتدرب علي فترتين    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    ليفربول يسقط في فخ الخسارة أمام كريستال بالاس    الجمارك السعودية: دخول الأدوية مرهون بوصفة طبية مختومة    شاهد بالفيديو.. مالك عقار يفجرها داوية: (زمان لمن كنت في الدمازين 2008 قلت ليهم الجنا حميدتي دا أقتلوه.. قالوا لي لالا دا جنا بتاع حكومة.. هسا بقى يقاتل في الحكومة)    شاهد بالفيديو.. الفنانة هدى عربي تدهش وتبهر مذيع قناة العربية الفلسطيني "ليث" بمعلوماتها العامة عن أبرز شعراء مسقط رأسه بمدينة "نابلس" والجمهور يشيد بها ويصفها بالمثقفة والمتمكنة    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تقرير: روسيا بدأت تصدير وقود الديزل للسودان    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    لن تنهار الدولة ولن ينهار الجيش باذن الله تعالى    انتحلوا صفة ضباط شرطة.. سرقة أكبر تاجر مخدرات ب دار السلام    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قارّة ضائعة:مئة وجه و لا وجه-الغناء السوداني مثلا
نشر في حريات يوم 07 - 08 - 2012


أسامة الخوّاض …..
في الرحيل نصطحب-دائما- ذكرياتنا و تقاليدنا وإبداعنا، وصورتنا عن ذواتنا،وعن الآخرين.وفيه-أيضا-أي الرحيل،نختبر صورتنا عن الآخرين و نكتشف صور الآخرين عنّا، و كثيرا ما يبلبل الرحيل قناعاتنا السابقة المنزوية في لا شعورنا الجماعي.
و أصدق مثال على ذلك، إن كثيرا من السودانيين خارج الوطن، ينزعجون و يبدون امتعاضهم حين يفاجأون بأن صورة الإخوة العرب عن الغناء السوداني لا تتعدّى (المامبو السوداني) و (إزيكم) و (كدا كدا يا الترلة).
و سنحاول في هذه المقالة تفسير تلك الصورة المختزلة للغناء،و ذلك الامتعاض السوداني،مستعينين بمقولة (النقد المزدوج) للمغربي عبد الكبير الخطيبي، أي سبر غور المشهد الغنائي السوداني المربك من خلال نقد طرفي ذلك المشهد أي (الأخر العربي) و (الأنا السودانية).
في البدء نقرِّر أن صورة الغناء السوداني في العالم العربي، شديدة الارتباط ووثيقة الصلة بالصورة العامة الإجمالية التي يرسمها الآخرون لتلك القارة المهمشَّة، الغنية بإيقاعاتها و أعراقها و إبداعات ثقافاتها المتنوعة.
و يمكننا -إجمالاً – أن نميِّز بين صورتين يرسمهما الإخوة العرب للسودان.إحداهما رئيسة، و الأخرى فرعية.و سنطلق على الرئيسة (صورة الإزدراء و الإشفاق)، و على الأخرى الفرعية (صورة الإعجاب) .
(صورة الإزدراء و الإشفاق) تنطلق من الرسالة الإعلامية السائدة عن السودان. في تلك الرسالة يبدو السودان وطن الكوارث الطبيعية و الخلافات و الحروب الأهلية و التخلّف.إن الإزدراء و الإشفاق موقعان أخلاقيان متباينان.لكنّهما ينطلقان من تصوُّرِ واحدٍ،و يتبنيان فهما ميكانيكيا يربط بين التخلّف الاقتصادي و التخلف الإبداعي.و يعطي غيابنا الإعلامي في الساحة العربية ذلك الفهم قوة وهمية.و لولا أن الله سبحانه و تعالى قيَّض لنا رجلا مثل الطيب صالح،لأصبحنا-في منطق تلك الصورة الرئيسة-شعباً بلا مبدعين.
أما (صورة الإعجاب) فقد بدأت في التشكّل في الستينيات من هذا القرن،من خلال إعجاب بعض السياسيين العرب بحركة اليسار السوداني، لكنها تجدّدت بعد 30 يونيو 1989 م. و تنطلق تلك الصورة من مواقع سياسية صرفة.في تلك الصورة –في مرحلة تجذّرها- يبدو السودان بلد القرار المستقل و التأصيل الفكري المواجه لدول الإستكبار العالمي.و هو –أيضا- بلد الزراعة و النماء و الإكتفاء الذاتي.و هنا يقترن (الانبهار الزراعي) ب(الجغرافيا المتخيّلة). وتأخذ الصورة طابعا اسطوريا-حين يكتشف راسمو هذه الصورة_أن مشروعا زراعيا واحدا في السودان-يساوي مساحة بعض الدول العربية صغيرة المساحة.
لقد نشأ (الإعجاب) فجأةً،و في غياب الإهتمام السابق المعمّق بشؤون السودان و تاريخه. و لهذا فإنه-أي الإعجاب- لا يتعدى حدوده السياسية، إلى النظر في ما ينجزه الشعب السوداني في المجالات الأخرى، ومن بينها الإبداع موضوع مقالتنا هذه- و ليس من هموم راسمي تلك الصورة-ذات الرؤية السياسية القصيرة النظر-سبر غور المجالات الإبداعية.
إذن تتجاهل الصورتان-معا-الإبداع السوداني،و إن كان ذلك يتم من موقعين مختلفين(الفهم الميكانيكي بالنسبة للصورة الرئيسة،و الرؤية السياسية القصيرة النظر بالنسبة للصورة الفرعية).
لسنا وحدنا في هذا الواقع المزري المتسم بالتجاهل لإبداعنا،فنحن جزء مما سمّي بإشكالية العلاقة اللامتكافئة بين المراكز و الهوامش أو (الأطراف) الثقافية العربية.و التحدّث عن هذه العلاقة اللامتكافئة مهم و ضروري،ليس بدافع الغبن الذي تحسه الهوامش الثقافية العربية بمختلف مكوناتها و تجلياتها و مراكزها وهوامشها،بهدف تقديم صورة أمينة و دقيقة عن تلك الثقافة. و لعله لم يعد مقبولا و لا ممكنا-نظريا على الأقل-اعتبار إن مركزا واحدا أو مراكز بعينها تمثل كل إسهامات الثقافة العربية،إذ أن العلاقة اللامتكافئة-ذاتها-بين المركز و الهوامش الثقافية العربية ليست ثابتة إلى الأبد،بل دائمة الحركة و التغيّر.و أصوات كثير من العقلاء أصبحت تنادي بمقولة الواحد/المتعدد في الثقافة العربية،اعترافا منها بالوحدة من خلال التنوع،و حق الاختلاف الثقافي و مشروعيته،فالتركيز على الصوت الواحد أو الأصوات القليلة يؤدي-بالتأكيد- إلى إفقار الثقافة العربية.
و برغم تصاعد أصوات العقلاء،فإن ظروفا جديدة مثل انتشار القنوات الفضائية و الإذاعية وسعيها للسيطرة على ذوق المشاهد و المستمع العربي و احتكاره،تكرِّس ما نسميه تقنيات الهيمنة الإبداعية،التي تمارسها بعض المراكز الثقافية العربية في علاقتها بالهوامش الثقافية العربية في علاقتها بالهوامش الثقافية العربية.و سنحاول التعريف بأهم التقنيات في علاقتها بالهامش الثقافي السوداني مع ذكر بعض الأمثلة الواقعية مصطحبين معنا الهامش الثقافي اليمني -صديقنا في الهامشية والغبن-مركزين على المجال الغنائي الموسيقي.و سنستعرض ثلاثا من تلك التقنيات،و هي على التوالي: تقنية الاستبعاد،و تقنية التجاهل،و تقنية تشويه الآخر.
تعتمد تقنية (الإستبعاد) على التجاهل الكامل لكل أشكال الغناء العربي الهامشية.و جوهر تلك التقنية يتمثل في الإستعلاء الثقافي،و تكريس الصوت الغنائي المركزي الواحد باعتباره الممثّل الشرعي الوحيد للغناء العربي. ومن ثمّ تقوم تلك التقنية باستبعاد الأشكال الغنائية و الموسيقية الأخرى.و يتم الاستبعاد-في مثل حالتنا السودانية-بحجة اختلاف اللهجة أو اختلاف السلّم أو بالحجتين معاً.
أما تقنية (التجاهل الجزئي)،فتعتمد على التقديم الموسمي المتباعد لبعض الإبداعات الغنائية و الموسيقية للهوامش الثقافية العربية.و كثيرا ما تتم سرقة إبداعات تلك الهوامش،و إجراء تطوير لها أو تعديلات عليها،بدون حفظ الحقوق الأدبية و المادية للشعراء و الملحنين و المطربين كما في حالة الغناء الخليجي مع الغناء اليمني.
و أما في الحالة السودانية فنذكر النزاع القضائي الشهير بين الفنان السوداني المعروف(محمد وردي) و الفنان المصري (محمد منير) الذي غنّى أغنية (وسط الدائرة) لمحمد وردي، و فاز بها بالجائزة الأولى في أحد مهرجانات البحر الأبيض المتوسط للأغنية. و قد صدر كاسيت لمحمد منير يحمل اسم تلك الأغنية بدون الإشارة لشاعرها و ملحنها و مؤديها الأصلي. وقد كسب محمد وردي الدعوى القضائية التي رفعها ضد محمد منير،و تم تعديل التجاهل المادي و الأدبي الذي تعرض له وردي.و الجدير بالذكر أن محمد منير أبدى استياءه للهجوم العنيف الذي شنته عليه بعض أجهزة الإعلام المصرية لاشتراكه في ذلك المهرجان بأغنية سودانية (مش قد المقام).
و أحياناً يتم ذلك التجاهل الجزئي من خلال قرصنة فنية واضحة،كما حدث لأغنية “الليل الهادئ” المشهورة في السودان لمؤديها الفنان شرحبيل أحمد.فما زال الفنان المصري محمد فؤاد يدعيها لنفسه بعد توزيعها بإيقاع “الريقي” و يطلبها عشرات المعجبين باعتبارها أغنية مصرية.
إن التجاهل الجزئي قد يتم من داخل الثقافة الواحدة نفسها كما يحدث لبعض أنواع الغناء السوداني داخل السودان نفسه،و كما يحدث-الآن- للأغنية النوبية في مصر.فقد ذكرت “الحياة” في أحد أعدادها الأخيرة أن وفدا من النوبيين المصريين سيقدم احتجاجا للجهات المسؤولة في مصر بخصوص المساحة الصغيرة التي تخصصها الأجهزة الإعلامية المصرية للغناء النوبي.و قد وعد الفنان محمد منير بدعم احتجاج أولئك الفنانين.و يتم أحيانا-ضمن هذه التقنية-الاستناد إلى تقارب اللهجات و الفنون بين بعض مراكز و هوامش الثقافة العربية.مثال على ذلك الأغنية المشهورة “كدا كدا يا الترلة” التي يؤديها المطرب النوبي المصري حسن فيكا،باعتبارها من التراث النوبي المشترك بين مصر و السودان.و من المعروف أن كلمات الأغنية ليست منظومة باللغة النوبية.و هي –أي الأغنية-تنتمي إلى ما سمي ب”الغناء السري” في السودان.و ذلك الغناء متداول في بعض الأوساط الشعبية،لكن بثه في أجهزة الإعلام الرسمية ممنوع لرداءة كلماته رغم تمتعه بألحان جميلة راقصة.
إننا عندما نذكر تلك الوقائع،لا ننطلق من موقع الهجوم أو التشهير،و إنما من روح مختلفة جدا،تلك الروح تنادي بضرورة التخلي عن المركزية الثقافية و القرصنة المتعمدة،كما تنادي بإثبات الحقوق الأدبية و المادية للأشقاء الآخرين،وإثبات قدرتهم على الإبداع مثل الآخرين من أجل تقديم صورة أمينة للغناء العربي.و نحن لا نرى غضاضة في الأخذ و الاقتباس من الهوامش الثقافية العربية-ضمن مراعاة ما ذكرناه سابقا-فإن ذلك سيساهم مساهمة كبيرة في إنقاذ الغناء العربي من مأزق النمطية و الاجترار و التكرار الممل،فالهوامش الثقافية العربية حقول واعدة،و كنوز وافرة العطاء.
أما تقنية “تشويه الآخر” فتعتمد على تقديم المعلومات الخاطئة،و النماذج الغنائية الهزيلة باعتبارها تمثل أعلى تجليات الهامش الثقافي المحدّد.مثال على ذلك أن إحدى القنوات التلفزيونية الشقيقة قدّمت أحد الفنانين السودانيين المغمورين-و هو في الأصل كوميدي نمطي-باعتباره فنان السودان الأول.
من كل ذلك نخلص إلى أن تقنيات الهيمنة الإبداعية لا تساهم في التعريف الحقيقي و المخلص بالغناء السوداني، بل إنها أحيانا تنسبه زورا وبهتانا إلى مراكز ثقافية أخرى.و هذا الوضع يساهم في تعتيم صورة الغناء السوداني في العالم العربي.
إن مقاربة المشهد الغنائي السوداني المربك لا تكتمل إلا بتناول الطرف الثاني في عملية “النقد المزدوج”،أي نقد “الأنا السودانية” في علاقتها بالغناء السوداني.
وللقيام بذلك النقد سنطلق من فرضيتين: الفرضية الأولى تتأسس على تأكيد التنوع الغنائي والموسيقي الذي تتميز به الثقافات السودانية المختلفة،و أية محاولة لنشر إبداعنا الموسيقي و الغنائي ينبغي أن تتأسس من خلال حوار طويل و خصيب و شائك حول ما سمي بإشكالية “الهوية الثقافية” في السودان.فالثقافة السائدة في السودان-الآن-هي ما سميت بثقافة الوسط التي تقوم باستبعاد بقية الثقافات السودانية،و هذا ما يسمى في الخطاب الثقافي المعاصر بإشكالية العلاقة بين المركز و الهامش.فهناك من يعتقد أن الغناء السائد محليا-و في غالبيته من غناء الوسط-هو الممثل للغناء السوداني،و هناك من يعتقد-مثل أحمد القاضي-أن الموسيقى السودانية افريقية.
إن هذا الغموض في تحديد هوية الغناء السوداني، بالإضافة إلى تجاهل الآخرين له، و انغلاقنا،و عدم إيصال إبداعنا إلى الآخرين،كل ذلك قاد إلى ما نسميه “التشرّد الروحي” بحثا عن تفرد غير مؤسس،و خصوصية ذات جذور واهية و متوهمة.
يجري البحث عن ذلك التفرد المزعوم بواسطة ” البلاغة” أحيانا.تكتب سلمى الشيخ عن الفنان السوداني شرحبيل أحمد و مشاركته مع الأمريكي كيني روجرز في احتفالات “نداء السودان” (Sudan Call)،تقول إن شرحبيل كان ندا “لكيني روجرز” لا يقل عنه.و ليس من دواعي التباهي-و لكنها الحقيقة-كان قمرا يستدير على خشبة المرسل،مرسلا أشعة أحاطت السامعين بهالتها وضيائها”(الاتحادي الدولية 3/9/1997 م).
وفي محاولتها لتأكيد الحضور العالمي لشرحبيل،تتخطى سلمى عتبة البلاغة،إلى فضاء المبررات الواهية..تقول”حين زارت الأميرة آن السودان طلبت أن يغني لها شرحبيل شخصيا.وهذا إن دلّ على شيء،فإنه يدل على أن شرحبيل فنان له حضوره العالمي”أ.ه.
يتمظهر “التشرد الروحي” من خلال البحث عن خصوصية متوهمة، استنادا إلى مبررات ضعيفة وغير مقبولة-يقول نجيب نور الدين-أحد النقاد الفنيين السودانيين-تعليقا على رأي شاب نرويجي صادفه في القاهرة”إننا نقدم مزاجا غنائيا أو موسيقيا خاصا،و أن الموسيقى السودانية موسيقى أصيلة ذات جذر خاص و متميز تماما،كما هي الأذن السودانية عالمية الإحساس و التذوق”(الخرطوم 9/9/1997.
“التشرد الروحي” يتجسد-أيضا في مشاعر اليأس من تقبل الإخوة العرب للغناء السوداني-يقول ميكائيل الضو-أحد الموسيقيين السودانيين-”العرب ليس لديهم استعداد نفسي لسماع الموسيقى السودانية”(الخرطوم 9/9/1997.
يتجاهل الكثيرون أن السلم الموسيقي السائد في الغناء السوداني هو السلم الخماسي.و موسيقانا السائدة شبيهة بموسيقى شعوب القرن الأفريقي.و لذلك تنتشر الأغنية السودانية في تلك المناطق.و هذا لا ينفي وجود أشكال من السلم السباعي في بعض بقاع السودان.و هناك محاولات لقرض السلم السباعي على الذوق السوداني بتصنع تأليف أغانٍ على ذلك السلم.و أنصع مثال على ذلك محاولات الفنان العاقب محمد حسن.و يرجع أحمد القاضي تلك المحاولات إلى تأثير ما سماه “ثقافة ما بعد الاستقلال” ،”تلك الثقافة التي تجعل بعض السودانيين،و من بينهم بعض المثقفين،يسألون بسذاجة لماذا لا تكون موسيقانا و أغانينا على السلم السباعي؟” (الخرطوم 4/9/1997).
لقد ذكرنا الفرضية الأولى للتنبه إلى ضرورة الحوار حول هوية الغناء السوداني،و كذلك للتأكيد على أن اختلاف السلم الموسيقي السائد عن السلم السباعي لا يعطي الآخرين –أعداء الاختلاف المشروع-حق استبعادنا عن الغناء العربي،و لا يمنعنا من رفد ذلك الغناء ب”المختلف” و “المغاير”.كما لا يلزمنا ذلك الاختلاف بمباركة المحاولات القسرية التي تهدف إلى حشرنا بالقوة-دونما مشروعية تاريخية معقولة في السلم السباعي-انطلاقا من الإحساس بالدونية و الضآلة الثقافية.فاختلاف السلم لم يمنع الانتشار الواسع في الساحة العربية للأغاني سالفة الذكر.
أما الفرضية الثانية فتستند إلى أن الشعوب-في الأساس-هي التي تقوم بنشر إبداعها بين الشعوب الأخرى.و من يتقاعس عن القيام بذلك الدور، ليس من حقه إلزام الآخرين بالقيام بذلك بدلا عنه.و لهذا نعتقد أن نقد “الأنا السودانية” في علاقتها بالغناء و الموسيقى،ينبغي أن يتأسس على الاعتراف بهشاشة و ضعف البنى التحتية الإعلامية السودانية،و تقصيرها في نشر الغناء السوداني خارج الوطن.لقد اعتمدت المحاولات التقليدية لنشر الغناء السوداني على الموسمية البيروقراطية و الفردية.و قد ارتكز ذلك النشر على إرسال بعثات فنية للمشاركة في الأعياد الوطنية للدول الأخرى. و تم الاعتماد على برامج التبادل الإذاعي بين الدول العربية.و هنالك محاولات فردية قام بها مطربون أمثال سيد خليفة و محمد وردي وغيرهما.
إن هنالك تخلفا على مستوى الدولة و الطبقات القادرة في السودان-في وعي الأهمية الثقافية و السياسية والاقتصادية الفائقة للإبداع،و تنفيذ ذلك يحتاج إلى رأسمال كبير يفترض أن توفره الطبقات القادرة.لكن تخلف و جبن الرأسمالية السودانية حال دون ذلك.و هذا يفترض قيام الدولة بدور النموذج،و تسكين مخاوف تلك الرأسمالية من خلال إنشاء مؤسسات حكومية مبدعة و مربحة و متحللة إلى حد كبير من قيود البيروقراطية.كما يفترض سن قوانين مشجعة للإستثمار في المجالات الإبداعية،و دعم الشركات الخاصة.ما أريد أن أصل إليه هو ضرورة تأسيس “صناعة ثقافية” متطورة،فنحن في أشد الحاجة إليها،بالرغم من النقد اللاذع الذي يوجهه كثير من المفكرين الغربيين و العرب إلى مفهوم “الصناعة الثقافية”.
سيؤدي ذلك إلى تطوير القنوات التي ستقوم بترويج الغناء السوداني خارج الوطن.فنحن في حاجة إلى “الفيديو كليب”من خلال تطوير الأداء الساكن الوقور الذي أشتهر به المطربون السودانيون باستثناء قلة منهم على رأسهم سيد خليفة و الجيلاني الواثق و حنان بلو بلو (1).لذا نرى ضرورة إدخال الرقص المصاحب للحفلات الجماهيرية،فنحن نملك تراثا هائلا من الرقصات الجذابة المتنوعة.
و نرى كذلك الاستفادة من الجهود العظيمة في مجال التوزيع الموسيقي مثل محاولات فرقة “السمندل” الموسيقية،و فرقة “عقد الجلاد”و الفنان يوسف الموصلي.
و نرى ضرورة التركيز على الأغنية الخفيفة الراقصة لنشر أغانينا في العالم العربي.و هذا التركيز طبيعي و مطلوب،فالتاريخ يعلمنا أن كل الأغنيات السودانية الرائجة-على قلتها-في العالم العربي،تتميز بالإيقاع الراقص الخفيف.و السودانيون الذين يمتعضون من أن تلك الأغنيات الرائجة تتميز أحيانا بركاكة في الكلمات،ينطلقون من تصور خاطئ لفن الغناء ظلّ يحكم الذوق الغنائي السوداني طويلا،و هو الإعلاء المتضخم من شأن الكلمة على حساب المكونات الأخرى لفن الغناء.و نجاح الموسيقى الهندية،و تجربة “الراي” الجزائرية تؤكد الأهمية الكبيرة للإيقاع في نشر الأغنية.لذا علينا الاستفادة من المخزون الشعبي السوداني الموسيقي،و أن نقف ضد النظرة النخبوية السائدة التي تحط من شأن ذلك المخزون الشعبي بحجة رداءة كلماته.لماذا لا ننقيه من ركاكة الكلمات،و نحتفظ بحيويته الموسيقية؟
علينا-أيضاً-معالجة القصور الواضح و التدني المريع في مجال تكنولوجيا تسجيل و تصوير الأعمال الموسيقية و الغنائية.
إن حضورنا الدائم يستوجب أيضا حضورنا الموسمي من خلال نزع حجب الانغلاق و المشاركة في المهرجانات الموسيقية و الغنائية على النطاق الإقليمي و الدولي. كما يستوجب إقامة مهرجانات ندعو إليها الإخوة العرب لتحقيق المزيد من التثاقف.
و للحفاظ على تراثنا الموسيقي و الغنائي من القرصنة و النهب، علينا توثيقه في المنظمات ذات الصلة بحماية الحقوق المادية و الأدبية للمبدعين.
تبقى هناك نقطة أخيرة،تتعلق بغلبة الطابع الذكوري على الغناء و الموسيقى في السودان.و هذه مشكلة شائكة،على ثقافاتنا السودانية أن تنهض بحلها،حتى تعود إلى مشهدنا الإبداعي الغائبة الكبرى(المرأة) السودانية(2).
هوامش:
*نشر في ” السفير الثقافي” البيروتي في 11/9/1998 ، كما نشر في حلقتين بعنوانه الأصلي “صورة الغناء السوداني في العالم العربي” في جريدة الخرطوم القاهرية في 28 و 29/7/1998 م، وقد راقنا عنوان السفير فتبنيناه في كتابنا “خطاب المشَّاء-نصوص النسيان” الصادر في طبعته الأولى عن مركز الدراسات السودانية بالقاهرة في عام 1999. و لم نضف سوى إشارتين تحت الرقم (1) و (2).
(1) يمكننا أن نضيف على سبيل المثال البعيو الذي هجر الغناء لأسباب دينية ثم عاد إليه مرة أخرى بأسلوبه الراقص، و كذلك الفنان نور الجيلاني الذي وصفه من باب الكيد الفني غير المستساغ-الفنان الكبير محمد وردي بأنه يشبه طرزان في تعليق له على أسلوبه الراقص و الغنائي.
(2) نلاحظ تزايد أعداد المغنيات في العقد الأول من القرن الواحد و العشرين.
أسامة الخوّاض
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.