? ويتكرر الحدث المذهل.. فالصياد يحضر أربع سمكات أخرى ملونة غريبة الخلقة لمقر الملك وتقدم الطباخة الى وضعها في الطاجن فوق النار فينشق الحائط لتخرج منه فتاة فاتنة تخاطب السمك المقلي ويجيبها السمك فترمي به على الأرض فيتفحم ولا يكاد الملك يصدق ما يروى له ويريد أن يشهد التجربة بنفسه.. فيأمر الصياد بإحضار سمكات أخريات فيذهب الى ذات البركة العجيبة ويأتي منها بالسمك في الحال فيأمر الملك بأن يعطي الصياد أربعمائة دينار ويلتفت الى الوزير وقال له: - سو أنت السمك ها هنا قدامي، ففعل الوزير ووضع السمك فوق الطاجن على النار ومثلما حدث في المرات السابقة إذا بالحائط قد إنشق وخرج منه عبد أسود هذه المرة، في يده فرع شجرة خاطب السمك قائلاً: يا سمك هل أنت على العهد القديم مقيم فرفع السمك رأسه من الطاجن وقال: نعم.. نعم.. وأنشد هذا البيت: إن عدت عدنا وإن وافيت وافينا وإن هجرت فإنَّا قد تكافينا ثم أقبل العبد على الطاجن وقلبه بالفرع الذي في يده الى أن صار فحماً أسيود ثم ذهب العبد من حيث أتى.. هنا قال الملك هذا أمر لا يمكن السكوت عنه.. لابد أن هذا السمك له شأن غريب فأمر بإحضار الصياد.. فلما حضر قال له: من أين هذا السمك؟ قال الصياد من بركة بين أربعة جبال وراء هذا الجبل الذي بظاهر مدينتك، فالتفت الملك الى الصياد فقال له: مسيرة كم يوم؟ قال الصياد: يا مولانا السلطان مسيرة نصف ساعة، فتعجب السلطان وأمر بخروج العسكر فوراً مع الصياد فصار الصياد يلعن العفريت الذي كان دله على هذه البركة.. وساروا الى أن طلعوا الجبل ونزلوا منه الى بركة متسعة لم يروها مدة أعمارهم والسلطان وجميع العسكر يتعجبون من تلك البركة التي نظروها بين أربعة جبال والسمك فيها على أربعة ألوان أبيض وأحمر.. وأصفر وأزرق فوقف الملك متعجباً وقال للعسكر ولمن حضر: - هل أحد منكم رأى هذه البركة في هذا المكان؟ فقالوا: لا.. فقال الملك: والله لا أدخل مدينتي ولا أجلس على تحت ملكي حتى أعرف حقيقة هذه البركة وسمكها، ثم أمر بالنزول حول هذه الجبال فنزلوا، ثم دعا بالوزير وكان وزيراً خبيراً عاقلاً لبيباً عالماً بالأمور فلما حضر بين يديه قال له: إني أردت أن أعمل شيئاً فأخبرك به وذلك أنه خطر ببالي أن أنفرد بنفسي في هذه الليلة وأبحث عن خبر هذه البركة وسمكها فأجلس على باب خيمتي وقل للأمراء والوزراء والحجاب إن السلطان أمرني أن لا آذن لأحد في الدخول عليه ولا تعلم أحداً بقصدي.. فلم يقدر الوزير على مخالفته ثم أن الملك غيَّر حالته وتقلّد سيفه وإنسل من بينهم ومشى بقية ليله الى الصباح فلم يزل سائراً حتى اشتد عليه الحر فاستراح ثم مشى بقية يومه وليلته الثانية الى الصباح فلاح له سواد من بُعد ففرح وقال: لعلني أجد من يخبرني بقصة البركة وسمكها فلما قرب من السواد وجده قصراً مبنياً بالحجارة السود مصفحاً بالحديد ووجد أحد شقي بابه مفتوحاً والآخر مغلقاً ففرح الملك ووقف على الباب ودق دقاً لطيفاً فلم يسمع جواباً، فدق ثانية وثالثاً فلم يسمع جواباً، فدق رابعاً دقاً مزعجاً فلم يجبه أحد، فقال: لا شك أنه خالٍ.. فشجع نفسه ودخل من باب القصر الى دهليزه. ثم صرخ وقال: يا أهل القصر إني رجل غريب وعابر سبيل هل عندكم شئ من الزاد؟ فلم يسمع جواباً، فدخل من الدهليز الى وسط القصر فلم يجد فيه أحداً غير أنه مفروش وفي وسطه فسقية عليها أربعة سباع من الذهب الأحمر تلقي الماء من أفواهها كالدر والجواهر.. وتأسف حيث لم ير فيه أحد يستخبر منه عن تلك البركة والسمك والجبال والقصر ثم جلس بين الأبواب يتفكر وإذا بأنين من كبد حزين فسمعه يترنم بهذا الشعر: أخفيت ما ألقاه منك قد ظهر والنوم من عيني تبدل بالسهر ناديت وجداً قد تزايد بي الفكر يا وجد لا تبقي علىَّ ولا تذر ها مهجتي بين المشقة والخطر فلما سمع السطان ذلك الأنين نهض قائماً وقصد جهته فوجد ستراً مسبولاً على باب مجلس فرفعه فرأى خلف الستر شاباً جالساً على سرير مرتفع عن الأرض مقدار ذراع، وهو شاب مليح ولسان فصيح وجبين أزهر وخد أحمر وشامة على كرسي خده كترس من عنبر. ففرح به الملك حين رآه وسلم عليه والصبي جالس وعليه قباء حرير بطراز من ذهب لكن عليه أثر الحزن فرد السلام على الملك وقال له: يا سيدي أعذرني في عدم القيام. قال الملك: أيها الشاب أخبرني عن هذه البركة وعن سمكها الملون وعن هذا القصر وسبب وحدتك فيه وما سبب بكائك، فلما سمع الشاب هذا الكلام نزلت دموعه على خده وبكى بكاءً شديداً قال الملك: ما يبكيك أيها الشباب؟ قال كيف لا أبكي وهذه حالتي ومد يده الى أذياله فرفعها فإذا نصفه التحتاني إلى قدميه حجر ومن سرته الى شعر رأسه بشر. -يتبع-