ظلت الانظار والتوقعات تتجه ولحقبة تمتد إلى أكثر من نصف القرن إلى السينما السودانية بوصفها الاداة التعبيرية الاشد تركيباً في منظومة الفنون البصرية للعب دور استثنائي وخاص لتجذير الوعي والاحاطة بجملة من العلاقات الثقافية والإجتماعية والسياسية بين المجتمعات السودانية المتعددة. والسينما السودانية التي اعلنت انطلاقتها منذ اواخر الاربعينيات في القرن الماضي، ذهبت من حيث الانتاجية العالية من الافلام التسجيلية والجرائد الفيلمية إلى منحى بشر بتطور ثر ونوعي في مستقبلها القريب والبعيد. فالبدايات المهنية الممتازة لللراحل كمال محمد إبراهيم، وجاد الله جبارة، ومحمد عيد زكي، اعطت ايحاء قوياً بأن القادم افضل بعد الاستقلال. ومثلما لم يمثل حصول السودان على استقلاله أية نقلة حقيقية أو منصة فعلية لتأسيس خطاب للدولة الوطنية الحديثة الولادة، انعكس ذلك بشكل حار وفوري في ان تمضي السينما كفن صناعي وتجاري بذات الارتباطات النمطية القديمة من حيث كامل تبعيتها للدولة وانصياعها للبرامج الخدمية المطلوبة منها في وظائف الدعاية السياسية والترويج للحكومات المتعاقبة. ولولا فيلمان للراحل كمال محمد ابراهيم ببداية الستينيات هما «المنكوب» و«طفولة مشردة» لاستطعنا القول: بإن الإنتاج السينمائي السوداني بعد الاستقلال قد انحصر بنسبة مائة في المائة في ذات الاتجاهات والموضوعات السابقة للاسقتلال. وإذا كانت الستينيات قد شهدت تأسيس الانتاج السينمائي ليحل محل وحدة افلام السودان، فان الجديد في المشهد جاء في فهم التحديث من الجانب التقني، فتم استيراد اجهزة ومعامل التحميض ومواكبة العمل بنظام حديث من الكاميرات، أما جانب ترقية القدرات البشرية بالتدريب والابتعاث الى الخارج، فقد وجد انحساراً واضحاً بالمقارنة بما قبل الاستقلال الأمر الذي لم يجدد في التفكير السينمائي للعاملين، وثبتت فيهم ثقافة العمل من اجل الوظيفة دون الانتباه الكافي للوظيفة الابداعية الاخرى والتي وان كانت تتطلب تماساً مع مؤسسات سياسية وثقافية مختلفة، إلاّ ان تلك المؤسسات تظل وحتى اللحظة هي ضرب من الخيال والوهم. فانحياز الافلام للتعبير عن قضايا مصيرية وذات مردود على الرأي العام الشعبي كان قد اتضح من حيث الأثر والفاعلية في افلام وسينما افريقيا الاستوائية عندما تقدمت قدرات وقامات ثقافية فريدة كالسينغاليين عثمان سامبين وابوبكر صامب وفيما بعد الموريتاني محمد عبيدو وغيرهم، ناظرين الى الكاميرا السينمائية كسلاح شديد الخصوصية في معركة التحرير الثقافي. ادى غياب ذلك المنظور ومنذ البدايات السينمائية السودانية إلى إنتاج تبعات سالبة متكررة في غالبية الانتاج الفيلمي. ولولا بدء مجيء الخريجين السينمائيين منذ منتصف الستينيات والسبعينيات امثال إبراهيم شداد، والراحل علي عبد القيوم، وسامي الصاوي، والطيب مهدي ومنار الحلو وسليمان محمد إبراهيم وصلاح شريف لظلت الانتاجات الفيلمية تراوح فكرتها النمطية المتصلة بتبعية المنهج الدعائي التبشيري ببرامج الحكومات وانجازاتها. فالسبعينيات اعطت نفساً جديداً لا يمكن فصله من صعود الثقافة التقدمية والنظرات السياسية الراغبة في إحداث التغييرات الاجتماعية التي وجدت صداها وتعبيراتها في بقية انواع الفنون والآداب الاخرى آنذاك. وبالرغم من الهيمنة الحكومية المتواصلة على الانتاج الفيلمي، إلاّ ان الخريجين الذين اتيحت لهم فرص العمل على الافلام قد تمكنوا من إجراء جملة من التحايلات والمراوغات لأساليب التقييد والرقابة على أعمالهم، ما هيأها للحصول على عدد من الجوائز في المهرجانات الاقليمية والعالمية. الفكرة الجوهرية من كل ما سبق، تخلص في ان ارتباط الانتاج الفيلمي السينمائي السوداني بملكية الحكومات ومن ثم بسياساتها الاعلامية المباشرة قد شكل قيداً منيعاً على الخروج إلى فضاءات إنتاجية مغايرة من ناحية، أما فمن الناحية الاخرى، نجد ان التكوين المهني والمفهوم للسينمائيين غير الدارسين كون انهم افندية مخلصين للدولة كربيب للعمل، جعلهم غير مهتمين بالأدوار الاخرى للسينما. ان تجربة الخريجين قد افادت بتقديم درس مغاير يقول إن بالامكان التمرد على العلاقة من داخلها دون فضها، وهذا ما قالته تجربة تقترب من العقدين دون ان تحول من وضع نهاية فاجعة لها في الثلاثين من يونيو العام 9891م، عندما قلبت الجبهة القومية الاسلامية طاولة الاوضاع على رؤوس الجميع بمن فيهم الخريجين السينمائيين والمنجزين الإداري والبنيوي والتحتي المتواضعين اللذين ظلا يعملان لفترة تقارب نصف القرن من الزمان انطلاقاً من المفهوم الثقافي المضاد للحكم الجديد وشراسة موقفه من السينما. منذ ذلك التاريخ، وبتأثير متغيرات اخرى عالمية جرت في مجال تكنولوجيا الاتصال وبدء العمل على نحو نشط بنظام الاقمار الاصطناعية وتعاظم اعداد الفضائيات، اتجه السينمائيون السودانيون من الداخل وبلدان المهجر الى كاميرا الفيديو كوسيلة للتعبير. اخرج ابراهيم شداد فيلمين بكندا، وكل من الطيب مهدي وسليمان محمد إبراهيم فيلمين لصالح الجمعية السودانية للبيئة، وكذلك انور هاشم والراحل كمال محمد إبراهيم عدداً من الافلام للتلفزيون السوداني. اختياري لمصطلح افلام سودانية بدلاً عن سينما سودانية يمكن الآن توصيف أو تبرير مشروعيته نظراً للتداخل الذي جرى ويجري بين السينما والفيديو، ليس فقط في مصانع أو تجارب الشركات الكبرى مثل سوني وباناسونيك وغيرهما، بل في التحول الذي تم في استخدام السينمائيين لأنواع وادوات صناعة الصورة المتحركة. فكاميرات النظام الرقمي وما بعدها انتجت نطاقاً جديداً للانتاج، وكونت مجتمعاً مختلفاً للمشاهدة، وهي في تعدد احجامها وتنوع قدراتها التقنية تتيح فضاء بكراً من الاتصال يتمثل في القنوات الفضائية وليالي المشاهدة الجماعية واندية المشاهدة. هذا الواقع الاتصالي الحالي قد يرسل نعياً صريحاً للأفلام ذات المقاسات السينمائية والعروض السينمائية بماكيناتها وطقوس صناعتها ومشاهدتها، ولكنه يفتح قدراً هائلاً من الفرص لمخاطبة الرأي العام الشعبي والطرفي. كما أن توافر وسائل التصوير ورخص أسعاره نسبياً، كصناعة الافلام التسجيلية التلفزيونية، تتيح لممثلي الاطراف والثقافات المهمشة التعبير الثقافي والسياسي. والمجتمعات السودانية في تعددها وتنوعها الثقافي تعتبر مثالاً نادراً للمجتمعات التي يمكن للاتصال المرئي الفيلمي ان يتجذر وينتشر فيها للقضاء على اوضاع سوء التعارف الثقافي بينها - الاوضاع التي لعبت دوراً نافذاً في تشكيل ثقافة العداء الثقافي ومن ثم العنف السياسي كتعبير عن ذلك العداء. إن الصورة المتحركة - ان وجدت التوظيفات الخلاقة - تستطيع العمل بانساق نشطة لا مثيل لها في تعميق قيم احترام التنوع وثقافة الآخر ومعتقدة. غير ان الواقع الحي يقر بأن المجتمع المهني في مجال صناعة الافلام بالسودان لا يزال يعاقر المزيد من المصاعب المفاهيمية للتحولات البنائية العاصفة التي جرت في تكنولوجيا الاتصال وهو على ذلك الحال يظل مقيداً بحنين طاغٍ مؤلم بأمل انتظار عودة السينما الغائبة. ? د. وجدي كامل، مؤلف ومخرج سينمائي سوداني. درس الاخراج السينمائي ونال درجة الدكتوراة في الدراسات السينمائية في جامعة موسكو. يقوم حالياً بالتدريس بقسم الاعلام، كلية الآداب جامعة الخرطوم. من مؤلفاته، السينما الافريقية: ظاهرة جمالية. ترجمه الى العربية عادل عثمان، من منشورات المجمع الثقافي، أبو ظبي، الامارات العربية المتحدة، المجمع الثقافي، دار الحصاد دمشق عام 2000م.