ربنا الله جل جلاله المنعم الوهاب حبا لقمان بالحكمة ومن اوتى الحكمة فقد اوتي خيراً كثيراً وامره المولى جل وعلا ان يكون عبداً شكوراً لان الحكمة نعمة كبرى وهي ضالة المؤمن، واورد لنا الله تعالى في محكم تنزيله ضروباً من حكمة لقمان حين قال لابنه لا تشرك بالله ووصاه ببر الوالدين وان يعلم يقينا بان الله يعلم كل كبيرة وصغيرة. ولا تخفى عليه خافية، كما اوصى ابنه باقامة الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وان لا يصعر خديه ولا يمشي في الارض مرحاً لان الله لا يحب كل مختال فخور وان يقصد في مشيه ويغضض من صوته. وما يرد في القرآن الكريم من أوامر ووصايا يجب اتباعها ومن نواهٍ يجب الابتعاد عنها. ويقولون في القول المأثور «الحكمة يمنية» ولا غرو في ذلك فاليمن ذات حضارة عريقة تمتد جذورها لمملكة سبأ ومعظم الممالك التي نشأت في ربوع الجزيرة العربية بمن فيهم الغساسنه والمناذرة من اصل يمني وينسب معظم اهل السودان الى العرب القحطانيين وهم من جنوب الجزيرة العربية اي من اليمن. والحكمة يمكن ان نقول إنها سودانية ايضاً. من المواقف التي تدل على حكمة اهل السودان ما حدث من السيدين اسماعيل الازهري ومحمد أحمد محجوب حين رأيا ان الحكومات والدول العربية بينها قطيعة وتباعد بل وروح عدائية قبل حرب 6 يونيو 1967 . وبعد تلك الحرب رأي اقطاب السودان ان افضل سبيل لاسترداد الاراضي المحتلة هو توحيد الصف العربي وبالفعل دعوا الى قمة عربية تعقد في الخرطوم ووافق الرؤساء والملوك العرب على مبادرة السودان وانعقدت القمة التي كانت تسمى بقمة اللاءات الثلاث وتصافى الملوك والروءساء وفي مقدمتهم الملك فيصل والرئيس جمال عبد الناصر والتزمت الدول النفطية بتقديم الدعم المالي لدول المواجهة. واقرت القمة دخول النفط كسلاح في المعركة لاسترداد الاراضي المغتصبة وفي ذلك الوقت وحتى اليوم ظلت العلاقات بين الدول العربية ودية تحت مظلة جامعة الدول العربية وبالرغم من ان هذه الجامعة كيان صوري إلاّ ان الآمال معقودة على ان تجمع شمل الشعوب العربية تحت اتحاد واحد مثل الاتحاد الاوروبي. ومما يثلج صدورنا اننا نرى في هذا الزمان ومن وقت لآخر سيادة الحكمة في بلادنا ومن امثله ذلك فتح ابواب المصالحة الوطنية فالوطن للجميع ولا يصح ان تقف بعض فئات الشعب على الرصيف بل يجب ان يتقاسم الجميع كيكة السلطة. وادى ذلك الانفتاح الى تكوين حكومة الوحدة الوطنية وبالرغم من انها لا تمثل جميع اطياف الشعب السوداني إلاّ انها خطوة متقدمة ومازالت هذه الحكومة تفتح الباب على مصراعيه بل وتنشط في اجتماعاتها مع الاحزاب السودانية الاخرى للوصول إلى كلمة سواء استشعاراً لعظم المسؤولية بعد ان اتضح ان السودان يتربص به المتربصون والطامعون من اعداء الوطن وهذا يقتضي توحيد الكلمة وجمع الصفوف عملاً بقول الشاعر: تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسراً واذا افترقن تكسرت آحاداً. وبرز رجال من قادة حزب المؤتمر الوطني حباهم الله بالحكمة وافلحوا من خلال اتصالاتهم ولقاءاتهم بزعماء الاحزاب السياسية ان يكسروا الحواجز ويفسحوا المجال لاجتماعات روءساء هذه الاحزاب ويشعر المرء بالتقارب والانفتاح والاتفاق الوشيك. وكان احد قادة المؤتمر الوطني قد كلف بالاتصالات بالاحزاب السودانية الكبيرة في العديد من مناسباتها وادت حكمة هذا المسؤول الرفيع إلى اذابة الثلوج وتقريب وجهات النظر وانعقدت اجتماعات عديدة بين الرئيس البشير والصادق المهدي رئيس حزب الأمة. ومما يؤكد حصافة هذا القيادي انه كان في استقبال وفد المقدمة لعودة السيد محمد عثمان الميرغني من الخارج لأرض الوطن - وقال لهم ضمن ما قال في كلمته خلال حفل الاستقبال ان الحزب الوطني الاتحادي رقم مهم في الساحة السودانية ومثل هذا الكلام - وهو حقيقة - يستل السخائم ويمهد السبيل لمزيد من اللقاءات على أعلى المستويات واجراء محادثات الند للند. ومثل هذه الروح تنبيء عن رغبة صادقة لتقوية الجبهة الداخلية وتوحيد الصفوف وربما تؤدي الى تحالفات بين الاحزاب الكبرى - ولا غرو في ذلك فقد قادت حكمة السيدين عبد الرحمن المهدي زعيم طائفة الانصار وعلي الميرغني زعيم طائفة الختمية بالرغم مما كان بينهما في السابق من جفوة وفرقة وعداء أدى ذلك إلى تشكيل الحكومة الائتلافية والتي انقذت البلاد من الشتات والضياع والانزلاق إلى الفوضى عندما كانت تمر بمنعطف خطير في تاريخها. ومن الاحداث والمواقف التي تدل على تمتع اهل السودان بالحكمة - المشكلة التي اطلت برأسها غداة نيل استقلال السودان فقد كان هناك موقفان متباينات للقوى السياسية الكبرى في البلاد وهما الكتلة الاستقلالية التي ترفع شعار (السودان للسودانيين) وفي مقدمتها حزب الأمة وطائفة الانصار والكتلة الاتحادية التي تنادي بالاتحاد مع مصر وعلى رأسها حزب الوطني الاتحادي وطائفة الختمية وعندما حزب الأمر وتصاعدت المشكلة الخطيرة اتفق اهل السودان بجميع مشاربهم على كلمة سواء وهي اعلان استقلال السودان من داخل البرلمان. وبذلك امكن اجتياز تلك الفترة العصيبة وامكن تجنيب الوطن مغبة الانقسام والتشتت. واتفاقية السلام الشامل التي امكن تحقيقها في نيفاشا بكينيا في 9 يناير 2005 خير دليل ايضاً على حكمة اهل السودان فقد جلس ابناء الشمال والجنوب طيلة شهور عديدة يتحاورون ويتناقشون اخذاً ورداً وتقليباً للأمور وافلحوا من خلال حكمتهم في التغلب على الكثير من العقبات والصعاب عندما غلبوا المصلحة العليا للبلاد. وفي اعقاب توقيع اتفاقية السلام الشامل وتشكيل حكومة الوحدة الوطنية كانت هنالك بعض المشاكل المعلقة التي أدى الاختلاف حولها الى انسحاب ممثلي الحركة من حكومة الوحدة الوطنية، غير ان الحكمة عادت ايضاً لتلعب دورها حيث شكلت لجنة سداسية من حكماء قادة الحزبين لحل تلك المشاكل ولم يعد خافياً ان تلك اللجنة مارست الحكمة والصبر وامكنها في نهاية المطاف حل معظم المشاكل العالقة وعاد وزراء الحركة الشعبية الى حكومة الوحدة الوطنية. وارتفعت وقتذاك بعض الاصوات من جانب بعض المحسوبين على حزب المؤتمر حين وصفوا بعض المفاوضين في تلك اللجنة باللين وطالبوا بتعيين آخرين من المتشددين وفات على هؤلاء ان مثل هذه المفاوضات اخذ وعطاء أي انها تقتضي بعض التنازلات من الطرفين، واذا ما ركن المفاوضون الى التشدد فانه لا يمكن احراز اي تقدم ولا بد على كل متفاوض حصيف ان يضع في اعتباره ان ما لا يدرك جله لا يترك كله وفوق هذا وذاك فان الاحزاب التي تختار اقطابها لمثل هذه المفاوضات المهمة لا تختارهم خبط عشواء انما تختار من ترى انه القوي الامين. ونبتهل الى الله ان يلهم اهل السودان الحكمة التي ظلت منذ قرون تمارس على المستويات القاعدية في القرى وبين القبائل والمتمثلة في مجالس الصلح والجوديات وغير ذلك من الممارسات وان يفلح ساستنا في توحيد الصف السوداني وقد سعد شعبنا ببشريات ذلك التوحيد.