قرأ معظمكم نتائج الاستطلاع الذي شمل جميع دول العالم تقريبا، لتقصي مدى سعادة مواطني كل دولة، وجاء ترتيبنا ال «173»، ولم يأت بعدنا في الإحساس بالتعاسة سوى مواطني «15» دولة.. وكالة الأنباء الألمانية (دي. بي. إيه) كانت قد أجرت استطلاعا مشابها شمل «11» دولة عربية -لم يكن السودان من بينها - وتصدر قائمة السعداء العمانيون فالسعوديون فالقطريون .. بعبارة أخرى استبعدت الوكالة الألمانية عشر دول عربية (بصراحة لا أعرف هل زاد عدد الدول العربية على «12» خلال السنوات الأخيرة أم لا).. استبعدتها بمنطق ذلك الذي كان يوزع أوراقاً بيضاء خالية من الكتابة على الجمهور في الشارع، فاعتقله رجال الأمن، فسألهم لماذا تعتقلون شخصا يوزع ورقاً «فاضيا»، فقال له جماعة الأمن: يا خبيث أنت تريد ان تقول للناس إن المسألة لا تحتاج الى كتابة.. يعني الوكالة الالمانية رأت ان تعاسة شعوب الدول المستبعدة من الاستطلاع لا تحتاج الى البحث والتقصي،.. معايير السعادة في الاستطلاعين كانت مدى رضا الناس بحالهم من حيث مستوى المعيشة والإحساس بالأمان والاستقرار، إلخ. ومن المؤكد ان سودانيين شاركوا في الاستطلاع، وقدموا إفادات جعلت بلدنا السادس عشر عالميا في مجال البؤس والتعاسة.. ومن المؤكد ان هؤلاء خونة ومارقون وعملاء للاستعمار الأمريكي، الذي ظللنا نناضل ضده طوال نحو عشر سنوات بعد ان احتل شارع علي عبد اللطيف في عاصمتنا، وأقام فيه مستوطنة غير مسموح للسودانيين ان يهوِّبوا ناحيتها.. من المؤكد ان الجهة التي قامت بالاستطلاع تعمدت تقصي آراء الحاقدين من العمال والمتبطلين وصغار الموظفين وساكني الأحياء الشعبية.. حالة هؤلاء ميؤوس منها: ماذا يعرف شخص يسكن في الكلاكلة او سنار او زالنجي عن السعادة حتى يُسأل عنها؟.. بدلا من استطلاع آراء أشخاص يسكنون -مثلا- في المنشية، ذهبوا الى أناس لا يعرفون ما هي الكمونية.. وعوضا من استنطاق أهل الطائف، رصدوا وجهات نظر قوم لا يميزون بين القراصة والقطايف.. كان بإمكانهم معرفة آراء سكان حي كافوري، وتجاهُل من لا تتوافر عند عيالهم حتى كرة الدافوري. منذ أن قمت بتطبيع العلاقات مع السودان في عام 2003 زرت الخرطوم «21» مرة، بمتوسط ثلاث مرات في السنة، ولم ألمس أثرا للبؤس الوبائي،.. معظم الناس ضاحك، وتلتقي بصديق كان يفترض ان تقابله الليلة الفائتة، فيقول لك: أمبارح تعشينا بي حلاة بوش.. نص عمرك ضاع! يا ابن العم، جُل عمري ضاع رغم انني غادرت السودان في عصر ما قبل البوش.. أتكلم هنا بكل جدية: فعلا غالبية من التقي بهم في الخرطوم هاشين وباشين،.. هل تتوافر لديهم مقومات السعادة، من القوت الضروري والصحة الجيدة والاستقرار العائلي والإحساس بالأمن والأمان وصولا الى «القناعة»؟ أم أن قلوبهم «ماتت» ولم تعد المسألة «فارقة معهم»، بمنطق «الموت مع الجماعة عرس»؟ وهذه مقولة بليدة تنم عن تبلد الأحاسيس.. عندما كان جيلنا في مرحلة الشباب لم يكن هناك فقر واضح، لأن كل العائلات كانت متكافلة وتستر حال المعسر من أفرادها .. واليوم يردد الناس مقولات من قبيل: أخوك ذاتو ما تضمنو!! الله أكبر.. أضمن من إذاً؟ قادتنا السياسيين الذين يقولون إن النيل الأبيض سيجري باللبن كي يستحق اسمه بينما سيصبح النيل الأزرق عسلا مصفى لو أعطيناهم أصواتنا في الانتخابات؟ يفتح الله.