القضايا والتطورات السياسية تتلاحق وتأخذ بالانفاس والاهتمام والمتابعة معاً، وتحتاج للملاحقة والتفسير، ولكن هنالك ما يستوجب الامساك بخيوط انقلاب «25» مايو1969م اذ ظهر أنه بعد «38» سنة الحاجة لمعرفة ملابساته، فهل هو انقلاب عسكري على غرار انقلاب «17» نوفمبر 1958م ام انه مؤامرة ام غفلة؟ هنالك مؤشرات تظهر بوضوح بثمة تآمر واستدراج من جانب الإتحاد السوفيتي تمثل في دعوته لقيادات الوحدات العسكرية لموسكو بحجة معاينة الأسلحة والمعدات التي تحتاجها لوحداتها العسكرية رغم وجود ملحق عسكري على مستوى عال من الكفاءة والمهنية العسكرية ولاحق السفير السوفيتي بالخرطوم المسؤولين في الحكومة السودانية حاثاً على وصول الوفد العسكري العالي للاتحاد السوفيتي في او قبل «24» مايو 1969، وقد تشكك وزير المالية والاقتصاد آنذاك الشريف حسين الهندي في مقاصد الدعوة وتوقيتها وطلب من مساعديه الاعتذار عن التصديق على الاعتمادات المالية بسفر وفد كبير بحجة الوضع المالي للبلاد، ولكن رئيس الوزراء ووزير المالية بالإنابة سارع في غيبة وزير المالية الهندي ووافق على سفر الوفد الى موسكو للوصول اليها صباح «25» مايو 1969م اي يوم الانقلاب ويجب التذكير ان التناول لا يتعلق بالنظام المايوي ولا برموزه العسكريين وخلفيتهم العسكرية والوطنية وإنما الملابسات التي احاطت بالانقلاب في «25» مايو 1969م. وكيف غاب عن العقل السياسي السوداني دوافع الدعوة السوفيتية للقيادات العليا للجيش السوداني برئاسة اللواء محمد ادريس عبدالله الى جانب من رأى وجود دور لمن كانوا يسمون «بمراكز القوى» في حكم الرئيس جمال عبدالناصر في مصر ولديهم صلات وثيقة مع موسكو وقد اطاح بهم لاحقاً الرئيس انور السادات. ثم كيف يمكن تفسير موقف رئيس الوزراء تجاه تقارير مباشرة نقلت اليه وجود تخطيط للاطاحة بالنظام الديمقراطي ولماذا تعامل معها بشكل سالب؟ ولماذا غاب الحراك السياسي من جانب الأحزاب وجبهة الهيئات للخروج السلمي والحيلولة دون تقدم خطواته العسكرية للأمام وقد كان واضحاً ان القيادات العسكرية في الاقاليم ظلت محايدة وفي ذاكرتها ثورة اكتوبر شراكة وتلاحم بين الجماهير والقيادة العامة، ولماذا الغلظة والقسوة في التعامل مع رئيس اول حكومة وطنية ورئيس مجلس السيادة ورئيس مجلس حكماء افريقيا الزعيم اسماعيل الازهري ومحاصرة منزله بالدبابات ثم نقله لسجن كوبر ومن كان صاحب القرار؟ ولماذا عدم المبالاة التي سادت شوارع العاصمة بوجه خاص؟.وانقل من المفكرة صورة ووقائع الوضع في 25 مايو 1969م، انطلقت المارشات في الصباح من اذاعة «هنا امدرمان» اذاع اللواء جعفر نميري البيان رقم (1) معلناً الاستيلاء على السلطة باسم القوات المسلحة، مشيراً الى أن السودان لم يشهد استقراراً منذ ان نال استقلاله في مطلع 1956م وأن التدهور والفساد سادا في البلاد. وان الحكومات الحزبية عجزت عن مواجهة الامبريالية والصهيونية وحماية حدود السودان واعلن عن تشكيل مجلس لقيادة الثورة برئاسته وتعيين السيد بابكر عوض الله رئيساً للوزراء والذي اعلن بدوره وضع السلطة كلها في ايدي العمال والمزارعين والجنود والمثقفين. وكان لافتاً للإنتباه في يوم 25 مايو 1969م ان الناس في العاصمة ظلوا يتحركون بهدوء ومشغولين بأمورهم وشؤونهم الخاصة، وأوضحت جولة قمنا بها (الفاتح التيجاني رحمه الله - وشخصي) أن غالبية الناس غير مكترثين ولا عابئين بما حدث وربما ان بعضهم وضع في حسبانه صعوبة قيام ضباط شباب بإنقلاب عسكري بعد ثورة 21 اكتوبر 1964م التي اطاحت بأقوى نظام عسكري بالمنطقة، وعدنا الى مكاتبنا في (جريدة الرأي العام) ووجدنا ان الاتصالات الهاتفية ما تزال مستمرة وعرفنا أن اجتماعاً عقد بعد العاشرة صباحاً في قبة المهدي بأم درمان حضره عدد من السياسيين للتشاور حول التطور الجديد وان هناك من نصحهم بالتصدي الفوري ووقف دوران عجلة الانقلاب. ولقد كان للسيد الصادق المهدي حتى تلك اللحظات حسابات وبإعتباره الاعلى صوتاً في معارضة حكومة السيد محمد احمد محجوب ومجلس السيادة وتمسكه بدعواه القضائية بعدم دستورية حل الجمعية التأسيسية. واتصلت بالسيد حسن عوض الله وزير الداخلية ونائب رئيس الوزراء بمنزله ونقل لي ان احداً لم يتصل به وتوجهت اليه في منزله ووجدته جالساً على مقعد في الحديقة وبجانبه حقيبته في انتظار اعتقاله وقلت له لماذا يتوقع نقله لكوبر او منزل الضيافة؟ وقد وجدت السيد محمد احمد محجوب في منزله، ورد بأنه عرف بمحاصرة الدبابات لمنزل الرئيس اسماعيل الازهري واعتقال بعض قيادات الحزب الاتحادي واثناء وجودي معه منتصف النهار 25 مايو جاءه ضابط بوليس وأدى التحية العسكرية ونقل اليه أمر اعتقاله وتحدث ل «لرأي العام» لأتلقى هاتفاً من الرائد فاروق حمد الله عضو مجلس القيادة ووزير الداخلية ناقلاً كلمات طيبة للقائه بوزارة الداخلية، وفعلت، واشهد له استقباله الودود الوقور وكلماته الطيبة في حق القيادات الوطنية ودورها في خدمة الوطن ، وسألته ان كان هذا رأيه فلماذا الاعتقالات؟ ولماذا الهجوم عليها ؟ ورد بأنها اجراءات مؤقتة وسألني عن رأي الشارع فجاء ردي حسبما رأيت وسمعت، فإن الناس يمارسون حياتهم بشكل عادي ولا ردود فعل لا بالقبول ولا بالرفض، وكان اهم ما قاله إنهم عازمون على وضع حل نهائي لمشكلة الجنوب، وفي اجتماع التحرير ب «الرأي العام » طرحنا رؤيتنا وفقاً لما سمعنا وشاهدنا ويأتي الجانب الأهم في شهادتي عضوي مجلس مايو الرائد ابو القاسم هاشم والرائد زين العابدين محمد احمد وهي جد خطيرة.