أكتب هذا المقال بعد أقل من 24 ساعة على محاولة حركة العدل والمساواة اقتحام مدينة أم درمان ولا أقول الاستيلاء على السلطة لأسباب سأتطرق إليها.. فور أن بلغني أن هناك قوات قدمت من أطراف كردفان واجتاحت مناطق من ام درمان أيقنت ان تلك القوات هالكة مهما كانت نواياها، أو حتى لو افترضنا انها كانت تملك رصيدا كبيرا في الشارع.. والتسمية الصحيحة لما حدث في تقديري ليس المحاولة التخريبية او الانقلابية او المؤامرة الدنيئة بل المحاولة الانتحارية.. لا استطيع ان أفهم كيف عنَّ للدكتور خليل ابراهيم أنه قادر على غزو العاصمة واحتلالها واستيلاء حركته الاقليمية الجهوية على السلطة ببضع مئات او حتى آلاف من المليشيات مهما كان حسن تدريبها العسكري.. كان السيد الصادق المهدي محقا في رفض المقارنة بين محاولة خليل ابراهيم ومحاولة الجبهة الوطنية إسقاط نميري العام 1976 بمليشيات تلقت تدريبها في ليبيا واثيوبيا.. فقوات الجبهة لم تبدأ عملياتها بمحاولة اجتياح تبدأ من أطراف أي من المدن الثلاث بل كانت قوتها الضاربة قد تسللت سلفا الى قلب الخرطوم واستهدفت في ساعة الصفر المواقع الحيوية دون تعريض حياة المدنيين للخطر، ولولا تقاعس بعض من كان من المفترض ان يسندوا تحركات الشهيد البطل العميد محمد نور سعد لنجحت الحركة في اسقاط حكم نميري (وعند الاستاذ مضوي الترابي الخبر اليقين وتفاصيل من تخاذل ومن قام صوف).. وبذكاء شديد استطاع نظام نميري تأليب الرأي العام على القائمين بتلك المحاولة بتسميتها بحركة "المرتزقة" وكان المزاج الشعبي العام - ولا يزال- يرفض تسلل محاربين سودانيين من دول مجاورة مهما كان نبل او خبث مقاصدهم ولا أعرف اين هو الدكتور خليل رئيس حركة العدل والمساواة حاليا: هل هرب ام وقع في الأسر.. وعلى أي حال فإنني أود مخاطبته باقتضاب: المحاولة الانتحارية أضرت بالحركة ومركزك كقائد لها، حتى لو نجحت في قتل آلاف الأفراد من القوات النظامية.. ما هو مؤكد هو انك خسرت هيئة اركان حربك.. وخسرت أي تعاطف في الشارع السوداني لسبب بسيط وهو أنني مثلا حتى لو كنت أكرس وقتي كله لإسقاط الحكومة لن أرحب بأية جهة تجعل من شوارع الحي والمدينة ساحة للقتال للفوز بالسلطة عنوة.. الامام محمد احمد المهدي ولأنه كان ذا حس استراتيجي وعملياتي رفيع كان يعرف ان العافية درجات وعمل على استدراج الحكومة التركية الى معارك صغيرة بشروطه ثم بدأ يحتل قرى وبلدات صغيرة وكانت اكبر مغامرة اقدم عليها هي حصار الأبيض.. لاحظ حصار وليس اقتحام المدينة.. لو اقتحمها لما بقي فيها نفاخ النار ولانقلب الناس عليه بوصفه أشعل معارك في الأحياء السكنية يكون معظم ضحاياها بالضرورة من غير حاملي السلاح.. وبعد طول تأنٍ وصبر زحف على الخرطوم وحاصرها ولم يقتحمها إلا بعد ان ضمن النصر.. وأنت يا دكتور خليل وبدلا من تجرب حظك في كتم او حتى نيالا أردت احتلال الخرطوم "حتة واحدة"؟ وهب انك احتللتها.. ثم ماذا بعد؟ هل كنت تتوقع ان اهل الشمال والشرق والغرب والجنوب سيهللون لسقوط السلطة في يد منظمة مسلحة معظم اجندتها جهوية وعمادها عناصر ذات انتماءات قبلية معلومة؟ بعد كل الأزمات الكبيرة، تطير رؤوس كبيرة بسبب تقصيرها او قعودها او سوء إدارتها للموقف.. والرأي عندي في حال إفلاتك من الأسر يا دكتور خليل ان تستقيل قبل ان تقال .. دعك من الأذى الذي ألحقته بأم درمان وأهلها، تذكر فقط مسؤوليتك تجاه من كنت قائدهم وكيف انك قدتهم الى التهلكة.. والأمر الآخر: لو مد الله في أيامك في رئاسة الحركة لا تجعلها رهن مشيئة النظام التشادي.. شخصيا لا أصدق ان عناصر تشادية شاركت في المحاولة الانتحارية، ولكنني متأكد من ان كل العربات والاسبيرات وحتى البنزين وزوادة المحاربين تم شراؤها بأموال تشادية.. (وإلا من أين لك الامكانات لحشد مئات المركبات وتزويدها بالعتاد والمؤن؟)، ولا اتفق مع القائلين بان تشاد ارادت رد الجميل لحركة العدل والمساواة لوقفتها معها عندما دخلت قوات المعارضة التشادية انجمينا قبل أشهر قليلة فدعمت مجهودها لدخول الخرطوم.. بالعكس المسألة كانت ثأرية، فلأن حكومة تشاد تعتقد ان المعارضة ما كان لها ان تدخل انجمينا بدون سند من الحكومة السودانية فقد ارادت ان تأخذ بثأرها بإدخال معارضة سودانية الخرطوم.. واحدة بواحدة! وقبل د. خليل وجماعته ان يكونوا بيادق في اللعبة ودفعوا الثمن و"دفعونا" أيضا الثمن وسيدفع التشاديون فواتير ضخمة خلال الفترة المقبلة وتجوط المسألة أكثر. انتهت المؤامرة الغاشمة.. ولم يتبق لها سوى جيوب هاربة.. تتجول من مكان لآخر لتخفي نفسها بعد ان أفشلت قواتنا المسلحة وقوات الأمن والشرطة والشعب السوداني هذه المؤامرة الانتحارية، التي لم يستطع من خططوا لها تجرع كأس الهزيمة، بل لم يتوقعوا ان تُهزم هذه الفلول وتهرب مخلفة وراءها القتلى والجرحى والآليات الحديثة التي أحرقتها نيران أبطالنا الأشاوس. من الناحية العسكرية والأمنية.. نستطيع ان نقول إن المؤامرة انتهت.. إن كانت لها صفحة واحدة.. لكن قوة الصفعة التي وجهت للمتآمرين من القوة بحيث تجعلهم قد يفكرون في مغامرة ثانية، أي في صفحة ثانية من المؤامرة الدولية الكبرى. أقول مؤامرة دولية.. ولي من المنطق ما يجعلني أقول دولية بملء الفم.