موسى إدريس حامد – جدة… [email protected] في أول ظهور له بعد، الانتفاضة أو الزلزال الذي هز كيان الزمرة الحاكمة في أسمرا، أطل الدكتاتور أسياس أفورقي من شاشة الفضائية الإريترية اليتيمة في لقطة تجمعه مع حليفة الرئيس البشير المنبوذ من شعبه ومن سائر الأمم والذي طار إلى أسمرة في زيارة قصيرة غير معلنة، لمؤازرة الطاغية في محنته وأيضاً لتقصي الأوضاع تمهيداً لمرحلة جديدة تتبدل فيها المواقف، ولكن بعد فوات الأوان وهذه عادة حكومة الإنقاذ التي تتسم بقصر البصر والبصيرة. شخصياً، لا أعلم سر العلاقة المريبة بين حكومة الجبهة الشعبية الجاثمة في صدور الشعب الإريتري منذ أكثر من عقدين، وبين حكومة جبهة “الإنقاذ” الحاكمة في السودان، فالأولى مسيحية كهنوتية ضاربة في التطرف مارست وتمارس أقصى أصناف التفرقة والاضطهاد ضد مواطنيها من المسلمين، والأخيرة تتاجر بالدين وترتكب أفظع الجرائم والمجازر بحق مواطنيها باسم الدين أيضا. الحكومات السودانية المتعاقبة منذ الاستقلال الديمقراطية منها والشمولية ظلت تتعامل مع الملف الإريتري، بكثير من الغموض واللامبالاة بالرغم من البُعد الاستراتيجي لهذه العلاقة، أبرزها تداخل القبائل على ضفتي الحدود والتي يمتد جذورها ويتوغل إلى عمق البلدين، وهذا الأمر لا يمكن تجاهله بسهولة، فسكان المنخفضات الإريترية في الواقع أقرب إلى السودان ثقافياً ووجداناً. الاستعمار البريطاني حاول إبان فترة الانتداب بعد هزيمة ايطاليا في الحرب العالمية الثانية، اللعب في هذه التداخل الإثني والاجتماعي، وعمل جاهداً على تقسيم إريتريا عبر إلحاق المنخفضات الاريترية ذات التوجه الحضاري الإسلامي إلى السودان، وضم الهضبة ذات الأغلبية المسيحية إلى إثيوبيا، إلا أن هذا المشروع كان مصيره الفشل بعد أن تصدى له الشرفاء من أبناء الوطن في حينه، وكان البديل مشروع آخر يربط إريتريا فيدراليا بأثيوبيا لمدة عشرة سنوات وذلك بمباركة من الولاياتالمتحدة والغرب عموماً، إلا أن أثيوبيا خرقت الاتفاقية وضمت اريتريا عنوة في مسرحية مكشوفة إلى التاج الأثيوبي، بالرغم من احتجاجات الشعب التي قمعت بوحشية، بينما بارك أكثرية المسيحيون خطوة الضم وانتفضوا للتصدي لكل من يعارضها. وفي مواجهة الواقع الجديد، وقبل الإعلان عن انتهاء النظام الفيدرالي رسميا، فجرت جبهة التحرير الإرترية بقيادة حامد إدريس عواتي الكفاح المسلح عام 1961، وفي الوقت الذي أيدت فيه غالبية الشعب المسلم الخطوة، ظل موقف المسيحيين الإريتريين معادي للثورة الوليدة بل تصدت لها بكل قوة لخشيتهم من فصل إريتريا عن أثيوبيات المسيحية وإنشاء دولة ذات أغلبية مسلمة وبالتالي تهميش المسيحيين. ووفق من ناضلوا في صفوف الجبهة الشعبية الحاكمة، فأن إسياس أفورقي عندما التحق بالثورة الإرترية، لم يكن هدفه الحقيقي حرية إرتريا وسيادتها، بل كان لنصرة المسيحيين الناطقين ب”التجرينية” سواء في إريتريا أو أثيوبيا على حد سواء، وهو ما يشير إليه بوضوح بيانه أو كتابه “نحن وأهدافنا”. وبعد سقوط الإمبراطور هيلي سلاسي ونهاية الملكية في أثيوبيا في عام 1974م وتولي الطغمة العسكري “الدرغ” مقاليد الأمور في أثيوبيا وإعلانها النهج الاشتراكي، سعت الولاياتالمتحدة والدول الغربية لإسقاط هذا النظام، عبر دعم الثورة الإريترية بالسلاح بشروط، أبرزها ألا يؤدي هذا الدعم إلى استقلال اريتريا وبالتالي بروز تيار وطني إسلامي يعادي دولة إسرائيل وكان المقصود هنا جبهة التحرير الإريتريةذات التوجه الإسلامي العربي، ومن هنا كان الخيار الجاهز مساندة وتقوية تنظيم الجبهة الشعبية ذات التوجه المسيحي. ولتنفيذ هذه الإستراتيجية تم الهجوم على جبهة التحرير الإرترية من قبل الجبهة الشعبية لتحرير إرتريا بمساعدة جبهة “الوياني” الأثيوبية، بعد أن مهدت أجهزة الاستخبارات الغربية والقوى الخارجية ومنها الحكة الإسلامية في السودان الأرضية لحدوث هذا الأمر، عبر تجنيد عناصر من داخل التنظيم، وكانت النتيجة الحتمية نهاية الجبهة العريضة التي كانت تسيطر على أكثر من 80 في المائة من أراضي إرترية بشكل دراماتيكي وخروج مقاتليها من أرض الميدان وتسليم أسلحتهم للأجهزة الأمنية على الحدود السودانية، وبالتالي سيطرة أفورقي وزمرته على مقاليد الأمور في إريتريا حتى يومنا هذا. خلاصة القول، إن حكومة الإنقاذ ساهمت بشكل مباشر في إطالة عمر الطاغية أفورقي الذي حول البلاد إلى دولة بوليسية، واستباح دماء وأعراض وممتلكات المسلمين وزج بشيوخهم في السجون لعشرات السنين دون محاكمات، وعندما رفعت حركة الجهاد الإسلامي السلاح للرد على ممارسات الظالم، وضعهم الترابي بين ثلاثة خيارات صعبة، محاورة النظام، إلغاء السلاح والإقامة كلاجئين أو مغادرة السودان والعمل من بلد آخر، ومن حينها يواجه المعارضون الإريتريون وحتى المواطن العادي الفار من بطش نظام الشعبية المضايقة والتضييق من أجهز الأمن السودانية، في الوقت الذي يحتفظ فيه أفورقي بأوراق ضغط لاستخدامها عند الحاجة ضد نظام البشير، لتبقى العلاقة بين النظامين إحدى أكثر العلاقات غموضاً في تاريخ الأمم.