سألت"عبد الكريم الزين"، وهو عامل بناء متخصص في"صب الاسمنت"، عن كيفية اختياره للمهنة، وعن كيف يؤديها، لانني اعتقد، وبشكل جازم، بأن مهنتين في هذه الدنيا هما اصعب المهن على الاطلاق: خبز العيش امام الفرن، وصب الاسمنت، فهذه (شوشوة) في النار تقصر الاجل، وتلك عتالة ثقيلة، ما انزل الله بها من سلطان،وهرولة لا تتوقف، تعلو لها الانفاس.وكلي يقين بان من يمتهن هاتين المهنتين، يأكل من عرق جبينه بحق وحقيقة، ومن يقف على اوضاعهما، تفصيلا، وعن كثب، عليه ان يقول بصوت عالٍ: ما تتكلش بالساهل، على رأي الاشقاء في مصر. قال" الزين" ان مهنته فعلا صعبة، بكل ما تحمل الكلمة من معانٍ، ويعتقد ان الدخول الى هذه المهنة : صب الاسمنت صعب، فيما يرى ان الخروج اصعب. ويقول: كنت في امس الحاجة الى المصاريف لي ولاسرتي، وكان الخيار الوحيد امامي، في تلك اللحظة، هو ان ابحث عن عمل لاوفر من خلاله المصاريف، كان خيار العمل الوحيد المتاح امامي هو ان اعمل مع فريق"صبة"، فدخلت المجال قسرا، ومضيت في مضاربها حتى صرت خبيرا بها، وصارت هي قدري ومشواري الطويل، على ما يبدو. اكابده ويكابدني! اما الخروج فيكمن صعوبته، حسب رأي الزين، في ان هذا العمل بدني جسماني من الدرجة الاولى، يشد الاعصاب الى آخرها، حتى تستمرئ الاعصاب الشد ، فاي توقف عنه لايعني توقف الدخل وبداية «الفلس»، فحسب، وانما يعني، في المقام الاول البقاء في المنزل، والبقاء في المنزل يعني ارتخاء في الاعصاب، يصل في الغالب حدا لايستطيع معه الشخص النهوض من السرير لايام ولاسابيع وربما لاشهر. ويقول: كثيرا ما نقدم التنازلات في الاسعار، حيث نقوم- كفريق- بتخفيضها في سبيل ان يستمر عملنا، دون ان يحدث التوقف المميت لاعصابنا، ويشير الزين الى انه في عام من الاعوام لزم السرير لاكثر من" 25 "يوما، بسبب ارتخاء الاعصاب، نتيجة لتوقف عمله. على الارجح يعيش" الزين"هذه الايام فترة عطالة، يعاني الامرين: الفلس المدقع، وارتخاء مميت في الاعصاب، قد يلزم السرير او قد يخضع للعلاج عند الطبيب، وذلك نتيجة لحالة «الشلل» شبه التام، التي تضرب ساحات البناء والتشييد، بدون فرز: خاص وعام وشركات،على خلفية الارتفاع المستمر في اسعار الاسمنت، على الاثر فقد الآلاف مثل الزين العمل، وانضموا الى جحافل العطالة في بلادنا. فلا فائدة على ما يبدو...لن تنخفض اسعار الاسمنت في المدي الزمني القريب، ولا امل في ذلك في الافق القريب، الامل، فقط، في تعهدات وزير المالية التي اطلقها في لقاء مع القيادات الصحافية والاعلامية بعد توليه المنصب مباشرة، فقد اتفق الوزير مع الملاحظات التي أوردها الصحافيون بأن غلاء الاسمنت بات يحد من فاعلية مشروعات التنمية والتعمير، ونوه الى وجود زيادة في الطلب، وقال ان الحل يكمن في انشاء مصانع سودانية جديدة للاسمنت، وبشر بأن هناك" 6 "مصانع جديدة للاسمنت ستدخل دائرة الانتاج خلال العام 2009 م. والى ان يبلغ هذا الامل مراميه، وتدور ماكينات المصانع الجديدة، وتغرق الاسواق بالاسمنت السوداني، يظل الاضطراب هو ديدن ادارة توفير هذه السلعة المهمة، وبالتالي تظل اسعارها في عنان السماء، وستستمر حالة الشلل هذه. فالزيادات الحالية في اسعار السلعة جاءت، بعد ان قامت مصر، مطلع العام الحالي بوقف صادراتها من الاسمنت للسودان، فحدثت فجوة كبيرة في السلعة انعكست على اسعارها في الاسواق نارا حارقة، خاصة ان الاسمنت المصري هو ما يعتمد عليه السودان بشكل اقرب الى الكلي، لدرجة ان المواصفة المعتمدة للاسمنت الى وقت قريب كانت - فقط - تنطبق على الاسمنت المصري. امام المأزق طرحت الحكومة خيارات لمواجهة الشح من بينها استيراد السلعة من الهند وباكستان والاردن، ولكن وصول الكميات من تلك الدول، لم تقلل من حرارة السوق، وحدة الطلب، ومضت الاسعار سادرة في غيها، وارتفاعها، لان الكميات الجديدة من تلك الدول تأتي من مسافات بعيدة، بتكلفة ترحيل عالية، وبتكلفة تأمين عالية، وهناك كميات تصل من هذه البلدان الى المنافذ، خارج شروط المواصفات، فيضطر المورد الى اخضاعها للفحص في الداخل، بتكلفة جديدة، قبل السماح له بادخالها للاسواق. اخيرا،افرجت مصر عن صادراتها من الاسمنت للسودان، ولكن تم ربط الافراج باجراء احتكاري، اي"باتفاق بين الطرفين السوداني والمصري، بان تتم عملية التصديروالاستيراد عن طريق شركتين في مصر مقابل شركتين في السودان"، حسب تصريحات السفير المصري في الخرطوم، كما( تم فرض رسوم قدرها " 27 " دولاراً للطن، بواقع «10» دولارات تحصل من قبل الشركتين المحتكرتين للتصدير من مصر، و« 17» دولاراً للطن للشركتين المحتكرتين في السودان)، حسب تصريحات رئيس شعبة مواد البناء ، الذي اضاف:"هذا اضافة الى الفاتورة المستخرجة من المصنع بواقع «123» دولاراً للطن، وتوقع بذلك ان يحدث ارتفاع" خرافي في اسعار السلعة، فيما توقع البعض ان يصل سعر طن الاسمنت إلى اكثر من «1000» جنيه للطن، بعد اضافة"الرسوم المفروضة التي تصل إلى حدود «122» جنيهاًِ من رسوم موانئ ومواصفات ورسوم جمركية ووكالات. بهذا، يكتمل واقع جديد في سوق الاسمنت، وهو مرير،يتذوق طعمه المواطن مباشرة، لانه معطل لحركته وحياته، وهو غريب فرضه الاحتكار للسلعة، وفقاً للاتفاق السوداني المصري.الاحتكار فعل"حرام" في ظل سياسة التحرير الاقتصادي، ولكن الاتفاق جعله حلالا. لتحقيق ماذا؟ ولصالح من؟ ولمَنْ يجوز الاحتكار في سوق الاسمنت في خضم التحرير الاقتصاد، وهذه اسئلة ملحة. لا احد يدري، ولا احد يعلن، ولكن الحقيقة الماثلة، تتمثل في ان الخطوة قدمت ضربة جديدة لهذا السوق وهذه السلعة، وضربة قوية لكل خطة عامة او خاصة تنشد البناء والتعمير والتشييد، كما ان الخطوة من شأنها ان تفاقم المشكلات التي ترتبت على الزيادات المستمرة في اسعار السلعة: شركات خرجت من سوق المقاولات واخرى «مطالبة بالمليارات» وثالثة وقفت مكتوفة الايدي امام العروض التي تقدم لها لان الدخول فيها في الوقت الذي تتصاعد فيه الاسعار مغامرة لا تحمد عقباها. يقول اصحاب شركات لمقاولات ان الازمة وضعتهم امام ثلاثة خيارات:الاول اما ان يوقفوا العمل وينتظرون حتى تنخفض الاسعار وفي هذه الحالة مالك العقار لايرحم، والثاني: ان يواصلوا العمل بالخسارة، والثالث ان يدخوا مع اصحاب العقارات في تعاقدات جديدة، وهذا يدخل في باب التعقيدات والجرجرة، ربما امام المحاكم... ثم هناك "الزين" ومعه الاف من عمال البناء والتشييد، سينتظرون - طويلا - على رصيف العطالة، الى ان يتدفق الاسمنت السوداني الجديد الذي بشر به وزير المالية، ربما. لقد عبر وزير التجارة الخارجية عن دهشته لاصرار رجال الأعمال السودانيين على الاستيراد من مصر، التى تعانى هى الأخرى من فجوه داخلية فى سلعة الاسمنت والتزمت بمنح السوق السودانية «150» الف طن، فقط، في الشهر. ولا ارى للدهشة مكاناً في الاعراب، إلاَّ اعراب الاحتكار، ان صح التعبير، لانه دعا رجال الأعمال السودانيين ومستوردي الأسمنت لفتح اعتماداتهم واستيراد الأسمنت المطابق للمواصفة الجديدة من كل الدول، ولاشك ان مصر تدخل في قائمة"كل الدول" هذه، اي من حق التجار ان يتنافسوا في الحصة المحددة من مصر للسودان، وبعد ان تنتهي، ينتقلون بالمنافسة الحرة الى دولة اخرى، او دولا اخرى، أليست هذه شريعة التحرير الاقتصادي؟!.