يوم السبت 17/5/2008م خرجت صحيفة "نيويورك تايمز" الامريكية النافذة بعنوان في صفحتها الأولى يمكن ترجمته حرفيا:" السعوديون يسفهون بوش". المقال كان يتحدث عن زيارة الرئيس الأمريكي جورج بوش الى العاصمة السعودية، وهي الثانية في غضون خمسة أشهر. وما بين الزيارتين أستقبلت الرياض أيضا نائب الرئيس ديك تشيني ووزيرة الخارجية كوندوليسا رايس. والهدف من كل هذا النشاط حث السعودية على رفع إنتاجها النفطي بحجم يرى الأمريكان انه لا ينبغي أن يقل عن المليون برميل يوميا وذلك حتى يمكن إحداث تأثير في أسعار الوقود الداخلية التي أصبحت قضية سياسية من الدرجة الأولى. لكن السعودية أعلنت عن رفع لانتاجها بمقدار «300» ألف برميل يوميا فقط، وذلك إتساقا مع موقفها ان حجم الانتاج تحدده حاجة السوق لا الطلبات السياسية، ولتاكيد هذه النقطة أعلنت على لسان وزير النفط المهندس علي النعيمي ان الزيادة تم أقرارها وبدء العمل بها قبل اسبوع من زيارة بوش، أي ان الزيارة لم تؤثر باية صورة من الصور، ومن هنا جاء العنوان الذي اختارته "النيويورك تايمز" ويبدو مغايرا للإنطباع السائد عن العلاقة بين الجانبين خاصة في الجانب النفطي، حيث لعبت الشركات الأمريكية دورا أساسيا ومؤثرا في نمو وتطور صناعة النفط السعودية ومن ثم في علاقات البلدين وذلك حتى سيطرت السعودية بالكامل على شركة أرامكو في العام 1980 ومن ثم خرجت الشركات الأمريكية. حاولت تلك الشركات العودة مرة أخرى في إطار ما عرف بمبادرة الغاز، الا انه ورغم التوصل الى اتفاقيات مبدئية تم توقيعها بحضور الملك فهد وقتها، الا أن أرامكو التي كانت مكلفة بمتابعة التفاصيل تشددت في مفاوضاتها، الأمر الذي دفع الشركات الأمريكية الى الأنسحاب في نهاية الأمر، مما أدى الى إعادة طرح المشروعات بصيغ جديدة فازت بها شركات أوروبية وصينية وروسية وبدون أي حضور لأية شركة أمريكية، الأمر الذي يحدث لأول مرة. نجحت السعودية في بناء صناعة نفطية بطريقة جعلتها الملجأ الذي يمكن للعالم أن يتجه إليه لزيادة الامدادات اذ هي الدولة الوحيدة التي لديها طاقة إنتاجية فائضة تقارب المليوني برميل يوميا. والجدير بالذكر انها رغم انها الدولة الأخيرة التي سيطرت على صناعتها النفطية عبر أسلوب المشاركة المتدرج بدلا من صيغة التأميم المباشرة التي لجأت اليها العديد من الدول المنتجة في السبعينيات، الا انها تكاد الدولة الوحيدة الآن التي لم تفتح الباب أمام عودة للشركات الأجنبية في الميدان النفطي وذلك لأنه توافرت لديها المقدرة المالية لتمويل أي استثمارات ترغب فيها والحصول على التقنية اللازمة بدليل أنها بدأت في برنامج ضخم وأستثمار «90» مليار دولار لرفع طاقتها الانتاجية الى أكثر من «12» مليون برميل يوميا يكتمل العام المقبل. ولهذا يتقاطر إليها مسؤولو القطبية الوحيدة في العالم وتجد في نفسها الجرأة والمقدرة على صدهم. النفط ليس إحتكارا سعوديا، فهناك الكثير من الدول التي تملك احتياطيات نفطية ضخمة. وفي فترة من الفترات حاولت روسيا بوتين تقديم نفسها بديلا للنفط العربي والسعودي تحديدا ومصدرا مأمونا للأمدادات، لكن إنتاجها يشهد تراجعا متصلا منذ بداية هذا العام. فالطريقة التي تدير بها السعودية صناعتها النفطية وأهم من ذلك استنادها على إستقرار سياسي أعطاها تفردا ونفوذا على المسرح الدولي، وهو ما يحتاج السودان الى إستيعابه خاصة وهو مواجه بتوترات في علاقاته الاقليمية والدولية تعتبر إمتدادا وإستغلالا لمتاعبه الداخلية المستمرة منذ عقود. وبسبب عدم الاستقرار هذا أصبحت تشاد وهي دولة لعب السودان دوما دورا في تشكيل حكوماتها مصدر تهديد لأمنه. من الناحية الأخرى فإن الظروف الاقتصادية التي يمر بها العالم تعيد تركيز الأنظار على السودان بسبب موارده الطبيعية الهائلة التي توفر فرصة أخرى تضع قضايا التوافق والبناء الوطني والتنمية على المحك، فأما أن تقتنصها القوى السياسية بما يعيد وضع السودان على الخارطة دولة ذات ثقل واستقلالية وقبل ذلك دولة عاملة لصالح أبنائها أو أن تدخل عهد الوصاية بمختلف أشكالها. غزوة أم درمان التي قامت بها حركة العدل والمساواة أعادت الحديث عن الوفاق الوطني الى الواجهة، وهو ما صادف ترجمة له في إتفاق التراضي الأخير بين حزبي المؤتمر الوطني والأمة. تعبير "الهجمة" الذي استخدمه الامام الصادق المهدي لكسب القوى السياسية لصالح إتفاقه مع المؤتمر، يحتاج الى إعادة توجيه والبدء بخطوات جادة تعمل على اطفاء بؤر التوتر المشتعلة في أبيي ودارفور. وعلى حزب الأمة تحديدا عبئا اضافيا على الأقل من باب صلاته بالمنطقتين لاحتواء حالة الاستقطاب الحادة والعمل على تهيئة المناخ لعمل سياسي يستعيد المبادرة الى الأيدي السودانية. التاريخ لا يتم النظر اليه من باب الافتراض وماذا لو؟ لكن المرء لا يملك الا التساؤل عما كان يمكن أن تؤول إليه الأمور فيما اذا ظفر الرئيس السابق جعفر النميري بالصادق المهدي في تلك الأيام من يوليو 1976 وعقب غزوة الخرطوم التي قامت بها الجبهة الوطنية وقتها تحت قيادته؟ الاجابة ليست عسيرة وقدمتها دارفور نفسها في العقد الماضي. فعملية التمرد التي قادها داؤود يحى بولاد وحسمتها سلطات الانقاذ عسكريا لم تنه قضية دارفور، وأنما فتحت الباب الى ما نراه حاليا. ولعل هذه تكون نقطة البداية لمشروع التراضي وترجمة أحاديث الوحدة الى واقع.